الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إليه برذونين، ثم اتركه مدّة وادفع إليه برذونين!
فضحك أحمد وأطلق له مؤونة البراذين.
وكان يركب بنفسه في كلّ جمعة ويتفقّد خزائن المارستان وما فيها والأطبّاء وينظر في المرضى وسائر الأعلّاء والمحبوسين من المجانين.
[فراسته]:
وكانت له فراسة صادقة. منها أنّه رأى رجلا في جملة النّاس فقال: ائتوني بهذا!
فأتي به فقال: أنت جاسوس! - وأمر بتقريره فأقرّ فساقه إلى السجن. فسئل: كيف عرفته؟
فقال: رأيته متّكئا وقد تدلّى من مئزره تكّة حرير أرمنيّ- ففتّشوه فوجدوه كما قال.
ونظر مرّة في البنّائين وقال: ائتوني بذلك!
فلمّا جاءه قال: أنت جاسوس!
فأنكر فعاقبه فأقرّ. فقيل: بم عرفته أيّها الأمير؟
قال: كلّما حمل قصريّة جير عاد إلى الماء وغسل يديه، فعلمت أنّه متصنّع وأنّ هذا ليس من عمله.
ولمّا بنى الجامع رأى الصنّاع يبنون إلى العشاء، وكان في شهر رمضان. فقال:[متى] يشتري هؤلاء إفطارهم لأنفسهم ولعيالهم وأولادهم؟ - وأمر بانصرافهم من وقت العصر.
فلمّا انقضى شهر رمضان، قيل له: قد انقضى الصوم، ويعودون إلى رسمهم من العمل إلى المغرب.
فقال: قد بلغني دعاؤهم وتبرّكت به. وليس هذا ممّا يوفّر علينا شيئا.
وصار هذا سنّة من بعده لمصر.
ولمّا فرغ من بناء الجامع تقرّب الناس إليه بالصلاة فيه. فصلّى فيه بكّار بن قتيبة القاضي.
وعمل الربيع بن سليمان بابا فيما روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من قوله: من بنى مسجدا، ولو كمفحص قطاة، بنى الله له بيتا في الجنّة.
فلمّا كان أوّل جمعة صلّاها أحمد بن طولون فيه وفرغت الصلاة، جلس الربيع خارج المقصورة، وقام المستملي بين يديه، وفتح باب المقصورة، وأحمد بن طولون جالس، وغلمانه قيام وسائر الحجّاب حتّى فرغ المجلس. فتقدّم إلى الربيع غلام بكيس فيه ألف دينار وقال: يقول لك الأمير: نفعك الله بما علّمك! وهذه لابنك أبي طاهر.
[مواجهته للموفّق]:
وكان قد زاد البعد فيما بينه وبين أبي أحمد طلحة الموفّق بالله: وذلك أنّ أمير المؤمنين المعتمد على الله أبا العبّاس أحمد ابن المتوكّل جعل أخاه الموفّق وليّ عهده من بعد المفوّض لله ابن المعتمد. وجعل غرب المملكة للمفوّض وشرقها للموفّق، وحلّفهما على ذلك. وكان الموفّق يحسد أخاه المعتمد ولا يراه أهلا للخلافة.
فشقّ عليه تقديم المفوّض في العهد. وتشاغل المعتمد بكثرة اللعب حتّى اختلّت المملكة وانفرد كلّ عامل بما يتقلّده.
وكان فيما كتب بين الموفّق والمفوّض أنّه ما حدث في عمل كلّ منهما من حدث كانت النفقة عليه من مال الخراج قسمة. فاستخلف المفوّض على قسمه موسى بن بغا. وانفرد الموفّق بقسمه.
وتقدّم إلى كلّ منهما ألّا ينظر في عمل صاحبه [91 أ]. وأفرد الموفّق لمحاربة [عليّ بن محمّد] صاحب الزنج [المعروف بعلويّ البصرة] وأخرج لمحاربته. فلمّا كبر أمره وطالت مدّة محاربته انقطع [ت] موادّ [خراج] الشرق عن الموفّق، وتقاعد الناس عن حمل المال. فدعت الضرورة
الموفّق أن كتب إلى أحمد بن طولون في حمل مال يستعين به- هذا ومصر ليست من عمل الموفّق، وإنّما هي من عمل المفوّض وخليفته موسى بن بغا- إلّا أنّه شكا في كتابه إلى ابن طولون شدّة حاجته إلى المال فيما هو بسبيله. وبعث بحمل المال من مصر نحريرا خادم المتوكّل. فورد في عقب كتاب الموفّق كتاب أمير المؤمنين المعتمد يأمر فيه ابن طولون بحمل المال إليه على رسمه مع ما جرى الرسم بحمله مع المال في كلّ سنة من طراز تنيس ودمياط والقيس والبهنسا، ومن الرقيق والخيل والشمع وغيره. وكتب سرّا: إنّ الموفّق لم ينفذ نحريرا إليك إلّا عينا عليك ليستقصي أخبارك، وقد كتب إلى عدّة من أصحابك، فاحترس منه واحمل المال إلينا [لئلّا] تقوى يد الموفّق به، وعجّل إنفاذه.
فاحترس ابن طولون على نحرير ومنعه من الركوب، ولم يمكّنه من الخروج من داره إلى أن أخرجه من مصر، وتلطّف حتّى أخذ منه ما معه من الكتب، وسيّر معه ألف ألف دينار، ومائتي ألف دينار، مع ما جرى به الرسم في الحمل. وسار معه حتّى أوصله إلى العريش وسلّمه بما معه إلى ماجور صاحب دمشق. وأشهد عليه بذلك العدول الذين أخرجهم معه من مصر، وعاد.
فنظر في الكتب، فإذا هي لجماعة من قوّاده يضرّبهم الموفّق عليه ويستميلهم عنه إليه. فقبض على أرباب الكتب وعاقبهم حتّى هلكوا. فلمّا وصل المال إلى الموفّق استقلّه، وكتب إلى ابن طولون يقول إنّ الحساب يوجب أضعاف هذا المال- وبسط لسانه، والتمس فيمن معه من يقلّده مصر عوضا عن ابن طولون. فلم يوافقه أحد على ولاية مصر لكثرة مداراة ابن طولون وحسن تلطّفه بوجوه أهل الدولة.
ولمّا وقف على كتاب الموفّق قال: وأيّ حساب بيني وبينه؟ أو حال توجب مكاتبتي بهذا؟ - وكتب إليه (1): وصل كتاب الأمير أيّده الله وفهمته. وكان- أسعده الله- حقيقا بحسن التخيّر له في اختياره مثلي، وتصييره إيّاي عمدته التي يعتمد عليها، وسيفه الذي يصول به، وسنانه الذي يتّقي الأعداء بحدّه، لأني دأبت في ذلك، وجعلته وكدي، واحتملت الكلف العظام، والمؤن الثقال لاستخدام كلّ موصوف بشجاعة واستدعاء كلّ منعوت بغناء وكفاية، بالتوسعة عليهم وتواصل الصلات والمعاون لهم، صيانة لهذه الدولة، وذبّا عنها، وحسما لأطماع الشانئين لها، والمنحرفين عنها. فكان من هذه سبيله في الموالاة ومحلّه في المصانعة حريّا أن يعرف له حقّه، ويوفّر من الإعظام قدره، ومن كلّ حال جليلة حظّه ومنزلته.
فعوملت بضدّ ذلك من المطالبة بعمل ما أمر به، وجفاء في المخاطبة، بغير حال توجب ذلك. ثم أكلّف على الطاعة جعلا، وألزم في المناصحة ثمنا! وعهدي بمن استدعى ما استدعاه الأمير من طاعته أن يستدعيه بالبرّ والإعطاء والإرغاب والإرضاء والإكرام، لا أن يكلّف ويحمّل من الطاعة مؤونة وثقلا. وإنّي لا أعرف السبب الذي يبيح الوحشة ويوقعها بيني وبين الأمير أيّده الله، وما ثمّ معاملة توجب مشاجرة أو تحدث منافرة، لأنّ العمل الذي أنا بسبيله لغيره، والمكاتبة في أموره إلى سواه، ولا أنا من قبله: فإنّه والأمير جعفر المفوّض أيّده الله قد اقتسما الأعمال، وصار لكلّ واحد منهما قسم قد انفرد به دون صاحبه، وأخذت عليه البيعة فيه أنّه من [91 ب] نقض عهده أو خفر ذمّته ولم يف لصاحبه بما أكّد على نفسه، فالأمّة بريئة منه ومن تبعته، وفي حلّ وسعة من خلعه.
(1) الرسالة في الخطط 2/ 179.