الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَلأَِنَّهُ إِفْسَادٌ فَيَدْخُل فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَْرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْل وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (1) } .
وَلأَِنَّهُ حَيَوَانٌ ذُو رُوحٍ، فَلَمْ يَجُزْ قَتْلُهُ لِغَيْظِ الْمُشْرِكِينَ.
وَمُقْتَضَى مَذْهَبِ الْحَنَفِيَّةِ إِبَاحَتُهُ؛ لأَِنَّ فِيهِ غَيْظًا لَهُمْ، وَإِضْعَافًا فَأَشْبَهَ قَتْل بَهَائِمِهِمْ حَال قِتَالِهِمْ (2) .
وَفَصَّل الْمَالِكِيَّةُ الْقَوْل فِيهِ، فَقَالُوا: إِنْ قَصَدَ بِإِتْلَافِهَا أَخْذَ عَسَلِهَا كَانَ إِتْلَافُهَا جَائِزًا قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتِ اتِّفَاقًا، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ أَخْذَ عَسَلِهَا، فَإِنْ قَلَّتْ كُرِهَ إِتْلَافُهَا، وَإِنْ كَثُرَ فَيَجُوزُ فِي رِوَايَةٍ مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ لَا يَجُوزُ، وَإِنَّمَا جَازَ فِي حَال الْكَثْرَةِ لِمَا فِيهِ مِنَ النِّكَايَةِ لَهُمْ (3) .
ح -
الْفِرَارُ مِنَ الزَّحْفِ:
37 -
لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يَجِبُ الثَّبَاتُ فِي الْجِهَادِ، وَيَحْرُمُ الْفِرَارُ مِنْهُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الأَْدْبَارَ (4) } وَقَال اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً
(1) سورة البقرة / 205.
(2)
ابن عابدين 3 / 223.
(3)
حاشية الدسوقي 2 / 181.
(4)
سورة الأنفال / 15.
فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (1) } .
وَقَدْ عَدَّ رَسُول اللَّهِ الْفِرَارَ مِنَ الزَّحْفِ مِنَ السَّبْعِ الْمُوبِقَاتِ بِقَوْلِهِ: اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ ثُمَّ ذَكَرَ مِنْهَا: التَّوَلِّيَ يَوْمَ الزَّحْفِ (2) .
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي تَفْصِيل ذَلِكَ:
38 -
فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ الْفِرَارُ، وَيَجِبُ الثَّبَاتُ بِشَرْطَيْنِ
أَحَدُهُمَا:: أَنْ يَكُونَ الْكُفَّارُ لَا يَزِيدُونَ عَلَى ضِعْفِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ زَادُوا عَلَيْهِ جَازَ الْفِرَارُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{الآْنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (3) } .
وَالآْيَةُ وَإِنْ كَانَتْ بِلَفْظِ الْخَبَرِ فَهُوَ أَمْرٌ، بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى:{الآْنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} وَلَوْ كَانَ خَبَرًا عَلَى حَقِيقَتِهِ لَمْ يَكُنْ رَدُّنَا مِنْ غَلَبَةِ الْوَاحِدِ لِلْعَشَرَةِ إِلَى غَلَبَةَ الاِثْنَيْنِ تَخْفِيفًا؛ وَلأَِنَّ خَبَرَ اللَّهِ
(1) سورة الأنفال / 45.
(2)
ابن عابدين 3 / 224، والبدائع 7 / 99، وحاشية الدسوقي 2 / 178، والمهذب 2 / 322، ونهاية المحتاج 2 / 65، والمغني 8 / 484، وكشاف القناع 3 / 45، 46. وحديث:" اجتنبوا السبع الموبقات. . . " أخرجه البخاري (الفتح 5 / 393 - ط السلفية) ومسلم (1 / 92 - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.
(3)
سور الأنفال / 66.
تَعَالَى صِدْقٌ لَا يَقَعُ بِخِلَافِ مُخْبِرِهِ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الظَّفَرَ وَالْغَلَبَةَ لَا يَحْصُل لِلْمُسْلِمِينَ فِي كُل مَوْطِنٍ يَكُونُ الْعَدُوُّ فِيهِ ضِعْفَ الْمُسْلِمِينَ فَمَا دُونَ، فَعُلِمَ أَنَّهُ أَمْرٌ وَفَرْضٌ، وَلَمْ يَأْتِ شَيْءٌ يَنْسَخُ هَذِهِ الآْيَةَ لَا فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ، فَوَجَبَ الْحُكْمُ بِهَا. قَال ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ حِينَ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَلَاّ يَفِرَّ وَاحِدٌ مِنْ عَشَرَةٍ، ثُمَّ جَاءَ تَخْفِيفٌ فَقَال:{الآْنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ. . .} ، فَلَمَّا خَفَّفَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنَ الْعَدَدِ نَقَصَ مِنَ الصَّبْرِ بِقَدْرِ مَا خَفَّفَ مِنَ الْعَدَدِ. وَقَدْ قَال ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ فَرَّ مِنِ اثْنَيْنِ فَقَدْ فَرَّ، وَمَنْ فَرَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ فَمَا فَرَّ، وَيَلْزَمُ الْمُسْلِمِينَ الثَّبَاتُ وَإِنْ ظَنُّوا التَّلَفَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الأَْدْبَارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ (1) } .
قَال الْمَالِكِيَّةُ: وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنَ الْخَانِيَّةِ: إِنْ بَلَغَ الْمُسْلِمُونَ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا حَرُمَ الْفِرَارُ وَلَوْ كَثُرَ الْكُفَّارُ جِدًّا مَا لَمْ تَخْتَلِفْ كَلِمَتُهُمْ، فَإِنَّهُ إِذَا اخْتَلَفَتْ كَلِمَتُهُمْ جَازَ الْفِرَارُ مُطْلَقًا وَلَوْ بَلَغُوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا (2) . وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: لَنْ يُغْلَبَ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا مِنْ قِلَّةٍ (3) .
(1) سورة الأنفال / 15.
(2)
ابن عابدين 3 / 224، وحاشية الدسوقي 2 / 178.
(3)
حديث: " لن يغلب اثنا عشر ألفا من قلة " تقدم تخريجه ف / 31.
الشَّرْطُ الثَّانِي لِوُجُوبِ الثَّبَاتِ أَنْ لَا يَقْصِدَ بِفِرَارِهِ التَّحَيُّزَ إِلَى فِئَةٍ وَلَا التَّحَرُّفَ لِقِتَالٍ، فَإِنْ قَصَدَ أَحَدَ هَذَيْنِ فَالْفِرَارُ مُبَاحٌ لَهُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{. . . إِلَاّ مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ (1) } .
وَمَعْنَى التَّحَرُّفِ لِلْقِتَال أَنْ يَنْحَازَ إِلَى مَوْضِعٍ يَكُونُ الْقِتَال فِيهِ أَمْكَنَ مِثْل أَنْ يَنْحَازَ مِنْ مُوَاجَهَةِ الشَّمْسِ أَوِ الرِّيحِ إِلَى اسْتِدْبَارِهِمَا، أَوْ مِنْ نَزْلَةٍ إِلَى عُلُوٍّ، أَوْ مِنْ مَعْطَشَةٍ إِلَى مَوْضِعِ مَاءٍ، أَوْ يَفِرَّ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ لِتُنْتَقَضَ صُفُوفُهُمْ، أَوْ تَنْفَرِدَ خَيْلُهُمْ مِنْ رَجَّالَتِهِمْ، أَوْ لِيَجِدَ فِيهِمْ فُرْصَةً، أَوْ لِيَسْتَنِدَ إِلَى جَبَلٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ أَهْل الْحَرْبِ.
وَأَمَّا التَّحَيُّزُ إِلَى فِئَةٍ فَهُوَ أَنْ يَصِيرَ إِلَى فِئَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِيَكُونَ مَعَهُمْ فَيَقْوَى بِهِمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ، وَسَوَاءٌ أَبَعُدَتِ الْمَسَافَةُ أَمْ قَرُبَتْ، فَإِنْ كَانَتِ الْحَرْبُ بِخُرَاسَانَ وَالْفِئَةُ بِالْحِجَازِ جَازَ التَّحَيُّزُ إِلَيْهَا، لأَِنَّ ابْنَ عُمَرَ رَوَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَال لِلَّذِينَ فَرُّوا إِلَى الْمَدِينَةِ وَهُوَ فِيهَا: أَنْتُمُ الْعَكَّارُونَ، أَنَا فِئَةُ الْمُسْلِمِينَ (2) وَكَانُوا بِمَكَانٍ بَعِيدٍ عَنْهُ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُتَحَيِّزَ إِلَى فِئَةٍ
(1) سورة الأنفال / 16.
(2)
حديث: " أنتم العكارون، أنا فئة المسلمين " أخرجه أبو داود (3 / 107 - تحقيق عرت عبيد دعاس) . ونوه المناوي بضعف أحد رواته في فيض القدير (3 / 44 - ط المكتبة التجارية) .