الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثمّ تعود فتقول: لا بعد! لا بعد! ؟ فقال لي: يا بنيّ ما تدري؟ فقلت: لا. فقال: إبليس لعنه الله قائم حذائي عاضّ على أنامله يقول: يا أحمد، فتّني وأنا أقول: لا بعد، حتّى أموت! .
وسئل عبد الله: هل عقد أبوك عند الموت المعاينة؟ (1) قال: نعم، كنّا نوصيه فجعل يشير بيده، فقال لي صالح: أيّ شيء يقول؟ فقلت: هو يقول: خلّلوا أصابعي فخلّلنا أصابعه، ثمّ ترك الإشارة فمات من ساعته تغمّده الله برحمته، وذلك لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأوّل سنة إحدى وأربعين ومائتين وهو ابن سبع وسبعين سنة.
فصل في غسله وتكفينه والصلاة عليه وعدد من أسلم يوم موته
قال ولده صالح: لمّا توفّي أبي كان المتوكّل غائبا فوجّه الأمير ابن طاهر حاجبه ومعه غلامان معهما منديل فيه ثياب وطيب، وقالوا: الأمير [8 ب] يقرئك السلام ويقول لك: قد فعلت ما لو كان أمير المؤمنين حاضرا لفعله. فقلت له: اقرئه منّي السلام وقل له: إنّ أمير المؤمنين قد كان أعفاه في حياته ممّا كان يكره، ولا أحبّ أن أتبعه بعد موته بما كان يكرهه في حياته. فعاد وقال:
يكون شعاره ولا يكون دثاره. فأعدت عليه مثل ذلك ورددته.
وكفّنّاه في ثلاث لفائف. قال المروزيّ: لمّا أردت أن أغسّله جاء بنو هاشم واجتمع في الدار خلق كثير. فأدخلته البيت وغطّيته بثوب وأرخيت الستر حتّى فرغت من أمره. فلمّا أردت تكفينه غلبنا عليه بنو هاشم وأخذوا في البكاء عليه وجعل
أولادهم ينكبّون عليه ويقبّلونه.
قال صالح: وأرسل إليّ ابن طاهر يقول: من يصلّي عليه؟ قلت: أنا. فلمّا صرنا إلى الصحراء وجدنا ابن طاهر، فخطا إلينا خطوات وعزّانا. فلمّا وضع السرير [جعلت اسوّي الصفوف للصلاة] (2) فجاءني ابن طالوت ومحمد بن نصر وقبضا على يديّ وقالا: الأمير! فمانعتهم فغلبوا عليّ وصلّى [محمد بن عبد الله بن طاهر](3) وكثر الناس بتقدّمه فلمّا كان من الغد وعلموا بذلك صاروا يأتون القبر أفواجا فيصلّون عليه ومكثوا [على ذلك] أيّاما.
قال ولده عبد الله: وكنّا نحن والهاشميّون صلّينا عليه داخل الدار.
قال الخلّال: سمعت عبد الوهاب الورّاق يقول: ما بلغنا أنّ جمعا كان في الجاهليّة والإسلام مثله، حتّى إنّ المواضع التي وقف الناس فيها مسحت وحزرت فإذا هي نحو من ألف ألف، وحزرنا على السور (4) نحوا من ستّين ألف امرأة.
وقال أبو زرعة: بلغني أنّ المتوكّل أمر أن يمسح الموضع الذي وقف الناس فيه للصلاة على أحمد بن حنبل فبلغ مقام ألف ألف وخمسمائة ألف.
وفتح الناس أبواب المنازل في الشوارع والبيوت والدروب وصاروا ينادون: من أراد الوضوء؟ .
وقال أحمد بن الحسن المقانعي: كنت ببغداد وأنا في بستان لصديق لي فإذا بشيخ وشابّ وعليهما طمران، فسلّمت عليهما وقلت: أراكما
(1) لم نفهم المعاينة. وقد تعني عقد الأصابع وبسطها إشارة إلى التشهّد بالوحدانيّة. وعند ابن الجوزيّ 408: هل غفل أبوك عند المعاينة؟ .
(2)
التكملة من أعلام النبلاء 11/ 336.
(3)
هو نائب بغداد والي المدينة وقال محقّقا أعلام النبلاء:
الوالي أو نائبه أحقّ بالإمامة من الوليّ.
(4)
في النبلاء 11/ 339: على القبور.
من غير هذا البلد؟ قالا: نعم، نحن من جبل اللكّام حضرنا جنازة أحمد بن حنبل، وما بقي أحد من الأولياء إلّا حضرها.
وقال عبد الوهّاب الورّاق: أظهر الناس في جنازة أحمد بن حنبل السنّة والطعن على أهل البدع.
قال جعفر بن محمد النسوي: شهدت الناس في جنازة أحمد بن حنبل يلعنون بشرا المريسيّ والكرابيسيّ بأصوات عالية.
وأقام الناس أيّاما يزدحمون على القبر حتى قال أبو الحسن التميميّ: مكثت أيّاما رجاء أن أصل إلى القبر فلم أصل إليه إلّا بعد أسبوع.
وقال الدركانيّ جار أبي عبد الله: وقع المأتم يوم موت أبي عبد الله عند أربعة أصناف من الناس: المسلمين، واليهود، والنصارى، والمجوس. وأسلم في ذلك اليوم عشرون ألفا.
وتأثّرت الجنّ عند موته حتى قال أبو زرعة: كان يقال عندنا بخراسان إنّ الجنّ نعت أحمد بن حنبل قبل موته بأربعين صباحا. وقال أحمد بن محمود:
كنت في البحر مقبلا من ناحية السند، فقمت في الليل فإذا هاتف من ناحية البحر يقول: مات العبد الصالح أحمد بن حنبل! فقلت لبعض من كان معنا: من هذا؟ فقال: هذا من صالحي الجنّ، فكان موت أبي عبد الله في تلك الليلة.
ورئيت له منامات عظيمة، منها، وهو أعظمها:
رؤيا الإمام الشافعيّ رضي الله عنه للنبيّ صلى الله عليه وسلم وإخباره له بالمحنة قبل وقوعها كما قدّمته (1).
ومنها ما ذكره الشريف الواسطي في كتابه «مجمع الأحباب» (مختصر الحلية): قال يحيى بن الجلاء وكان من أفاضل الناس قال:
رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم واقفا في سفينة الكرخ، وأحمد بن حنبل جالس عن يمينه وابن أبي دواد عن يساره، فالتفت النبيّ صلى الله عليه وسلم وأشار إلى ابن أبي دواد وقال:
فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ [الأنعام: 89].
وقال عبد الله بن الورد: رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم في منامي فقلت: يا رسول الله، ما شأن أحمد بن حنبل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: سيأتيك موسى فاسأله. فإذا أنا بموسى عليه السلام فقلت: يا نبيّ الله، ما بال أحمد بن حنبل؟ فقال: أحمد بن حنبل بلي في السرّاء والضرّاء فوجد صادقا فألحق بالصدّيقين.
ومنها ما حكاه أبو عبد الله الزبيريّ قال: جاءني رجل من أهل الصلاح يقال له أبو محمد القرشيّ فقال: رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم في النوم وعنده أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ رضي الله عنهم إذ جاءه أربعة نفر فقرّبهم، فتعجّبت من تقريبه لهم فسألت بعض من بحضرته عنهم فقال لي: هذا مالك وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه والشافعيّ. فرأيت كأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أخذ بيد مالك فأجلسه بجنب أبي بكر الصّدّيق وأخذ بيد أحمد فأجلسه بجنب عمر، وأخذ بيد إسحاق فأجلسه بجنب عثمان، وأخذ بيد الشافعيّ فأجلسه بجنب عليّ. قال أبو عبد الله الزبيري فسألت بعض العلماء بالتعبير عن ذلك فقال: كأنّ منزلة مالك في العلماء كمنزلة أبي بكر في الصحابة، ومنزلة أحمد في العلماء كمنزلة عمر في صلابته فإنّه لم يتكلّم في القرآن إلّا بحقّ وصلابة، ومنزلة إسحاق في العلماء كمنزلة عثمان في الصحابة [9 أ]: لقي عثمان رضي الله عنه الفتن والمحن، كذلك لقي إسحاق في بلده من أهل الإرجاء ما فارق به بلده (2). ومنزلة الشافعيّ في
(1) انظر ص 482 ب هـ 1 أعلاه.
(2)
إسحاق بن راهوية (ت 238): الوافي 8/ 386 (3825).
وأعلام النبلاء 11/ 358 (79) ولم نجد في مصادرنا حديثا-
العلماء كمنزلة عليّ في الصحابة، فإنّه كان أعلمهم وأقضاهم، وقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: أقضاكم عليّ، كذلك كان الشافعيّ أعلم العلماء بالفقه والقضاء.
ومنها ما ذكره أبو يوسف يعقوب ابن أخي معروف قال: بينا أنا في أيّام المحنة إذ دخل عليّ رجل عليه جبّة صوف بلا كمّين، فقلت: من أنت؟
قال: أنا موسى بن عمران. فقلت: أنت موسى بن عمران الذي كلّمه الله عز وجل وما بينك وبينه ترجمان؟ فبينا أنا كذلك إذ هبط علينا رجل من السقف عليه [
…
] جعد الشعر، فقلت: من هذا؟ قال: هذا عيسى بن مريم عليه السلام، ثمّ قال لي: أنا موسى بن عمران الذي كلّمني الله تعالى وما بيني وبينه ترجمان، وهذا عيسى بن مريم عليه السلام وهذا نبيّكم محمد صلى الله عليه وسلم وأحمد بن حنبل وحملة العرش وجميع الملائكة يشهدون أنّ القرآن كلام الله غير مخلوق.
ومنها أنّ عبد الله ابن الإمام أحمد قال: رأيت أبي في المنام فقلت له: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي، فقلت: جاءك منكر ونكير؟ قال: نعم. قلت:
ما قلت لهما؟ قال: قالا لي: من ربّك؟ فقلت:
سبحان الله! أما تستحيان منّي؟ فقالا: يا أبا عبد الله اعذرنا فإنّا بهذا أمرنا فتركاني وانصرفا.
ومنها ما نقل عن أحمد بن الفتح قال: رأيت بشرا الحافي في منامي، وهو قاعد في بستان وبين يديه مائدة يأكل منها، فقلت له: يا أبا نصر، ما فعل الله بك؟ قال: رحمني وغفر لي وأباحني الجنّة بأسرها. فقلت: فأين أخوك أحمد بن حنبل؟ فقال: ها هو قائم على باب الجنّة يشفع لأهل السنّة ممّن يقول إنّ القرآن كلام الله غير مخلوق.
ومنها ما ذكر عن عليّ بن الموفّق قال: كان لي ورد من الليل أقومه. فقمت ليلة الجمعة، ثمّ أخذت مضجعي فرأيت كأنّي أدخلت الجنّة فرأيت ثلاثة نفر من الناس أحدهم قاعد وبين يديه مائدة وعلى رأسه ملكان، ملك يطعمه الطعام وملك يسقيه الشراب، ورأيت رجلا في وسط الجنّة شاخصاببصره إلى الله عز وجل ورأيت رجلا يتعلّق بالناس فيدخلهم الجنّة، فقلت لرضوان: من هؤلاء الثلاثة الذين أعطوا في الجنّة هذا الخير كلّه؟ قال: هؤلاء إخوانكم الذين ماتوا ولا ذنب عليهم. قلت: صف لي! قال لي: أمّا الأوّل فإنّه بشر الحافي: منذ عقل عقله ما شبع من الطعام ولا روي من الماء مخافة من الله، فقد وكّل الله به ملكا يطعمه وملكا يسقيه. وأمّا الشاخص ببصره نحو العرش فهو معروف الكرخيّ، عبد الله لا خوفا من النار، ولا شوقا إلى الجنّة وإنّما هو شوقا إليه، فقد مكّنه من النظر إليه. وأمّا الثالث فهو الصادق في قوله الورع في دينه أبو عبد الله أحمد بن حنبل، أمره الجبّار أن يتصفّح وجوه أهل السنّة فيدخلهم الجنّة.
ومنها أنّ يعقوب بن عبد الله قال: رأيت سريّا السقطي في النوم فقلت له: ما فعل الله بك؟ فقال:
أباحني النظر إلى وجهه الكريم. فقلت: ما فعل أحمد بن حنبل وأحمد بن نصر؟ فقال: شغلا بأكل الثمار في الجنّة.
ومنها ما ذكره عبد الرحمن بن الصبّاح قال:
رأيت في المنام وكأنّي على شيء مرتفع وكأنّ بين يديّ رجلين وأحدهما يقول لصاحبه: قد أخذ صاحب ابن عمر يمتحن فقال له الآخر: لا تحزن عليه! وإذا قد أقبل رجل مخضوب الرأس واللحية فقال أحدهما لصاحبه: هذا جليس ابن عمر حتّى نسأله، فلمّا قرب الرجل إذا هو أحمد بن حنبل
- عن تعرّضه للبلاء بنيسابور أو مرو.
وإذا ابن عمر واقف ينفض لحيته، فسمعته يقول:
أبناء الأنجاس وأبناء الأرجاس، ما لهم ولهذا؟ وما كلامهم في هذا؟ لا يقوون عليه! ثمّ انتبهت. وقد كنت رأيت هذه الرؤيا قبل إنذاري أحمد في اليقظة، ثمّ رأيت أحمد بعد ذلك فكان كما رأيته في المنام.
ومنها ما حكاه الحافظ أبو نعيم في الحلية بسنده إلى محمّد بن خزيمة قال: لمّا مات أحمد بن حنبل اغتممت غمّا شديدا فبتّ من ليلتي فرأيته في المنام وهو يتبختر في مشيته فقلت: يا أبا عبد الله، أيّ مشية هذه؟ قال: هذه مشية الخدّام في دار السلام (قال) قلت: ما فعل الله بك؟ قال:
غفر لي وتوّجني وألبسني نعلين من ذهب وقال: يا أحمد، هذا بقولك القرآن كلامي غير مخلوق، ثمّ قال: يا أحمد، ادعني بتلك الدعوات التي بلغتك عن سفيان الثوري وكنت تدعو بهنّ في دار الدنيا.
(قال) فقلت: يا ربّ كلّ شيء، بقدرتك على كلّ شيء، لا تسألني عن شيء، واغفر لي كلّ شيء! فقال: يا أحمد هذه الجنّة فقم فأدخل إليها، فدخلت، فإذا أنا بسفيان الثوري وله جناحان أخضران يطير بهما من نخلة إلى نخلة وهو يقول:
وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ [الزمر: 74]. (قال) فقلت: ما فعل عبد الوهّاب الورّاق؟ قال: تركته في بحر من نور يزور ربّه الملك الغفور. فقلت له: ما فعل بشر؟ فقال: بخ بخ! ومن مثل بشر؟ تركته بين يدي الجليل وبين يديه مائدة من الطعام، والجليل جل جلاله مقبل عليه وهو يقول له: كل يا من لم يأكل، واشرب يا من لم يشرب، وانعم يا من لم يتنعّم، أو كما قال، والله أعلم (1).
[9 ب] وأمّا رؤية الباري سبحانه وتعالى، فتارة تكون في اليقظة وتارة تكون في المنام. فأمّا رؤيته تعالى في اليقظة فقال الشيخ محيي الدين النوويّ:
أجمع أهل السنة على أنّ رؤية الربّ سبحانه في الدنيا ممكنة غير مستحيلة عقلا. وأمّا وقوعها فجمهور العلماء على أنّها لم تقع لغير نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم، واختلف في وقوعها لسيّدنا موسى صلوات الله وسلامه عليه وللجبل أيضا، فقال القاضي أبو بكر بن العربيّ: إنّ موسى عليه السلام رأى الله تعالى فخرّ صعقا وأنّ الجبل رأى ربّه عز وجل بإدراك خلقه الله له فصار دكّا. والصحيح أنّها لم تقع لغير نبيّنا صلى الله عليه وسلم لادّخارها له. واختلفوا هل كانت رؤية نبيّنا صلى الله عليه وسلم بعيني رأسه أو بقلبه؟
والصحيح الأوّل، وهو مذهب أكثر العلماء.
وأمّا رؤيته تعالى في المنام- ويتشبّث بها الكلام في رؤية النبيّ صلى الله عليه وسلم ورؤية الأموات يقظة ومناما، فاختلف فيها: قال الإمام الغزالي: والحقّ أنّا نطلق القول برؤية الله تعالى في المنام كما نطلق رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن من لا يفهم معنى رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يفهم معنى رؤية الله تعالى؟
ولعلّ العالم الذي طبعه قريب من طبع البهائم فهم أنّ من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد رأى حقيقة شخصه المودع في روضة المدينة، نشر من القبر وخرج مرتحلا إلى موضع الرؤية، وما أشدّ جهل من توهّم ذلك! فقد يراه ألف في ليلة واحدة في حالة
- من الترجمة وأخذ في مناقشة موضوع رؤية الله (تعالى) والنبيّ صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة بالبصر أو البصيرة، مستشهدا بأقوال كبار المتصوّفة.
وفي المناقب يستغرق عرض منامات أحمد التي رآها هو أو رؤي فيها الصفحات 434 - 480. أمّا باب رؤية الله تعالى فمفقود فيها. فلعلّ مناقشة هذا الباب هي إضافة من صاحب المخطوط الملحق أو من الناقل عن المقريزي؟ .
(1)
ينتهي الحديث عن ابن حنبل هنا ولا يعود إلّا في الأسطر الأخيرة من الصفحة 9 ب، كأن الناسخ أسقط القسم الأخير-
واحدة بصور مختلفة. والحقّ أنّ المرئيّ ليس هو حقيقة شخصه ولا مثال شخصه الذي هو لحمه وعظمه، بل هو مثال جوهر روحه المقدّسة التي هي محلّ النبوّة. ولذلك ذات الله تعالى منزّهة عن الشكل والصورة، ولكن تنتمي تعريفاته إلى العبد بواسطة مثال محسوس من نور أو غيره من الصور الجميلة التي تصلح أن تكون مثالا للجمال الحقيقيّ المعنويّ الذي لا صورة له، ويكون ذلك المثال حقّا وواسطة في التعريف فيقول القائل: رأيت الله تعالى، في المنام أو: رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم بمعنى أنّه رأى مثاله لا ذاته، والمثال في حقّ الله تعالى جائز، والمثل باطل، فإنّ المثل عبارة عن المساوي في جميع الصفات، والمثال بخلاف ذلك.
ونقل عن كثير من السلف أنّهم رأوا الله تعالى في المنام كالإمام أبي حنيفة والإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنهما وأبي العبّاس ابن سريج وأبي بكر الآجرّي ويحيى بن سعيد القطّان وأبي القاسم الجنيد وغيرهم رحمهم الله.
والقول في رؤية النبيّ صلى الله عليه وسلم في اليقظة كالقول في رؤيته في المنام على ما ذكره الإمام الغزالي كما تقدّم. وقد سئل الشيخ الكبير العارف بالله المعروف بالشيخ بقا عن رؤية النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه في اليقظة فقال رضي الله عنه: أرواحهم تشكّلت وإنّ الله تعالى أيّدهم بقوّة يظهرون بها فيراهم من قوّاه الله تعالى لرؤيتهم في صور الأجساد وصفات الأعيان، بدليل حديث المعراج.
ونقل عن سلطان المشايخ الشيخ عبد القادر الجيليّ رضي الله عنه أنّه قال: ما من نبيّ ولا وليّ إلّا وقد حضر مجلسي: الأحياء بأجسامهم والأموات بأرواحهم.
ثمّ رأيت كلاما حسنا لبعض الصوفية المحققين ممّن اجتمعت به واستفدت من فضائله، وهو أنّه قال: حقيقة رؤية النبيّ صلى الله عليه وسلم في اليقظة إنّما هو من المبالغة في الاستعداد والتقرّب إلى الله تعالى لقوله: لا يزال العبد يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أحبّه الخ. فحينئذ تصير حال النائم حالا لذلك الوليّ عنده يقظة قلبيّة لأنّ حالة المقاومة ورسوخ الأقدام في المشاهدة تثمر مشاهدة الأمور المغيّبة في غالب الأوقات أو على الدوام لأهل الاستعداد التامّ. فحينئذ يصير المشهود من العالم عند هذا العارف مفقودا والمفقود مشهود له، وقد تغيب عن العالم جملة فلا يحمد له مع وجود الحقّ وشهوده وجودا كما قال سيّدي عمر بن الفارض قدّس الله روحه [الطويل]:
وما عثرت عين على أثري ولم
…
تدع لي رسما في الهوى الأعين النجل (1)
وما عثرت عيني على أثري: يريد بالأثر جميع العالم وفناؤه في شهود المؤثّر له وهو الله، والمراد باليقظة القلبيّة هي اللازمة لأهل البصيرة لشدّة الاقتراب وإن كان ذلك عند أهل البصر فقط من وراء الحجاب، فعلى هذا يكون المراد برؤية النبيّ صلى الله عليه وسلم في اليقظة اليقظة القلبيّة المعنويّة لا البصريّة الحسّيّة لخصوصيّة الأحباب من أولي الألباب.
والحكمة في عدم رؤيته صلى الله عليه وسلم بالبصر أنّ المرئيّ بعين البصيرة هو الأرواح المشكّلة بشكل الأشباح دون ذاتها الكريمة لكرامتها وتنزّهها عن كلفة المجيء والرواح، وهذا القول في غاية الإيضاح، لأنّ بين حال الأحياء والأموات فرق (ا) وستر (ا) عند أهله مصون (ا) وجوبا ومكنون (ا) لا يباح، والله تعالى أعلم.
(1) جلاء الغامض في شرح ديوان ابن الفارض، بيروت د. ت ص 161. وفي المخطوط: وما عثرت عيني
…