الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لجهلة العوامّ وأهل المراء، وما أفتى به آخرا في مسألتي الزيارة والطلاق، وإذاعته لهما حتى تكلّم فيهما من لا دين له ولا خلاق، فسلّط وبال الأعداء على سليطه، وأطلق أيدي الاعتداء في تفريطه، ولقّم نارهم سعفه، وأرى أقساطهم شرفه. فلم يزل إلى أن مات عرضه منهوبا وعرضه موهوبا، وصفاته تتصدّع ورفاته لا تتجمّع. ولعلّ هذا لخير أريد به وأريغ له بحسن منقلبه. وكان تعمّده للخلاف وتقصّده لغير طريق الأسلاف، وتقويته للمسائل الضعاف، وتعويضه عن رءوس السعاف (1) تغيّر مكانته من خاطر السلطان، وتسبّب له التغرّب عن الأوطان، وتنفذ إليه سهام الألسنة الرواشق، ورماح الطعن في يد كلّ ماشق.
فلهذا لم يزل منغّصا عليه طول مدّته، لا تكاد تنفرج عنه جوانب شدّته.
هذا مع ما جمع من الورع، وإلى ما فيه من العلى، وما حازه بحذافير الوجود من الجود:
كانت تأتيه القناطير المقنطرة من الذهب والفضّة، والخيل المسوّمة والأنعام والحرث، فيهبه بأجمعه، ويضعه عند أهل الحاجة في موضعه، لا يأخذ منه شيئا إلّا ليهبه ولا يحفظه إلّا ليذهبه كلّه في سبيل البرّ وطريق أهل التواضع لا أهل الكبر.
لم يمل به حبّ الشهوات ولا حبّب إليه من صلات الدنيا غير الصلاة. ولقد نافست ملوك جانكيز خان عليه، ووجّهت دسائس رسلها إليه، وبعثت تجدّ في طلبه، فنوسيت عليه لأمور أعظمها خوف توثّبه. وما زال على هذا ومثله إلى أن صرعه أجله، وأتاه بشير الجنّة يستعجله، فانتقل إلى الله، والظنّ به أنّه لا يخجله.
(قال) وحكي عن شجاعته في مواقف الحرب
نوبة شقحب، ونوبة كسروان، ما لم يسمع إلّا عن صناديد الرجال، وأبطال اللقاء، وأحلاس الحرب، تارة يباشر القتال وتارة يحرّض عليه.
(قال) وكان يجيئه من المال في كلّ سنة ما لا يكاد يحصى فينفقه جميعه آلافا ومئين، ولا يلمس منه درهما ولا ينفقه في حاجة له. وكان يعود المرضى، ويشيّع الجنائز، ويقوم بحقوق الناس، ويتألّف القلوب، ولا ينسب إلى باحث لديه مذهبا، ولا يحفظ لمتكلّم عنده زلّة، ولا يتشهّى طعاما ولا يمتنع عن شيء منه، بل هو مع ما حضر لا يتجهّم مرآه، ولا يتكدّر صفوه ولا يسأم عفوه، (قال) ورئيت له منامات صالحة.
[رثاء ابن فضل الله له]:
ورثاه جماعات من الناس بالشام ومصر والعراق والحجاز والعرب من آل فضل.
(قال) ورثيته بقصيدة لي، وهي [البسيط]:
[101 ب] أهكذا بالدياجي يحجب القمر
…
ويحبس النوء حتى يذهب المطر؟
أهكذا تمنع الشمس المنيرة عن
…
منافع الأرض أحيانا فتستتر؟
أهكذا الدهر ليلا كلّه أبدا
…
فليس يعرف في أوقاته سحر؟
أهكذا السيف لا تمضي مضاربه
…
والسيف في الفتك ما في عزمه خور؟
أهكذا القوس ترمي بالعراء وما
…
تصمي الرمايا وما في باعها قصر (2)؟
أهكذا يترك البحر الخضم ولا
…
يلوى عليه، وفي أصدافه الدّرر؟
أهكذا بتقيّ الدين قد عبثت
…
أيدي العدى وتعدّى نحوه الضرر؟
(1) قراءة ظنيّة ولم نفهم المقصود.
(2)
أصمى الرامي الصيد: قتله مكانه.
ألابن تيميّة ترمى سهام أذى
…
من الأنام ويدمى الناب والظفر؟
بذّ السوابق ممتدّ العبادة لا
…
يناله ملل فيها ولا ضجر
ولم يكن مثله بعد الصحابة في
…
علم عظيم وزهد ما له خطر
طريقه كان يمشي قبل مشيته
…
بها أبو بكر الصدّيق أو عمر
فرد المذاهب في أقوال أربعة
…
جاءوا على أثر السّبّاق وابتدروا
لمّا بنوا قبله عليا مذاهبهم
…
بنى وعمّر منها مثل ما عمروا
مثل الأئمّة قد أحيا زمانهم
…
كأنّه كان فيهم وهو منتظر
إن يرفعوهم جميعا رفع مبتدإ
…
فحقّه الرفع أيضا إنّه خبر (1)
أمثله بينكم يلفى بمضيعة
…
حتّى يطيح له عمدا دم هدر (2)
يكون وهو أمانيّ لغيركم
…
تنوبه منكم الأحداث والغير
والله لو أنّه في غير أرضكم
…
لكان منكم على أبوابه زمر
مثل ابن تيميّة ينسى بمحبسه
…
حتى يموت ولم يكحل به بصر
مثل ابن تيميّة ترضى حواسده
…
بحبسه ولكم في حبسه عذر
مثل ابن تيميّة في السجن معتقل
…
والسجن كالغمد وهو الصارم الذّكر
مثل ابن تيميّة يرمى بكلّ أذى
…
وليس يجلى قذى منه ولا نظر
مثل ابن تيميّة تذوي خمائله
…
وليس يلقط من أفنانه الزهر
مثل ابن تيميّة شمس تغيب سدى
…
وما ترقّ لها الآصال والبكر
مثل ابن تيميّة يمضي وما عتقت
…
بمسكه العاطر الأردان والطرر!
مثل ابن تيمية يمضي وما نهلت
…
له سيوف ولا خطيّة سمر
ولا تجارى له خيل مسوّمة
…
وجوه فرسانها الأوضاح والغرر
ولا تحفّ به الأبطال دائرة
…
كأنهم أنجم في وسطها قمر
ولا تعبّس حرب في مواقفه
…
يوما ويضحك في أرجائه الظّفر
حتّى يقوّم هذا الدين من ميل
…
ويستقيم على منهاجه البشر
بل هكذا السلف الأبرار ما برحوا
…
يبلى اصطبارهم جهدا وهم صبر
[102 أ] تأسّ بالأنبياء الطّهر كم بلغت
…
فيهم مضرّة أقوام وكم هجروا
في يوسف في دخول السجن منقبة
…
لمن يكابد ما يلقى ويصطبر
ما أهملوا أبدا، بل أمهلوا لمدى
…
والله يعقب تأييدا وينتصر
أيذهب المنهل الصافي وما نقعت
…
به الظماء ويبقى الحمأة الكدر (3)؟
مضى حميدا ولم يعلق به وضر
…
وكلّهم وضر في الناس أو وذر (4)
(1) تورية بالرفع، وهو من خيال النحاة.
(2)
طاح هنا في معنى ضاع.
(3)
نقع بالماء: روي. والظماء ج الظامئ، والحمأة: الطين الأسود.
(4)
الوذر: اللحم المقطّع. والوضر: الوسخ.
طود من الحلم لا ترقى له قنن
…
كأنّما الطود من أحجاره حجر (1)
بحر من العلم قد فاضت بقيّته
…
فغاضت الأبحر العظمى وما شعروا
يا ليت شعري هل في الحاسدين له
…
نظيره في جميع القوم إن ذكروا
هل فيهم لحديث المصطفى أحد
…
يميّز النقد أو يروى له خبر؟
هل فيهم من يضمّ البحث في نظر
…
أو مثله من يضمّ البحث والنظر؟
هلّا جمعتم له من قومكم ملأ
…
كفعل فرعون مع موسى لتعتبروا؟
قولوا لهم: قال هذا فابحثوا معه
…
قدّامنا وانظروا الجهّال إن قدروا
تلقي الأباطيل أسحار لها دهش
…
فيلقف الحقّ ما قالوا وما سحروا
فليتهم مثل ذاك الرهط من ملإ
…
حتى يكون لكم في شأنه عبر
وليتهم أذعنوا للحقّ مثلهم
…
فآمنوا كلّهم من بعد ما كفروا
يا طالما نفروا عنه مجانبة
…
وليتهم نفعوا في الضيم أو نفروا
هل فيهم صادح بالحقّ مقوله
…
أو خائض للوغى والحرب تستعر؟
رمى إلى نحر غازان مواجهة
…
سهامه من دعاء عونه القدر (2)
بتلّ راهط والأعداء قد غلبوا
…
على الشآم وطار الشرّ والشرر
وشقّ في المرج والأسياف مسلطة
…
طوائف كلّها أو بعضها التتر (3)
هذا وأعداؤه في الدور أشجعهم
…
مثل النساء بظلّ الباب مستتر
وبعدها كسروان والجبال وقد
…
أقام أطوادها والطود منفطر (4)
واستحصد القوم بالأسياف جهدهم
…
وطالما بطلوا طغوى وما بطروا
قالوا: قبرناه، قلنا: إنّ ذا عجب
…
حقّا أالكوكب الدرّيّ قد قبروا؟
وليس يذهب معنى منه متّقد
…
وإنّما تذهب الأجسام والصور
لم يبكه ندما من لا يصبّ دما
…
تجري به ديما تهمي وتنهمر
لهفي عليك أبا العبّاس كم كرم
…
لمّا قضيت قضى من عمره العمر
سقى ثراك من الوسميّ صيّبه
…
وزان مغناك قطر كلّه قطر (5)
ولا يزال له برق يغازله
…
حلو المراشف في أجفانه حور
لفقد مثلك يا من ما له مثل
…
تأسى المحاريب والآيات والسور
Kathir B.E.O.1934 ،vol.IX ،122.-
(1)
لعلّه يعني: الجبل حجرة من حجر ابن تيميّة، ولا وجه لتشبيه عقله أو خصاله بالحجر، ولو الكريم.
(2)
إشارة إلى سفارة ابن تيميّة عن أهل دمشق إلى ملك التتار القان غازان في ربيع الأوّل سنة 699، وقد أطال مترجموه في وصف جرأته على الملك المغولي. وانظر ما كتبه لاووست تعليقا على ترجمة ابن كثير له:
- H.Laoust: Une biographie d I.T.dapres Ibn
(3)
إشارة إلى انضمام ابن تيميّة إلى الجيش السلطانيّ الخارج لقتال التتر في وقعة شقحب قرب مستنقعات المرج، مرج راهط، في رمضان 702. وقد أفتى الشيخ للمجاهدين بجواز قطع الصيام. وانظر لاووست ص 131.
(4)
إشادة بقتاله لدرزيّة جبل كسروان في ذي الحجّة 704 - انظر لاووست 134.
(5)
القطر: المطر. والقطر والقطار: الجماعة المتتابعة من الإبل أو الناس، ولعله المقصود. والقطر بضمّتين عود البخور.