الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
محنتان: إحداهما بالدين وكنت في السجن [-] الحلّ (1)، وذاك عندي زيادة في إيماني، وهذه محنة بالدنيا وهي فتنة فيه- أي في الدين (2).
قال المروزيّ: سمعت إسحاق بن حنبل عمّ أحمد ونحن بالعسكر (3) يناشده ويسأله الدخول على الخليفة ليأمره وينهاه، وقال إنّه يقبل كلامك، هذا إسحاق بن راهويه يدخل على ابن طاهر (4) فيأمره وينهاه. فقال له أبو عبد الله: تحتجّ عليّ بإسحاق وأنا غير راض بفعله. ما له في رؤيتي خير ولا لي في رؤيته خير. يجب عليّ إذا رأيته أن آمره وأنهاه، الدنوّ منه فتنة، والجلوس معه فتنة، نحن متباعدون منهم ما أرانا نسلم، فكيف لو قربنا منهم؟ .
قال صالح: وكان إذا أتى رسول المتوكّل يبلّغ أبي السلام نسرّ نحن بذلك وتأخذه هو نفضة حتّى ندثّره ثمّ يقول: والله لو أنّ نفسي في يدي لأرسلتها، ويضمّ أصابعه ثمّ يفتحها. (قال صالح) وجاء يحيى بن خاقان مرّة في موكب عظيم وكان يوما مطيرا، فنزل خارج الزقاق فجهدت به أن يدخل راكبا فلم يفعل، وهو يخوض في الطين.
فلمّا وصل إلى الباب نزع جرموقا (5) كان على خفّه ودخل البيت وأبي في الزاوية قاعد، عليه كساء مرقّع وعمامة والستر الذي على باب البيت قطعة
خيش. فسلّم عليه وسأله عن حاله وقال: أمير المؤمنين يقرأ عليك السلام ويقول: كيف أنت في نفسك وكيف حالك؟ وقد أنست بقربك، ويسألك أن تدعو له. فقال: ما يأتي عليّ يوم إلّا وأنا أدعو له. ثمّ قال له: وجّه معي ألفّ دينار تفرّقها على أهل الحاجة. فقال: يا أبا زكريا (6)، أنا في البيت منقطع عن الناس، وقد أعفاني أمير المؤمنين ممّا أكره. فقال: يا أبا عبد الله، الخلفاء لا يحتملون هذا كلّه. فقال: يا أبا زكريا، تلطّف في ذلك! ودعا له. ثمّ قام، فلمّا صار وسط الدار رجع فقال: يا أبا عبد الله، لو وجّه إليك بعض إخوانك، هكذا كنت تفعل؟ قال: نعم. (قال صالح) فلمّا صرنا إلى الدهليز قال: قد أمرني أمير المؤمنين أن أدفعها إليك تفرّقها في أهل بيتكم فقلت تكون عندك حتى تمضي هذه الأيّام، وقلّ يوم يمضي إلّا ورسول المتوكّل يأتيه.
فصل في ذكر جماعة من الأعيان امتحنوا فلم يجيبوا
منهم: أحمد بن الخزاعيّ، ونعيم بن حمّاد، وأبو نعيم الفضل بن دكين، وعفّان بن مسلم، وأبو يعقوب البويطيّ صاحب الشافعيّ.
وأمّا أحمد بن نصر (7) فكان من أهل الدين والصلاح والأمّارين بالمعروف، جمع الحديث عن مالك بن أنس وغيره، وروى عنه يحيى بن معين وغيره. دعاه الواثق إلى القول بخلق القرآن فأبي فأمر بضرب عنقه فضرب وحمل رأسه إلى بغداد فنصب في الجانب الشرقيّ أيّاما وفي الجانب الغربيّ أيّاما، وأمّا جسده فصلب بسرّمن رأى.
وروى الحافظ أبو الفرج بسنده إلى إبراهيم بن
(1) كلمة مطوسة، ولعلّها: آكل.
(2)
إضافة بين السطرين.
(3)
أي سامرّا.
(4)
إسحاق [بن إبراهيم بن مخلد] ابن راهويه الحافظ (ت 238): أعلام النبلاء 11/ 358 (79).
وابن طاهر هو طاهر بن الحسين أمير خراسان للمأمون (ت 207) أو ابنه عبد الله بن طاهر (ت 230): انظر رسالة المنجي الكعبي عن الطاهريّين Les Tahirides تونس 1983.
(5)
الجرموق: ما يلبس فوق الخفّ لحفظه من الطين أدّي تنحير: الألفاظ الفارسيّة المعرّبة ص 40.
(6)
يحيى بن خاقان الخراساني مولى الأزد صاحب الخراج.
الطبري 9/ 162.
(7)
أحمد بن نصر (ت 231): النبلاء 11/ 166 (70).
إسماعيل قال: كان أحمد بن نصر خلّي فلمّا قتل في المحنة وصلب رأسه أخبرت أن الرأس يقرأ القرآن فمضيت فبتّ بالقرب من الرأس، وكان قد وكّل به من يحفظه. فلمّا هدأت العيون سمعت الرأس يقرأ القرآن الم* أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت: 1 - 2] فاقشعرّ جلدي. ثمّ رأيته بعد ذلك في المنام وعليه السندس والإستبرق وعلى رأسه تاج، فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي وأدخلني الجنّة [7 أ] قال المروزيّ: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل- وذكر أحمد بن نصر، فقال: رحمه الله، ما كان أسخاه! لقد جاد بنفسه.
أمّا نعيم بن حمّاد (1) فكان من أهل مرو، طلب الكثير من الحديث بالحجاز والعراق ثمّ نزل مصر ثمّ أشخص منها في خلافة الواثق فسئل عن القرآن فلم يوافقهم على ما أرادوه منه- يعني القول بخلق القرآن فحبس حتّى مات.
وأمّا الحافظ أبو نعيم الفضل بن دكين (2) فروى الحافظ أبو الفرج بسنده إلى محمد بن أحمد بن عمرو بن عيسى قال: سمعت أبي يقول: ما رأيت مجلسا أنبل من مجلس اجتمع فيه المشايخ بجامع الكوفة في وقت الامتحان، فقرئ عليهم الكتاب الذي فيه المحنة، فقال أبو نعيم: أدركت ثمانمائة شيخ ونيفا وسبعين شيخا، منهم الأعمش فمن دونه (3) فما رأيت أحدا يقول بهذه المقالة- يعني بخلق القرآن- ولا تكلّم أحد بها إلّا رمي بالزندقة، فقام أحمد بن يونس فقبّل رأس أبي نعيم وقال له: جزاك الله خيرا عن الإسلام! وقال الإمام
أبو بكر ابن أبي شيبة لمّا أن جاءت المحنة إلى الكوفة: قال لي أحمد بن يونس: الق أبا نعيم فقل له! فلقيته فقلت له. فقال: إنّما هو ضرب الأسياط. ثمّ أخذ زرّ ثوبه وقال: رأسي أهون عليّ من هذا.
وأمّا عفّان بن مسلم (4) فقال حنبل: كنت حاضرا عند عفّان بعد أن امتحن فسأله يحيى بن معين بحضور أبي عبد الله أحمد بن جنبل ونحن معه، فقال: يا أبا عثمان أخبرنا بما قال لك إسحاق بن إبراهيم في المحنة وما رددت عليه؟ .
فقال عفّان ليحيى بن معين: يا أبا زكريا، لم أسوّد وجهك ولا وجوه أصحابك- يعني أنّه لم يجب إلى القول بخلق القرآن. فقال له: فكيف كان؟
فقال: دعاني إسحاق بن إبراهيم، فلمّا دخلت عليه قرأ الكتاب الذي كتبه المأمون من أرض الجزيرة إلى الرقّة، فإذا فيه: امتحن عفّان وادعه أن يقول: القرآن كذا وكذا، فإن قال ذلك فأقرّه على أمره وإن لم يجبك فاقطع عنه الذي يجرى عليه- وكان المأمون يجري عليه في كلّ شهر خمسمائة درهم. قال عفّان: فلمّا قرأ عليّ الكتاب قال لي: ما تقول؟ فقرأت عليه قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ إلى آخرها وقلت: أمخلوق هذا؟ فقال لي إسحاق:
يا شيخ إنّ أمير المؤمنين أمر إن لم تجب [بأن] يقطع عنك ما يجري عليك، وإن قطع عنك أمير المؤمنين قطعنا عنك نحن أيضا، فقلت له: قال اللهتعالى: وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ [الذاريات: 22] فسكت عنّي إسحاق وانصرفت. فسرّ أبو عبد الله ويحيى ومن كان حاضرا. فلما رجع إلى داره عذله أهل بيته- وكانوا أربعين نفسا. فبعد قليل دقّ عليه الباب إنسان فدخل ومعه كيس فيه ألف درهم.
فقال: يا أبا عثمان ثبّتك الله كما ثبّت الدين! وهذا
(1) نعيم بن حمّاد (ت 228): أعلام النبلاء 10/ 595 (209).
(2)
أبو نعيم (ت 219): أعلام النبلاء 10/ 142 (21).
(3)
تاريخ بغداد 12/ 349.
(4)
عفّان بن مسلم (ت 220): أعلام النبلاء 10/ 242 (65).