الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثلاث [ة] دراهم فتنقّلت به على شربك في ثلاث ليال، فإنّك تجد فيه بغيتك، واتّق الله في نفسك ولا تسرف فيها ولا تجاوز ما ذكرت لك. فلهي عنه أيّاما. فبينما هو جالس على شرابه إذ ذكره فقال: عليّ بلحم السبع الساعة! فأخرج له سبع من الجبّ وذبح من ساعته ثمّ أغلي له منه بالخلّ كما وصف له، ثمّ قدّم له فأخذ يتنقّل به على شرابه ولم يقبل وصيّة الطبيب في عدم الإسراف. وأتت عليه الأيّام والليالي فسقي بطنه فجمع له الأطبّاء فأجمع رأيهم على أنّه لا دواء له إلّا أن يسجر له تنّور بحطب الزيتون ويسخن حتى يمتلئ جمرا فإذا امتلأ يكسح ما في جوفه فألقي على ظهره وحشي جوفه بالرطبة (1) ويقعد فيه ثلاث ساعات من النهار، فإن استسقى ماء لم يسق، فإذا مضت ثلاث ساعات كوامل به، فإذا أصابه الروح وجد لذلك وجعا شديدا وطلب أن يردّ إلى التنّور فيترك على حاله ولا يردّ إلى التنّور حتى تمضي ساعتان من النهار، فإذا مضت ساعتان من النهار جرى ذلك الماء وخرج من مخارج البول، وإن بقي ماء أو ردّ إلى التنّور كان تلفه فيه.
فأمر بتنّور فاتخذ له وسجر بحطب الزيتون ثمّ أخرج ما فيه وجعل على ظهره وحشي بالرطبة وعرّي وأجلس فيه، وأقبل يصيح ويستغيث ويقول: أحرقتموني! اسقوني ماء وقد وكّل به من يمنعه من الماء ولا يمكّن من القيام من الموضع الذي أقعد فيه ولا يتحرّك. فنفط بدنه كلّه فصارت فيه نفاخات مثل أكر البطيخ. فترك على حاله حتّى مضت ثلاث ساعات من النهار [8 أ] ثمّ أخرج وقد كاد يحترق أو يقول القائل في رأي العين: قد احترق. فأجلسه المتطبّبون، فلمّا وجد روح الهواء اشتدّ به الوجع وأقبل يصيح ويخور خوار
الثور ويقول: ردّوني إلى التنّور فإنّي إن لم أردّ متّ.
واجتمع نساؤه وخواصّه لما رأوا به من كثرة الألم والصياح ورجوا أن يكون فرجه في الردّ إلى التنّور فردّوه فلمّا وجد مسّ النار سكن صياحه وتفطّرت النفاخات التي كانت خرجت ببدنه وخمدت، وبرد في جوف التنّور فأخرج وقد احترق وصار أسود كالفحم، فلم تمض له ساعة حتّى قضى (2).
فأنا أتعجّب من أنّه لم يدع أحد منهم على نفسه تلك الساعة بدعاء إلّا استجاب الله له في نفسه.
فصل في ذكر مرضه ووفاته
قال صالح: لمّا كان في أوّل يوم من شهر ربيع الأوّل سنة إحدى وأربعين ومائتين حمّ أبي.
فدخلت عليه وهو محموم يتنفّس نفسا شديدا فقلت: على م أفطرت البارحة؟ فقال: على ماء باقلّاء. ثمّ أراد القيام. فقال: خذ بيدي فأخذت بيده، فلمّا صار إلى الخلاء ضعف حتّى توكّأ عليّ. وكان يختلف إليه غير متطبّب كلّهم مسلمون. فوصف له متطبّب قرعة تشوى ويسقى ماءها فقال: يا صالح! قلت: لبّيك! قال: لا تشوى في منزلك ولا في منزل عبد الله أخيك.
وأتى الفتح بن سهل وعليّ بن الجعد فحجبتهما، وكثر الناس. قال: فأيّ شيء ترى؟ قلت: تأذن لهم فيدعون لك. فأذنّا لهم فجعلوا يدخلون عليه أفواجا حتّى تمتلئ الدار وكثر الناس وامتلأ الشارع وأغلقنا باب الزقاق. وجاء رجل من جيراننا قد خضب فقال: إنّي لأرى الرجل يحيي
(1) الرطبة: نبتة من الزهريّات سريعة النموّ.
(2)
علّق الذهبيّ على هذه الرواية العجيبة فقال 11/ 295:
راويها لا أعرفه. ولم نجد في مراجعنا مسعر بن محمد بن وهب، ولا المسعريّ محمد بن وهب.
شيئا من السنّة (1) فافرح به. فجعل الرجل يدعو له فيقول أبي: ولجميع المسلمين. ثمّ قال لي:
اقبض من السكّان دراهم واشتر تمرا وكفّر عنّي كفّارة يمين فاشتريت وكفّرت؟ وأخبرته.
فقال: الحمد لله.
قلت: وزاد الدينوري في كتاب المجالسة (2) أنّ الإمام أحمد قال: فإنّي حنثت في دهري في يمين واحدة- ثمّ قال لي: أحضر الوصيّة واقرأها- وكان كتبها قبل ذلك- فقرأتها فأقرّها على ما هي عليه، ونسخة كتاب الوصيّة:
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا ما أوصى به أحمد بن حنبل رضي الله عنه:
أنّه يشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وأنّ محمّدا رسول الله أرسله بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة: 33]، وأوصى من أطاعه من أهله وأقاربه أن يعبدوا الله في العابدين ويحمدوه في الحامدين وأن ينصحوا لجماعة المسلمين.
وأوصي أنّي قد رضيت بالله ربّا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيّا ورسولا، وبالإسلام دينا.
وأوصي أنّ لعبد الله بن محمد المعروف بفودان عليّ نحو (ا) من خمسين دينارا وهو مصدّق فيما قال فيقضى ما له عليّ من غلّة الدار إن شاء الله، فإذا استوفي أعطي ولد (هـ) صالح وعبد الله كلّ ذكر وأنثى عشرة دراهم عشرة دراهم، اه (3).
(قال) واشتدّت به العلّة يوم الخميس فلمّا كان يوم الجمعة اجتمع الناس حتّى ملئوا السكك والشوارع. قال حنبل: وكان عنده ثلاث شعرات من شعر النبيّ صلى الله عليه وسلم فأوصى عند موته أن يجعل على لسانه شعرة وعلى كلّ عين شعرة، ففعل به ذلك عند موته.
قال ولده عبد الله: قال لي أبي في مرضه الذي توفّي فيه: أخرج لي كتاب عبد الله بن باديس، فأخرجت الكتاب، فقال: أخرج أحاديث ليث بن أبي سليم (4) فأخرجتها. فقال لي: اقرأ عليّ حديث ليث: قلت لطلحة إنّ طاوسا كان يكره الأنين في المرض فما سمع له أنين حتى مات رحمه الله. فقرأت ذلك على أبي فما سمعته أنّ في مرضه إلى أن توفّي.
قلت: وأسند الدينوري في كتاب المجالسة عن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: لمّا مرض أبي واشتدّ مرضه ما أنّ، فقيل له في ذلك فقال: بلغني عن طاوس أنّه قال: أنين المريض شكوى الله عز وجل. قال عبد الله: فما أنّ حتّى مات.
وقال عبد الله: لمّا حضرت أبي الوفاة جلست عنده وبيدي خرقة أشدّ بها لحييه فجعل يغرق (5) ثمّ يفيق ثمّ يفتح عينيه بيده- هكذا- ويقول: لا بعد! ثلاث مرّات. فلمّا كان في الثالثة قلت له: يا أبت، أيّ شيء هذا؟ قال: ما هو؟ قلت: الذي قد لهجت به في هذا الوقت: تعترق حتى نقول: قد قضيت
- ولدي فيكون أعطي بالمعلوم وبالإسناد إلى الموصي.
(1)
أي: يخضب بالحنّاء كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يفعل.
(2)
كتاب المجالسة في الحديث للدينوري أحمد بن مروان (ت 310): الزركلي 1/ 241.
(3)
في البداية والنهاية 10/ 341:
…
أعطي ولد صالح كلّ ذكر وأنثى عشرة دراهم. وفي المخطوط: ولدي ولعلّها-
(4)
ليث بن أبي سليم (ت 138): أعلام النبلاء 6/ 179 (84). وطاوس بن كيسان (ت 106) أعلام النبلاء 5/ 38 (13)، وحديث ليث جاء بلفظ مغاير وغير منسوب إلى طاوس في ص 47.
(5)
غرق بوزن فرح: أغمي عليه، ولم نجدها في اللسان، وعند دوزي: فهو تارة يفيق وتارة يستغرق.