الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(138) بَابُ مَنْ تَرَكَ القِرَاءَةَ في صَلاتِهِ
817 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِىُّ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِى نَضْرَةَ، عَنْ أَبِى سَعِيدٍ (1) قَالَ:"أُمِرْنَا أَنْ نَقْرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَمَا تَيَسَّرَ". [جه 839، حب 1787]
===
(138)
(بَابُ مَنْ تَرَكَ الْقِرَاءَةَ في صَلَاتِهِ)
فهي فاسدة
817 -
(حدثنا أبو الوليد الطيالسي) هشام بن عبد الملك، (نا همام، عن قتادة، عن أبي نضرة) منذر بن مالك، (عن أبي سعيد) الخدري (قال) أبو سعيد:(أمرنا (2) أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر).
وهذا الحديث يدل على وجوب فاتحة الكتاب، وعلى وجوب ما تيسر من القرآن بعد الفاتحة، ولكن في رواية البخاري عند تعليمه صلى الله صلى الله عليه وسلم لخلاد بن رافع:"اقرأ ما تيسر معك من القرآن"، وهذا يدل على أن الفرض مطلق القراءة، وهو الموافق لقول الله تعالى:{فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} (3).
والحنفية قالوا: إن قراءة ما تيسر من القرآن سواء كانت فاتحة أو غيرها فرض بالكتاب، وأما تعيين قراءة فاتحة الكتاب فواجب، وكذلك قراءة ما زاد على الفاتحة من ضم السورة أو غيرها فواجب أيضًا عندنا للحديث.
قال الشوكاني (4) بعد ما ذكر حديث أبي هريرة الذي أخرجه أحمد وأبو داود من طريق جعفر بن ميمون بأنه صلى الله عليه وسلم أمره أن يخرج فينادي: "لا صلاة إلَّا بفاتحة الكتاب فما زاد"، وقال: إن جعفر بن ميمون، قال النسائي: ليس بثقة، وقال أحمد: ليس بقوي، وقال ابن عدي: يكتب حديثه في الضعفاء.
(1) زاد في نسخة: "الخدري".
(2)
تفرد بذكر الأمر أهل البصرة، كذا في" نيل الأماني". (ش).
(3)
سورة المزمل: الآية 20.
(4)
"نيل الأوطار"(2/ 247).
818 -
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى - يعني الرَّازِىّ - أَخْبَرَنَا عِيسَى، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مَيْمُونٍ الْبَصْرِىِّ، حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِىُّ، قَالَ حَدَّثَنِى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ لِى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «اخْرُجْ فَنَادِ فِى الْمَدِينَةِ أَنَّهُ لَا صَلَاةَ
===
ولكنه يشهد لصحته ما عند مسلم وأبي داود وابن حبان من حديث عبادة بن الصامت بلفظ: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب فصاعدًا" وإن كان قد أعلّها البخاري في "جزء القراءة".
ويشهد له أيضًا حديث أبي سعيد عند أبي داود بلفظ: "أمرنا أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر"، قال ابن سيد الناس: وإسناده صحيح، ورجاله ثقات، وقال الحافظ: إسناده صحيح.
ويشهد له أيضًا حديث أبي سعيد عند ابن ماجه بلفظ: "لا صلاة لمن لم يقرأ في كل ركعة بالحمد وسورة"، وقد تقدم تضعيف الحافظ له.
وهذه الأحاديث لا تقصر عن الدلالة على وجوب قرآن مع الفاتحة، ولا خلاف في استحباب قراءة السورة مع الفاتحة في صلاة الصبح والجمعة، والأوليين من كل الصلوات.
قال النووي: إن ذلك سنة عند جميع العلماء، وحكى القاضي عياض عن بعض أصحاب مالك وجوب السورة، قال النووي: وهو شاذٌّ مردود.
وأما السورة في الركعة الثالثة والرابعة فكره ذلك مالك واستحبه الشافعي في قوله الجديد دون القديم، وقد ذهب إلى إيجاب قرآن مع الفاتحة عمر وابنه عبد الله وعثمان بن أبي العاص، انتهى.
818 -
(حدثنا إبراهيم بن موسى -يعني الرازي-، أنا عيسى) بن يونس، (عن جعفر بن ميمون البصري، نا أبو عثمان النهدي، حدثني أبو هريرة قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: اخرج فناد في المدينة أنه لا صلاة
إِلَّا بِقُرْآنٍ، وَلَوْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَمَا زَادَ". [ق 1/ 37، ك 1/ 239، قط 1/ 321]
===
إلَّا بقرآن، ولو بفاتحة (1) الكتاب فما زاد)، هذا الحديث يدل على أن مطلق القراءة فرض، وأما تعيين الفاتحة والسورة فليس بفرض.
وأجابوا عنه بوجوه:
الأول: أنه من رواية جعفر بن ميمون، وليس بثقة، كما قال النسائي، وقال أحمد: ليسِ بقوي في الحديث، وقال ابن عدي: يكتب حديثه في الضعفاء، قلت: وثَّقه بعضهم.
قال في "الميزان": قال ابن معين مرة: صالح الحديث، وقال الدارقطني: يعتبر به، وقال ابن عدي: لم أرَ أحاديثه منكرة.
وقال في "تهذيب التهذيب": وقال أبو حاتم: صالح، وقال الدارقطني: يعتبر به، وقال ابن عدي: لم أرَ أحاديثه منكرة، وأرجو أنه لا بأس به، وقال الحاكم في "المستدرك": هو من ثقات البصريين، وذكره ابن حبان وابن شاهين في "الثقات".
والثاني: قالوا أيضًا: قد روى المؤلف هذا الحديث بعده بلفظ: "أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنادي أن لا صلاة إلَّا بقراءة فاتحة الكتاب فما زاد"، وليست الرواية الأولى بأولى من الثانية.
وهذا الجواب أيضًا غير كاف، فإن للحنفية أن يقولوا: إن النفي فيه نفي الكمال، والحنفية قائلون بأنه لا صلاة كاملًا إلَّا بقراءة فاتحة الكتاب فما زاد، والنفي في الرواية الأولى محمول على الأصل، فلا معارضة في الروايتين، وأما على قولهم يكون الرواية الأولى مطروحة.
قلت: وهذا الجواب على تقدير تسليم صحة الرواية في الحديث الثاني "إلَّا بقراءة فاتحة الكتاب" بإضافة "قراءة" إلى "فاتحة الكتاب"، وأما إذا كانت
(1) وبسط الكلام على الفاتحة ابن العربي. [انظر: عارضة الأحوذي" (2/ 46)]. (ش).
819 -
حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا جَعْفَرٌ، عَنْ أَبِى عُثْمَانَ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ:"أَمَرَنِى رَسُولُ (1) اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أُنَادِىَ أَنَّهُ لَا صَلَاةَ إلَّا بِقِرَاءَةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَمَا زَادَ". [حم 2/ 428، ك 1/ 239]
===
الرواية "إلَّا بقراءة" بالقطع عن فاتحة الكتاب منونًا من غير إضافة، فحينئذ لا حاجة إلى هذا الجواب، فحينئذ يكون معنى الحديث: لا صلاة إلَّا بقراءة أي بقراءة قرآن ولو بفاتحة الكتاب فما زاد، فيكون معنى الحديثين سواء، والله أعلم.
والثالث: قالوا: أين تقع هذه الرواية على فرض صحتها بجنب الأحاديث المصرحة بفرضية فاتحة الكتاب وعدم إجزاء الصلاة بدونها.
قلت: أولًا: لا يتمشى هذا الجواب في مقابلة الحنفية، فإنهم قائلون بأن الآحاد لا تثبت الفرضية، وثانيًا: أن دعواهم بثبوت التصريح بفرضية فاتحة الكتاب وعدم إجزاء الصلاة بدونها دعوى محض لا دليل عليه، فإن في الأحاديث ليس حديث واحد يثبت صراحة فرضية فاتحة الكتاب في الصلاة وعدم إجزاء الصلاة بدونها، كما ستعرف إن شاء الله في بحث فرضية فاتحة الكتاب.
819 -
(حدثنا ابن بشار) أي محمد، (نا يحيى) القطان، (نا جعفر) بن ميمون، (عن أبي عثمان) النهدي، (عن أبي هريرة قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنادي أنه لا صلاة إلَّا بقراءة فاتحة الكتاب فما زاد) (2) قالوا: والحديث يدل على أنه لا تصح صلاة بغير قراءة الفاتحة، وهو حجة على الحنفية.
قلت: هو حجة للحنفية لا عليهم، فإنهم قالوا بوجوب قراءة الفاتحة
(1) وفي نسخة: "النبي".
(2)
بوب عليه ابن حبان: "باب إباحة تعقيب المرء لفاتحة الكتاب بما تيسر"، وبسط العيني (4/ 478) دلائل ضم السورة، وحكاها الشيخ في الشرح. (ش).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
ووجوب قراءة ما زاد عليها، بل هو حجة على القائلين بفرضية الفاتحة في الصلاة، لأنهم إذا أثبتوا به فرضية الفاتحة لزمهم أن يثبتوا به فرضية شيء من القرآن زائد على الفاتحة أيضًا.
والجواب عنه بأنه قال أبو هريرة: "وإن لم تزد على أم القرآن أجزأت، وإن زدت فهو خير"، رواه البخاري (1)، وله حكم الرفع كما قال الحافظ ففاسد، لأن دعوى كون قول أبي هريرة له حكم الرفع باطل.
قال الشوكاني (2): وعورضت هذه الأحاديث بما في البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة أنه قال في كل صلاة يقرأ: "فما أسمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسمعناكم، وما أخفى عنا أخفينا عنكم، وإن لم تزد على أم القرآن أجزأت، وإن زدت فهو خير"، ولكن الظاهر من السياق أن قوله: "وإن لم تزد
…
إلخ" ليس مرفوعًا، ولا مما له حكم الرفع، فلا حجة فيه، انتهى.
وكذا ما روى البخاري في "جزء القراءة" عن أبي هريرة قال: يجزئ بفاتحة الكتاب وإن زاد فهو خير، ليس بمرفوع حقيقة ولا حكمًا، بل هو قول أبي هريرة، فليس فيه حجة.
وأما ما روى ابن خزيمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قام فصلى ركعتين لم يقرأ فيهما إلَّا بفاتحة الكتاب، فمعناه: أنه قام من الركعتين الأوليين فصلى ركعتين أخريين لم يقرأ فيهما إلَّا بفاتحة الكتاب.
ولو سلم أن المراد من الركعتين الأوليان، فلا يخالف الحنفية أيضًا، فإنهم قالوا: إن من لم يقرأ ما زاد على الفاتحة، فإن كان تركه عمدًا لمصلحة شرعية فلا حرج، وإن كان سهوًا يجب عليه سجدتا السهو، فيمكن أنه صلى الله عليه وسلم تركه
(1)"صحيح البخاري"(772).
(2)
"نيل الأوطار"(2/ 248).
820 -
حَدَّثَنَا الْقَعْنَبِىُّ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ الْعَلَاءِ (1) بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا السَّائِبِ مَوْلَى هِشَامِ بْنِ زُهْرَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ، فَهِىَ خِدَاجٌ، فَهِىَ خِدَاجٌ،
===
عمدًا ليعلم أن الصلاة لا تفسد بتركها، أو سهوًا فسجد فيها ولم يذكر، وحديث ابن خزيمة لم أقف على سنده فنتكلم فيه (2).
820 -
(حدثنا القعنبي، عن مالك، عن العلاء بن عبد الرحمن أنه سمع أبا السائب مولى هشام بن زهرة) قال في "التقريب": يقال: اسمه عبد الله بن السائب (يقول: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من صلى صلاة) قال القاري (3): قال ميرك: التنكير فيه إن أريد به البعضية كالظهر والعصر وغيرهما كان مفعولًا به، لأن الصلاة حينئذ تكون اسمًا لتلك الهيئات المخصوصة، والفعل واقع عليها، وإن أريد الجنس يحتمل أن يكون مفعولًا به، وأن يكون مفعولًا مطلقًا.
(لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي) أي صلاته (خداج، فهي خداج،
(1) أورد بعضهم على الحديث لأجل العلاء بن عبد الرحمن، وضعفه، ورد هذا الإيراد في "التعليق الممجد"(1/ 405)، وما اختلف في الحديث على العلاء بن عبد الرحمن في الرواية عن أبيه أو عن أبي السائب، ذكر الترمذي في "باب سورة فاتحة القرآن" الروايتين كلتيهما معًا، وأثبته البيهقي في "جزء القراءة"(ص 31) فذكر جماعة غير إسماعيل بن أبي أويس التي روته عنهما معًا، نعم، ذكر البخاري في "جزء القراءة" فيه اختلافًا آخر، وهو عن العلاء عن أبيه أو عمن سمعه عن أبي هريرة. (ش).
(2)
أخرجه ابن خزيمة (513)، وأحمد (1/ 282)، وأبو يعلى (2561)، والطبراني في "الكبير"(13016)، وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد"(2681)، وقال: رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني في "الكبير" والبزار، وفيه حنظلة السدوسي، ضعفه ابن معين وغيره ووثَّقه ابن حبان.
(3)
"مرقاة المفاتيح"(2/ 282).
فَهِىَ خِدَاجٌ، غَيْرُ تَمَامٍ». قَالَ: فَقُلْتُ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ إِنِّى أَكُونُ أَحْيَانًا وَرَاءَ الإِمَامِ
===
فهي خداج) (1) أي ناقصة أو منقوصة أو ذات نقصان، من خدجت الناقة ولدها قبل أوان خروجه، وإن كمل خلقه فهي مخدجة، أو ذات خداج.
(غير تمام)(2) قال القاري: بيان خداج أو بدل منه، وفي نسخة: غير تام، أي غير كامل، قيل: إنه تأكيد، وقيل: إنه من قول المصنف، تفسير للخداج، ذكره ابن الملك، والأظهر أنه ليس من كلام المصنف، بل من كلام أحد الرواة، وهو صريح فيما ذهب إليه علماؤنا من نقصان صلاته، فهو مبين لقوله عليه السلام: لا صلاة، إن المراد بها نفي الكمال لا الصحة، فبطل قول ابن حجر: والمراد بهذا الحديث أنها غير صحيحة وبنفي "لا صلاة" نفي صحتها ، لأنه موضوعه، انتهى.
قلت: ما قيل: إنه من قول المصنف، وأيضًا ما قيل: الأظهر أنه من كلام أحد الرواة، غير مسلم، والصحيح أنه من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الحافظ (3) في حديث معاذ في اقتداء المفترض بالمتنفل ردًّا على الطحاوي رحمه الله: إن الأصل عدم الإدراج حتى يثبت التفصيل، فمهما كان مضمومًا إلى الحديث فهو منه، فعلى هذا لا يمكن أن يكون قوله:"غير تمام" مدرجًا، بل يكون من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، أكده صلى الله عليه وسلم بتكرار قوله:"فهي خداج" ثلاثًا، ثم أكده بقوله:"غير تمام"، لئلا يوهم أن من لم يقرأ بفاتحة الكتاب في صلاته تبطل صلاته.
(قال) أبو السائب: (فقلت: يا أبا هريرة إني أكون أحيانًا وراء الإمام)
(1) والحديث أخرجه ابن حبان في "صحيحه"(1789) بلفظ: "لا تجزئ صلاة إلَّا بفاتحة الكتاب" كما في "الزيلعي"، قال الحافظ في "الدراية (1/ 201): تعارض حديث أبي هريرة قصة المسيء في صلاته، قال فيه:"ثم اقرأ ما تيسَّر معك"، قلت: ويعارضه أيضًا ما تقدَّم من ندائه بالقرآن ولو بالفاتحة. (ش).
(2)
قال ابن دقيق العيد في شرح قوله عليه السلام: "إن تسوية الصفوف من تمام الصلاة": إن تمام الشيء يكون خارجًا عن حقيقته، كذا في "النيل"(3/ 238). (ش).
(3)
"فتح الباري"(2/ 196).
قَالَ: فَغَمَزَ ذِرَاعِى وَقَالَ: اقْرَأْ بِهَا يَا فَارِسِىُّ فِى نَفْسِكَ، فَإِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «قَالَ اللَّهُ عز وجل: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِى وَبَيْنَ عَبْدِى نِصْفَيْنِ،
===
فهل نقرأ أم لا؟ (قال: فغمز) أي كبس (ذراعي وقال) أبو هريرة: (أقرأ بها) أي بأم القرآن (يا فارسي في نفسك) سرًّا غير جهر، وبه أخذ الشافعي، وهو مذهب (1) صحابي لا يقوم به حجة على أحد، أو معناه في قلبك باستحضار ألفاظها أو معناها أو معانيها دون مبانيها.
(فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول) وفيه دليل على أن أبا هريرة قال هذا القول بطريق الاستدلال (قال الله تعالى: قسمت الصلاة) أي الفاتحة، وسميت صلاة لما فيها من القراءة وكونها جزءًا من أجزائها (بيني وبين عبدي نصفين).
وتتمة الحديث تدل على أن المراد بها فاتحة الكتاب، والتنصيف ينصرف إلى آيات السورة، لأنها سبع آيات، ثلاث ثناء، وثلاث سؤال، والآية المتوسطة نصفها ثناء، ونصفها دعاء، فإذًا ليست البسملة آية من الفاتحة، وقد تمسك أبو حنيفة ومتابعوه بهذا الحديث على أن البسملة ليست من الفاتحة.
قال النووي (2): وهو من أوضح ما احتجُّوا به، وأجاب أصحابنا وغيرهم ممن يقول: إن البسملة آية من الفاتحة بأجوبة، قال الشوكاني (3): ولا يخفى أن هذه الأجوبة، منها ما هو غير نافع، ومنها ما هو متعسف.
(1) وأيضًا فليس أمره أمر إيجاب، إذ مذهبه من أدرك الركعة فقد أدرك السجدة، ومن فاته قراءة أم القرآن فقد فاته خير كثير، كذا في "الأوجز"(1/ 302)، فقد عبر الفاتحة بالخير، وأيضًا لو كان فرضًا كيف يكون فائته مدرك الفرض، وهو مقدم على رواية البخاري عنه، إذ في سنده نظر. (ش).
(2)
"شرح صحيح مسلم"(2/ 340).
(3)
"نيل الأوطار"(2/ 241).
فَنِصْفُهَا لي وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي، وَلعَبْدِي مَا سَأَلَ".
قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: "اقْرَؤوا، يَقُولُ الْعَبْدُ:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، يَقُولُ الله عز وجل: حَمِدَنِي عَبْدِي. يَقُولُ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، يَقُولُ اللَّهُ عز وجل: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدي (1)،
===
(فنصفها لي ونصفها لعبدي) باعتبار أنها سبع آيات، فثلاث منها ثناء لله تعالى وهي:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ، وثلاث منها سؤال من العبد، وهي:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} إلى آخرِ السورة، وواحدة منها مشترك بين الله تعالى وبين العبد، وهي:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} .
(ولعبدي ما سأل) أي أحد النصفين، وهو دعاء عبدي إياي، وله ما سألني أي بعينه إن كان وقوعه معلقًا على السؤال، وإلَّا فمثله من رفع درجة ودفع مضرة ونحوهما، كذا قيل، والأظهر أن التقدير: لذاتي ما وصف من الثناء، ولعبدي ما سأل من الدعاء.
(قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرؤوا، يقول العبد) وهذا الوصف هو غاية كمال الإنسان، ولذا وصف نبينا عليه الصلاة والسلام في مقام الكرامة {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} (2) و {نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} (3)، {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} (4)، وفي كلام الصوفية: إنه لا مقام أشرف من العبودية، إذ بها ينصرف من جميع الخلق إلى الحق.
({الْحَمْدُ لِلَّهِ (5) رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، يقول الله عز وجل: حمدني عبدي. يقول) أي العبد: ({الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، يقول الله عز وجل: أثنى عليَّ عبدي.
(1) وفي نسخة: "العبد".
(2)
سورة الإسراء: الآية 1.
(3)
سورة الفرقان: الآية 1.
(4)
سورة النجم: الآية 10.
(5)
قال ابن رسلان: هذا أقوى الحجج لمن قال: إن التسمية ليست جزءًا، ولأصحابنا عدة أجوبة، ثم ذكرها. (ش).
يَقُولُ الْعَبْدُ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ، يَقُولُ الله عز وجل: مَجَّدَنِي عَبْدِي، وَهَذ الآيَة بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، يَقُولُ الْعَبْدُ:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، فَهَذ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، وَلعَبْدِي مَا سَأَلَ. يَقُولُ الْعَبْدُ:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} ، فَهَؤُلَاءِ لِعَبْدِي، وَلعَبْدِي مَا سَأَلَ". [م 395، ت 2953، ن 909، جه 838، حم 2/ 460]
===
يقول العبد: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} . يقول الله عز وجل: مجدني عبدي) الحمد الثناء بجميل الفعال، والتمجيد الثناء بصفات الجلال، والثناء مشتمل على الأمرين، ولهذا جاء جوابًا لـ {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} لاشتمال اللفظين على الصفات الذاتية والفعلية، قاله النووي (1).
(وهذه الآية) أي الآتي ذكرها (بينِي وبين عبدي، يقول العبد: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} أي نخصك بالعبادة ({وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}) أي نخصك بالاستعانة على العبادة وغيرها، (فهذه بيني وبين عبدي) لأن العبادة لله تعالى، والاستعانة من الله تعالى (ولعبدي ما سأل) أي بعد هذا.
(يقول العبد: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}) أي ثبتنا على دينِ الإِسلام، أو طريق متابعة الحبيب عليه السلام ({صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}) من النبيين والصديقيين والشهداء والصالحين، وهذا يدل على مذهب البصريين في الوقوف من أن "أنعمت عليهم" آية بخلاف الكوفيين بناء على أن الفاتحة سبع آيات، ولم يذكر البسملة في هذا الحديث.
({غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ}) أي اليهود ({وَلَا الضَّالِّينَ}) أي النصارى (فهولاء) أي الآيات (لعبدي، ولعبدي ما سأل) أي غير هذا، أو المعنى هذا، أو نحو هذا، فاندفع ما قاله بعض من لا علم عنده: لا فائدة في الدعاء،
(1)"شرح صحيح مسلم"(2/ 341).
821 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سعيدٍ وَابْنُ السَّرْحِ قَالَا: نَا سُفْيَانُ، عن الزُّهْرِيِّ، عن مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ، عن عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَصَاعِدًا"
===
لأن المدعو إن قدر وقوعه فهو واقع وإن فقد الدعاء، وإلا فهو غير واقع وإن وقع الدعاء، قال ابن الملك: وهذا يرشد إلى سرعة إجابته. قلت: وإلى الرجاء إلى إجابة سائر حاجته، قاله علي القاري (1).
821 -
(حدثنا قتيبة بن سعيد وابن السرح قالا: نا سفيان، عن الزهري، عن محمود بن الربيع، عن عبادة بن الصامت يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب فصاعدًا) أي فما زاد عليها، كاشتريته بدرهم فصاعدًا، وهو حال، أي فزاد الثمن صاعدًا، كذا في "المجمع"(2)، وفي رواية لمسلم:"لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن فصاعدًا".
وحاصل معنى الحديث: لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب حال كون قراءته زائدة على أم القرآن، قيل: في الحديث دلالة على وجوب قراءة الفاتحة، ولقائل أن يقول: قوله: فصاعدًا يدفعه، لأن الزائد على الفاتحة ليس بواجب، قاله الطيبي، قلت: بل قوله: فصاعدًا يدلس على تأويلنا أن المراد نفي الكمال.
قال العيني (3) في شرح حديث أبي هريرة "وإن لم تزد على أم القرآن أجزأت وإن زدت فهو خير": استدل به الشافعية على استحباب ضم السورة إلى الفاتحة، وهو ظاهر الحديث، وعند أصحابنا يجب ذلك، وبه قال ابن كنانة من المالكية وحكي عن أحمد، وعندنا ضم السورة أو ثلاث آيات من أي سورة شاء من واجبات الصلاة.
(1)"مرقاة المفاتيح"(2/ 285).
(2)
"مجمع بحار الأنوار"(3/ 321).
(3)
"عمدة القاري"(4/ 478).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
وقد وردت فيه أحاديث كثيرة:
منها: ما رواه أبو سعيد قال صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة إلَّا بفاتحة الكتاب وسورة معها"، رواه ابن عدي في "الكامل"، وفي لفظ:"أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقرأ الفاتحة وما تيسر"، وفي لفظ:"لا تجزئ صلاة إلَّا بفاتحة الكتاب ومعها غيرها"، وفي لفظ:"وسورة في فريضة أو في غيرها".
ورواه الترمذي وابن ماجه من حديث أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم، ولا صلاة لمن لم يقرأ بالحمد وسورة في فريضة أو في غيرها".
وروى أبو داود من حديث أبي نضرة عنه قال: "أمرنا أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر"، ورواه أحمد وأبو يعلى في "مسنديهما".
وروى ابن عدي من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجزئ المكتوبة إلَّا بفاتحة الكتاب، وثلاث آيات فصاعدًا".
وروى أبو نعيم في "تاريخ أصبهان" من حديث أبي مسعود الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب وشيء معها".
وقد عمل أصحابنا بكل الحديث حيث أوجبوا قراءة الفاتحة وضم سورة أو ثلاث آيات معها ، لأن هذه الأخبار أخبار آحاد، فلا تثبت بها الفريضة، وليس الفرض عندنا إلَّا مطلق القراءة لقوله تعالى:{فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} (1)، وقلنا: إن قوله: "لا صلاة إلَّا بفاتحة الكتاب"، مثل معنى قوله:"لا صلاة لجار المسجد إلَّا في المسجد"، وصح عن جماعة من الصحابة إيجاب ذلك.
(1) سورة المزمل: الآية 20.
قَالَ سُفْيَانُ: لِمَنْ يُصَلِّي وَحْدَهُ. [خ 756، م 394، ن 910، ت 247، حم 5/ 314، جه 837]
822 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ النُّفَيْلِىُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ
===
وأما استدلال الإِمام الشافعي رحمه الله بقول أبي هريرة فليس بسديد، لأنه قد تقدم قريبًا أنه ليس بحديث مرفوع ولا في حكم الرفع، بل هو قول أبي هريرة فقط، فلا حجة فيه.
(قال سفيان) أي ابن عيينة، وهذا الحكم أي نفي الصلاة بعدم القراءة بفاتحة الكتاب فصاعدًا (لمن يصلي وحده)، فأما إذا كان مقتديًا بإمام فليس له هذا الحكم، بل يكفيه قراءة إمامه، قال الخطابي (1): هذا عموم لا يجوز تخصيصه إلَّا بدليل.
قلت: والدلائل على تخصيصه كثيرة، منها: قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} (2)، ومنها: ما رواه مسلم (3) وغيره: "وإذا قرأ فأنصتوا"، ومنها: ما قال جابر: من صلى ركعة لم يقرأ فيها بأم القرآن فلم يصل إلَّا وراء الإِمام (4)، وهذا الحديث وإن كان موقوفًا لكنه في حكم المرفوع، ومنها: حديث جابر المرفوع: "من كان له إمام فقراءة الإِمام له قراءة"، وإسناده صحيح (5).
822 -
(حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي، نا محمد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن مكحول، عن محمود بن الربيع، عن عبادة (6) بن
(1)"معالم السنن"(1/ 285).
(2)
سورة الأعراف: الآية 204.
(3)
"صحيح مسلم"(404).
(4)
أخرجه مالك في "موطئه"(183). انظر: "أوجز المسالك"(2/ 162).
(5)
أخرجه ابن ماجه في "سننه"(850).
(6)
قال النيموي (1/ 77): الحديث معلول بثلاثة أوجه كما سيأتي في "البذل". (ش).
الصَّامِتِ قَالَ: كُنَّا خَلْفَ رَسُولِ (1) اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِى صَلَاةِ الْفَجْرِ، فَقَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَثَقُلَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ:«لَعَلَّكُمْ تَقْرَءُونَ خَلْفَ إِمَامِكُمْ؟ » قُلْنَا: نَعَمْ، هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: «لَا تَفْعَلُوا إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ،
===
الصامت قال: كنا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي مقتدين به (في صلاة الفجر، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فثقلت عليه القراءة) لقراءة بعض أصحابه خلفه صلى الله عليه وسلم (فلما فرغ)(2) أي من الصلاة (قال: لعلكم تقرؤون خلف إمامكم؟ ) وهذا يدل على أن الصحابة يقرؤون خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم برأيهم بغير إذنه عليه السلام وأمره (قلنا: نعم) أي نقرأ خلفك (هَذًّا) والهَذُّ سرعة القطع أي سريعًا (يا رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تفعلوا) أي قراءة القرآن إذا كنتم خلفي (إلَّا بفاتحة الكتاب) النهي للكراهة، فيكره القراءة وقت قراءة الإِمام للوسوسة، قال الخطابي (3): يحتمل أن يكون النهي من الجهر، ويحتمل أن يكون من الزيادة على الفاتحة، كذا في "الأزهار": قال ميرك: أقول: الاحتمال الثاني أظهر بل الصواب، إذ لو كان المراد الجهر لم يستقم استثناء فاتحة الكتاب.
قلت: يؤيده الرواية الثانية الآتية، وينصره سؤاله عليه السلام أيضًا، لأنه لو كانت قراءتهم جهرًا لما قال:"لعلكم تقرؤون"، لكن لا يفيد الأمر بالسر في القراءة للمأموم مع أنه المقصود في المقام، لئلا يتشوش الإِمام، انتهى ما قاله القاري (4).
قلت: الذي يظهر من الروايات أنهم يقرؤون سرًّا بالهمس، ويخرج منهم
(1) وفي نسخة: "النبي".
(2)
فيه حجة أن الكلام لإصلاح الصلاة لا يجوز، لأنه لو جاز لما أخره إلى الفراغ. (ش).
(3)
انظر: "معالم السنن"(1/ 286).
(4)
"مرقاة المفاتيح"(2/ 301).
فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا". [ت 311، حم 5/ 313، قط 1/ 320، خزيمة 1581]
823 -
حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ الأَزْدِىُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنِى زَيْدُ بْنُ وَاقِدٍ، عَنْ مَكْحُولٍ،
===
صوت الهمس، فحصل به المنازعة في قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنهاهم عن القراءة إلَّا بفاتحة الكتاب، والاستثناء بعد النهي يفيد الإباحة، فأباح لهم قراءة الفاتحة.
ووجه الفرق بين الفاتحة وغيرها من السور أن فاتحة الكتاب كثيرة الدوران على الألسنة لا تخلو عنها صلاة تكرر في الركعات كلها، فلهذا لا تقع المنازعة فيها، وأما السور الأخرى فليست كثيرة الدوران على الألسنة، فتقع المنازعة فيها، فنهاهم عنها، وأباح لهم الفاتحة، ثم لما كان لا يخلو قراءة الفاتحة أيضًا عن شيء من المنازعة نهاهم عنها أيضًا، وقال:"إذا قرأ فأنصتوا" فبهذا تتوافق الروايات.
(فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها) أي لا صلاة موجودة بالوجود الشرعي لمن لم يقرأ بها، ويحتمل أن يكون معناه: لا صلاة موجودة بالوجود الحسي لمن لم يقرأ بها في الصلاة، والمعنى الثاني يناسب استثناء فاتحة الكتاب، ودليل عليه بأنه ليست صلاة خالية عن فاتحة الكتاب، فلكثرة قراءتها في الصلاة لا يقع المنازعة بها، والاحتمال الثالث في معنى هذه الجملة أن يقال: إن معنى قوله: لا صلاة أي لا صلاة كاملة إلَّا بفاتحة الكتاب، كما في قوله عليه السلام:"لا إيمان لمن لا أمانة له"، ونظائره في الحديث كثيرة.
823 -
(حدثنا الربيع بن سليمان الأزدي، نا عبد الله بن يوسف، نا الهيثم بن حميد) قال أبو داود: ثقة، قدري، وقال أبو مسهر الغساني: ضعيف، قدري، (أخبرني زيد بن واقد) الدمشقي، (عن مكحول)، قال الذهبي
عَنْ نَافِعِ بْنِ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ الأَنْصَارِىِّ، قَالَ نَافِعٌ: أَبْطَأَ عُبَادَةُ (1) عَنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ، فَأَقَامَ أَبُو نُعَيْمٍ الْمُؤَذِّنُ الصَّلَاةَ، فَصَلَّى أَبُو نُعَيْمٍ بِالنَّاسِ، وَأَقْبَلَ عُبَادَةُ (2) وَأَنَا مَعَهُ حَتَّى صَفَفْنَا خَلْفَ أَبِى نُعَيْمٍ، وَأَبُو نُعَيْمٍ يَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ، فَجَعَلَ عُبَادَةُ يَقْرَأُ بِأُمِّ الْقُرْآنِ. فَلَمَّا انْصَرَفَ قُلْتُ لِعُبَادَةَ: سَمِعْتُكَ تَقْرَأُ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَأَبُو نُعَيْمٍ يَجْهَرُ. قَالَ: أَجَلْ،
===
في "الميزان": وثَّقه غير واحد، وقال ابن سعد: ضعَّفه جماعة، قلت: هو صاحب تدليس وقد رمي بالقدر، وقال يحيى بن معين: كان قدريًّا ثم رجع، وذكره الحافظ ابن حجر في كتابه "طبقات المدلسين" في الطبقة الثالثة منهم، وهي مَنْ أكثر من التدليس، فلم يحتج الأئمة من أحاديثهم إلَّا بما صرحوا فيه بالسماع، ومنهم من رد حديثهم مطلقًا، ومنهم من قبلهم كأبي الزبير المكي، وقال في ترجمته: يقال: إنه لم يسمع من الصحابة إلَّا عن نفر قليل، ووصفه بذلك ابن حبان، وأطلق الذهبي أنه كان يدلس، ولم أره للمتقدمين إلَّا في قول ابن حبان.
(عن نافع بن محمود بن الربيع الأنصاري) يروي عن عبادة، لا يعرف بغير هذا الحديث، وقال ابن عبد البر: نافع مجهول، وقال الحافظ في "التقريب": مستور، ذكره ابن حبان في "الثقات".
(قال نافع: أبطأ عبادة عن صلاة الصبح، فأقام أبو نعيم المؤذن الصلاة) أي أكبر لها (فصلى أبو نعيم بالناس) أي تقدم لهم إمامًا وصلّى بهم، (وأقبل عبادة وأنا- معه حتى صففنا) أي دخلنا في الصف (خلف أبي نعيم، وأبو نعيم يجهر بالقراءة، فجعل عبادة يقرأ بأم القرآن) أي خلف إمامه.
(فلما انصرف) من الصلاة (قلت لعبادة: سمعتك تقرأ بأم القرآن، وأبو نعيم) أي والحال أن أبا نعيم إمامك (يجهر) بالقراءة (قال: أجل) أقرأها
(1) وفي نسخة: "عبادة بن الصامت".
(2)
وفي نسخة: "عبادة بن الصامت".
صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْضَ الصَّلَوَاتِ الَّتِى يَجْهَرُ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ (1).
قَالَ: فَالْتَبَسَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَقَالَ (2):«هَلْ تَقْرَؤْونَ إِذَا جَهَرْتُ بِالْقِرَاءَةِ؟ » فَقَالَ بَعْضُنَا: إِنَّا نَصْنَعُ ذَلِكَ، قَالَ:«فَلَا، وَأَنَا أَقُولُ: مَا لِى يُنَازَعُنِى الْقُرْآنُ؟ ! فَلَا تَقْرَأُوا بِشَىْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ إِذَا جَهَرْتُ إلَّا بِأُمِّ الْقُرْآنِ» . [قط 1/ 319، ق 2/ 165]
824 -
حَدَّثَنَا عَلِىُّ بْنُ سَهْلٍ الرَّمْلِىُّ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، عَنِ ابْنِ جَابِرٍ وَسَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَلَاءِ، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ عُبَادَةَ نَحْوَ حَدِيثِ الرَّبِيعِ بْنِ سُلَيْمَانَ قَالُوا: "فَكَانَ (3) مَكْحُولٌ (4) يَقْرَأُ (5)
===
خلف الإِمام، لأنه (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض الصلوات التي يجهر فيها القراءة. قال: فالتبست عليه القراءة) أي بسبب قراءة المقتدين خلفه.
(فلما انصرف) عن الصلاة (أقبل علينا بوجهه فقال: هل تقرؤون إذا جهرت بالقراءة؟ فقال بعضنا: إنا نصنع ذلك) أي نقرأ خلفك (قال) رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فلا) تقرأوا من القرآن خلفي، (وأنا أقول: مالي ينازعني القرآن؟ ) أي تقع المنازعة في قراءتي القرآن بأني أقرأ ويقرأ من خلفي (فلا تقرأوا بشيء من القرآن إذا جهرت) بالقراءة (إلَّا بأم القرآن).
824 -
(حدثنا علي بن سهل الرملي، نا الوليد) بن مسلم، (عن) عبد الرحمن بن يزيد (بن جابر وسعيد بن عبد العزيز وعبد الله بن العلاء، عن مكحول، عن عبادة نحو حديث الربيع بن سليمان قالوا) أي تلامذة مكحول: (فكان مكحول يقرأ
(1) وفي نسخة: "بالقراءة".
(2)
وفي نسخة: "وقال".
(3)
وفي نسخة: "قال: وكان".
(4)
زاد في نسخة: "يقول".
(5)
وفي نسخة: "أقرأ".
فِى الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَالصُّبْحِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فِى كُلِّ رَكْعَةٍ سِرًّا، قَالَ مَكْحُولٌ: اقْرَأْ بِهَا فِيمَا جَهَرَ بِهِ الإِمَامُ، إِذَا قَرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسَكَتَ سِرًّا، فَإِنْ لَمْ يَسْكُتِ، اقْرَأْ بِهَا (1) قَبْلَهُ وَمَعَهُ وَبَعْدَهُ، لَا تَتْرُكْهَا (2) عَلَى حَالٍ".
===
في المغرب والعشاء والصبح بفاتحة الكتاب في كل ركعة سرًّا، قال مكحول: اقرأ) على صيغة الأمر، ويحتمل أن يكون على صيغة المضارع المتكلم (فيما جهر به الإِمام، إذا قرأ بفاتحة الكتاب وسكت)(3) عن قراءتها (سرَّا) أي اقرأ سرًّا في السكتة، (فإن لم يسكت) الإِمام (اقرأ بها قبله ومعه وبعده، لا تتركها) على صيغة النهي، وفي نسخة: لا نتركها (على حال).
وهذه مسألة (4) اختلف فيها العلماء من الصحابة والتابعين وفقهاء المسلمين، فقالت الحنفية ومن وافقهم: إنه لا يقرأ خلف الإِمام لا في السرية ولا في الجهرية، وقالت الشافعية ومن وافقهم: إنه يقرأ الفاتحة في السرية والجهرية كلتيهما، وقالت المالكية ومن وافقهم: إنه يقرأ الفاتحة في السرية دون الجهرية، ومذهب الإِمام أحمد كمذهب مالك إلَّا أنه قال: إن سمع المقتدي قراءة الإِمام لم يقرأ، وإن لم يسمع بأن كان بعيدًا من الإِمام قرأ.
قال العيني في "شرح البخاري"(5): ثم وجه استدلال الشافعي ومن معه بهذا الحديث وهو أنه نفى جنس الصلاة عن الجواز إلَّا بقراءة فاتحة الكتاب،
(1) وفي نسخة: "قرأتها".
(2)
وفي نسخة: "نتركها".
(3)
هذا وقد أجمعت الأمة على أنه لا يجب على الإِمام السكوت، صرح به ابن العربي في "عارضة الأحوذي"(2/ 110). (ش).
(4)
ومما ينبغي أن يحفظ أن الآثار الواردة عن الصحابة في القراءة خلف الإِمام لا تختص بالفاتحة، بل الوارد عن كثير منهم قراءتها مع السورة، وراجع إلى "مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 406). (ش).
(5)
"عمدة القاري"(4/ 447 - 452).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
واستدل أصحابنا بقوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} (1)، أمر الله تعالى بقراءة ما تيسر من القراءة مطلقًا، وتقييده بالفاتحة زيادة على مطلق النص، وذا لا يجوز، لأنه نسخ، فيكون أدنى ما يطلق القرآن فرضًا لكونه مأمورًا به، وأن القراءة خارج الصلاة ليست بفرض، فتعين أن يكون في الصلاة.
فإن قلت: هذه الآية في صلاة الليل، وقد نسخت فرضيتها، فكيف يصح التمسك بها؟
قلت: ما شرع ركنًا لم يصر منسوخًا، وإنما نسخ وجوب قيام الليل دون فروض الصلاة وشرائطها وسائر أحكامها، ويدل عليه أنه أمر بالقراءة بعد النسخ بقوله:{فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} ، والصلاة بعد النسخ بقيت نفلًا، وكل من شرط الفاتحة في الفرض شرطها في النفل، ومن لا فلا، والآية تنفي اشتراطها في النفل، فلا تكون ركنًا في الفرض لعدم القائل بالفصل.
فإن قلت: كلمة "ما" مجملة، والحديث معين ومبين، فالمعين يقضي على المبهم؟
قلت: كل من قال بهذا يدل على عدم معرفته بأصول الفقه، لأن كلمة "ما" من ألفاظ العموم يجب العمل بعمومها من غير توقف، ولو كانت مجملة لما جاز العمل بها قبل البيان كسائر مجملات القرآن والحديث، ومعناه: أي شيء تيسر، ولا يسوغ ذلك فيما ذكروه، فيلزم الترك بالقرآن والحديث، والعام عندنا لا يحمل على الخاص مع ما في الخاص من الاحتمالات.
فإن قلت: هذا الحديث مشهور، فإن العلماء تلقته بالقبول فتجوز الزيادة بمثله؟
(1) سورة المزمل: الآية 20.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
قلت: لا نسلم أنه مشهور، لأن المشهور ما تلقاه التابعون بالقبول، وقد اختلف التابعون في هذه المسألة، ولئن سلمنا أنه مشهور فالزيادة بالخبر المشهور إنما تجوز إذا كان محكمًا، أما إذا كان محتملًا فلا، وهذا الحديث محتمل، لأن مثله يستعمل لنفي الجواز، ويستعمل لنفي الفضيلة كقوله صلى الله عليه وسلم:"لا صلاة لجار المسجد إلَّا في المسجد" والمراد نفي الفضيلة كذا هو.
ويؤيد هذا التأويل قوله تعالى: {إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ} (1) معناه أنهم لا أيمان لهم موثوقًا بها ، ولم ينف وجود الأيمان منهم رأسًا، لأنه قد قال:{وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ} (2)، وعقب ذلك أيضًا بقوله:{أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ} (3).
فثبت أنه لم يرد بقوله: {إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ} نفي الأيمان أصلًا، وهذا يدل على إطلاق لفظة "لا"، والمراد بها نفي الفضيلة دون الأصل، كما ذكرنا من النظير.
وقال بعضهم: ولأن نفي الإجزاء أقرب إلى نفي الحقيقة، ولأنه السابق إلى الفهم فيكون أولى، ويؤيده رواية الإسماعيلي بلفظ:"لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب".
قلت: لا نسلم قرب نفي الإجزاء إلى نفي الحقيقة؛ لأنه محتمل لنفي الإجزاء ولنفي الفضيلة، والحمل على نفي الكمال أولى، بل يتعين لأن نفي الإجزاء يستلزم نفي الكمال، فيكون فيه نفي شيئين، فتكثر المخالفة فيتعين نفي الكمال، ودعواه التأييد بحديث الإسماعيلي وابن خزيمة لا يفيده، لأن هذا ليس
(1) سورة التوبة: الآية 12.
(2)
سورة التوبة: الآية 12.
(3)
سورة التوبة: الآية 13.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
له من القوة ما يعارض ما أخرجه الأئمة الستة، على أن ابن حبان قد ذكر أنه لم يقل في خبر العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة إلَّا شعبة، ولا عنه إلَّا وهب بن جرير.
وقال هذا القائل أيضًا: وقد أخرج ابن خزيمة (1)، عن محمد بن الوليد القرشي، عن سفيان حديث الباب، ولفظه:"لا صلاة إلَّا بقراءة فاتحة الكتاب" فلا يمتنع أن يقال: إن قوله: "لا صلاة" نفي بمعنى النهي، أي لا تصلوا إلَّا بقراءة فاتحة الكتاب، ونظيره ما رواه مسلم (2) من طريق القاسم عن عائشة رضي الله عنها مرفوعًا:"لا صلاة بحضرة الطعام"، فإنه في "صحيح ابن حبان" (3) بلفظ:"لا يصلي أحدكم بحضرة الطعام".
قلت: تنظيره بحديث مسلم غير صحيح، لأن لفظ حديث ابن حبان غير نهي بل هو نفي الغائب، وكلامه يدل على أنه لا يعرف الفرق بين النهي والنفي، وقال أيضًا: استدل من أسقطها -أي من أسقط قراءة الفاتحة عن المأموم- مطلقًا يعني أسرَّ الإِمام أو جهر كالحنفية بحديث: "من صلَّى خلف الإِمام فقراءة الإِمام قراءة له"، لكنه حديث ضعيف عند الحفاظ، وقد استوعب طرقه وعلله الدارقطني وغيره.
قلت: هذا الحديث رواه جماعة من الصحابة وهم: جابر بن عبد الله وابن عمر وأبو سعيد الخدري وأبو هريرة وابن عباس وأنس بن مالك.
فحديث جابر أخرجه ابن ماجه (4) عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان له إمام فإن قراءة الإِمام قراءة له".
(1)"صحيح بن خزيمة"(488).
(2)
"صحيح مسلم"(560).
(3)
"صحيح ابن حبان"(2074).
(4)
"سنن ابن ماجه"(850).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
وحديث ابن عمر أخرجه الدارقطني في "سننه"(1) عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من كان له إمام فقراءة الإِمام له قراءة".
وحديث أبي سعيد أخرجه الطبراني في "الأوسط"(2) عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان له إمام فقراءة الإِمام له قراءة".
وحديث أبي هريرة أخرجه الدارقطني في "سننه"(3) من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعًا نحوه سواء.
وحديث ابن عباس أخرجه الدارقطني (4) أيضًا عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تكفيك قراءة الإِمام خافت أو جهر".
وحديث أنس أخرجه ابن حبان في "كتاب الضعفاء" عن غنيم بن سالم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان له إمام فقراءة الإِمام له قراءة".
فإن قلت: في حديث جابر بن عبد الله جابر الجعفي وهو مجروح، كذبه أبو حنيفة وغيره، وفي حديث أبي سعيد إسماعيل بن عمر بن نجيح وهو ضعيف، وحديث ابن عمر موقوف، قال الدارقطني: رفعه وهم، وحديث ابن عباس عن أحمد هو حديث منكر، وقال الدارقطني: حديث أبي هريرة لا يصح عن سهيل، وتفرد به محمد بن عباد وهو ضعيف، وفي حديث أنس غنيم بن سالم، قال ابن حبان: هو مخالف الثقات في الروايات فلا تعجبني الرواية عنه، فكيف الاحتجاج؟
قلت: أما حديث جابر فله طرق أخرى يشد بعضها بعضًا، منها طريق
(1)"سنن الدارقطني"(1/ 326).
(2)
"المعجم الأوسط"(7575).
(3)
"سنن الدارقطني"(1/ 333).
(4)
"سنن الدارقطني"(1/ 331).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
صحيح، وهو ما رواه محمد بن الحسن في "الموطأ"(1) عن أبي حنيفة، قال: أخبرنا الإِمام أبو حنيفة، حدثنا أبو الحسن موسى بن أبي عائشة، عن عبد الله بن شداد، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"من صلَّى خلف الإِمام فإن قراءة الإِمام له قراءة".
فإن قلت: هذا الحديث أخرجه الدارقطني في "سننه"(2) ثم البيهقي (3) عن أبي حنيفة مقرونًا بالحسن بن عمارة، وعن الحسن بن عمارة وحده بالإسناد المذكور، ثم قال: هذا الحديث لم يسنده عن جابر بن عبد الله غير أبي حنيفة والحسن بن عمارة، وهما ضعيفان، وقد رواه سفيان الثوري وأبو الأحوص وشعبة وإسرائيل وشريك وأبو خالد الدالاني وسفيان بن عيينة وغيرهم عن أبي الحسن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا، وهو الصواب.
قلت: لو تأدب الدارقطني واستحيى لما تلفظ بهذه اللفظة في حق أبي حنيفة، فإنه إمام طبق علمه الشرق والغرب، ولما سئل ابن معين عنه فقال: ثقة مأمون ما سمعت أحدًا ضعفه، هذا شعبة بن الحجاج يكتب إليه أن يحدث وشعبة شعبة، وقال أيضًا: كان أبو حنيفة ثقة من أهل الدين والصدق، ولم يتهم بالكذب، وكان مأمونًا على دين الله تعالى صدوقًا في الحديث، وأثنى عليه جماعة من الأئمة الكبار مثل عبد الله بن المبارك ويعد من أصحابه، وسفيان بن عيينة وسفيان الثوري وحماد بن زيد وعبد الرزاق ووكيع وكان يفتي برأيه، والأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد وآخرون كثيرون، وقد ظهر لك من هذا تحامل الدارقطني عليه وتعصبه الفاسد، وليس له مقدار بالنسبة إلى هؤلاء حتى يتكلم في إمام متقدم على هؤلاء في الدين والتقوى والعلم، وبتضعيفه إياه
(1) انظر: "موطأ محمد مع التعليق الممجد"(1/ 415) رقم الحديث (117).
(2)
"سنن الدارقطني"(1/ 324 - 325).
(3)
"السنن الكبرى"(2/ 160).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
يستحق هو التضعيف، أفلا يرضى بسكوت أصحابه عنه، وقد روى في "سننه" أحاديث سقيمة ومعلولة ومنكرة وغريبة وموضوعة؟ ولقد روى أحاديث ضعيفة في كتابه "الجهر بالبسملة"، واحتج بها مع علمه بذلك، حتى إن بعضهم استحلفه على ذلك فقال: ليس فيه حديث صحيح، ولقد صدق القائل:
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه
…
والقوم أعداء له وخصوم
وأما قوله: وقد رواه سفيان الثوري إلى آخره، فلا يضرنا، لأن الزيادة من الثقة مقبولة، ولئن سلمنا فالمرسل عندنا حجة، وجوابنا عن الأحاديث التي قالوا: في أسانيدها ضعفاء، أن الضعيف يتقوى بالصحيح، ويقوي بعضها بعضًا.
وأما قوله في بعضها: فهو موقوف، فالموقوف عندنا حجة، لأن الصحابة عدول، ومع هذا روي منع القراءة خلف الإِمام عن ثمانين من الصحابة الكبار منهم: المرتضى والعبادلة الثلاثة، وأساميهم عند أهل الحديث، فكان اتفاقهم بمنزلة الإجماع، فمن هذا قال صاحب "الهداية" (1) من أصحابنا: وعلى ترك القراءة خلف الإِمام إجماع الصحابة، فسماه إجماعًا باعتبار اتفاق الأكثر، ومثل هذا يسمى إجماعًا عندنا، وذكر الشيخ الإِمام عبد الله بن يعقوب الحارثي السبذموني في كتاب "كشف الأسرار" عن عبد الله بن زيد بن أسلم عن أبيه قال: كان عشرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهون عن القراءة خلف الإِمام أشد النهي: أبو بكر الصديق، وعمر الفاروق، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس -رضي الله تعالى عنهم-.
قلت: روى عبد الرزاق في "مصنفه"(2): أخبرني موسى بن عقبة
(1)(1/ 56).
(2)
"مصنف عبد الرزاق"(2810).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا ينهون عن القراءة خلف الإِمام، وأخرج عن داود بن قيس عن محمد بن بجاد- بكسر الباء الموحدة وتخفيف الجيم-، عن موسى بن سعد بن أبي وقاص قال:[ذكر لي أن سعد بن أبي وقاص قال: ] وددت أن الذي يقرأ خلف الإِمام في فيه حجر.
وأخرج الطحاوي (1) بإسناده عن علي رضي الله عنه أنه قال: من قرأ خلف الإِمام فليس على الفطرة، أراد أنه ليس على شرائط الإِسلام، وقيل: ليس على السنَّة.
وأخرجه ابن أبي شيبة أيضًا في "مصنفه"(2) عن ابن أبي ليلى عن علي -رضي الله تعالى عنه -: من قرأ خلف الإِمام فقد أخطأ الفطرة، وأخرجه الدارقطني كذلك من طرق.
وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(3) عن داود بن قيس عن محمد بن عجلان عنه (4) قال: قال علي: من قرأ مع الإِمام فليس على الفطرة، قال: وقال ابن مسعود: مُلِئَ فوه ترابًا، قال: وقال عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه -: وددت أن الذي يقرأ خلف الإِمام في فيه حجر.
وفي "التمهيد": ثبت عن علي وسعد وزيد بن ثابت أنه لا قراءة مع الإِمام لا فيما أسَرَّ ولا فيما جهر.
وأخرج عبد الرزاق (5) عن الثوري عن أبي منصور عن أبي وائل قال: جاء
(1)"شرح معاني الآثار"(1/ 219).
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 412).
(3)
"مصنف عبد الرزاق"(2806).
(4)
قوله: "عنه" زيادة في الأصل وفي "عمدة القاري"، والظاهر حذفه كما في "المصنف".
(5)
"مصنف عبد الرزاق"(2803).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
رجل إلى عبد الله، فقال: يا أبا عبد الرحمن أقرأ خلف الإِمام؟ قال: أنصت للقرآن فإن في الصلاة شغلًا، وسيكفيك ذلك الإِمام.
وأخرجه الطبراني عن عبد الرزاق وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1) نحوه عن أبي الأحوص عن منصور إلى آخره.
قلت: روى الطحاوي (2) من حديث أبي إبراهيم التيمي قال: سألت عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه - عن القراءة خلف الإِمام، فقال لي: اقرأ، قلت: وإن كنت خلفك؟ قال: وإن كنت خلفي، قلت: وإن قرأت؟ قال: وإن قرأت.
وأخرج أيضًا عن مجاهد قال: سمعت عبد الله بن عمرو يقرأ خلف الإِمام في صلاة الظهر من سورة مريم.
ثم أجاب بقوله: وقد روي عن غيرهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خلاف ذلك، ثم روى حديث علي الذي ذكرنا آنفًا، وأخرج حديث ابن مسعود الذي أخرجه عبد الرزاق الذي ذكرناه آنفًا، ثم أخرج عن أبي بكرة: حدثنا أبو داود، حدثنا حُديج بن معاوية، عن أبي إسحاق، عن علقمة، عن ابن مسعود قال: ليت الذي يقرأ خلف الإِمام مُلِئَ فوه ترابًا.
وأخرج أيضًا عن يونس بن عبد الأعلى قال: حدثنا عبد الله بن وهب قال: أخبرني حيوة بن شريح، عن بكر بن عمرو، عن عبيد الله بن مقسم أنه سأل عبد الله بن عمر وزيد بن ثابت وجابر بن عبد الله، فقالوا: لا تقرأ خلف الإِمام في شيء من الصلوات.
ثم قال الطحاوي: فهؤلاء جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قد أجمعوا على
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(1/ 412).
(2)
"شرح معاني الآثار"(1/ 218 - 219).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
ترك القراءة خلف الإِمام، وقد وافقهم على ذلك ما قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم مما قدمنا ذكره، وأشار به إلى أحاديث الصحابة الذين رووا ترك القراءة خلف الإِمام.
فإن قلت: أخرج البيهقي من حديث الجريري عن أبي الأزهر قال: سئل ابن عمر عن القراءة خلف الإِمام، فقال: إني لأستحيي من رب هذه البنية أن أصلي صلاة لا أقرأ فيها بأم القرآن.
قلت: هذه معارضة باطلة، فإن إسناد ما ذكره منقطع، والصحيح عن ابن عمر عدم وجوب القراءة خلف الإِمام.
فإن قلت: قوله صلى الله عليه وسلم: "قراءة الإِمام قراءة له" معارض لقوله تعالى: {فَاقْرَءُوا} فلا يجوز تركه بخبر الواحد.
قلت: جعل المقتدي قارئًا بقراءة الإِمام فلا يلزم الترك، أو نقول: إنه خص منه المقتدي الذي أدرك الإِمام في الركوع فإنه لا يجب عليه القراءة بالإجماع، فتجوز الزيادة عليه حينئذٍ بخبر الواحد.
فإن قلت: قد حمل البيهقي في "كتاب المعرفة"(1) حديث "من كان له إمام فقراءة الإِمام قراءة له" على ترك الجهر بالقراءة خلف الإِمام، وعلى قراءة فاتحة دون السورة (2)، واستدل عليه بحديث عبادة بن الصامت المذكور.
قلت: ليس في شيء من الأحاديث بيان القراءة خلف الإِمام فيما جهر، والفرق بين الإسرار والجهر لا يصح، لأن فيه إسقاط الواجب بمسنون على زعمهم، قاله إبراهيم بن الحارث.
(1)(3/ 80).
(2)
قلت: نقله المصنف رحمه الله عن "عمدة القاري"(4/ 450) وهو تحريف، والصواب:"وعلى قراءة السورة دون الفاتحة". انظر: "معرفة السنن والآثار"(3/ 80).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
فإن قلت: أخرج مسلم وأبو داود وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلَّى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج فهي خداج فهي خداج غير تمام"، فهذا يدل على الركنية.
قلت: لا نسلم، لأن معناه ذات خداج، أي نقصان، بمعنى صلاته ناقصة، ونحن نقول به، لأن النقصان في الوصف لا في الذات، ولهذا قلنا بوجوب قراءة الفاتحة.
فإن قلت: قوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ} عام خص منه البعض، وهو ما دون الآية، فإن عند أبي حنيفة أدنى ما يجزئ عن القراءة آية تامة، لأن ما دون الآية خارج بالإجماع، فإذا كان كذلك يجوز تخصيصه بخبر الواحد وبالقياس أيضًا.
قلت: القرآن يتناول ما هو معجز عرفًا، فلا يتناول ما دون الآية.
فإن قلت: روى أبو داود: حدثنا ابن بشار، حدثنا يحيى، حدثنا جعفر، عن أبي عثمان، عن أبي هريرة قال:"أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنادي أنه لا صلاة إلَّا بقراءة فاتحة الكتاب فما زاد".
قلت: هذا الحديث روي بوجوه مختلفة، فرواه البزار ولفظه:"أمر مناديًا فنادى"، وفي "كتاب الصلاة" لأبي الحسين أحمد بن محمد الخفاف:"لا صلاة إلَّا بقرآن ولو بفاتحة الكتاب فما زاد"، وفي "الصلاة" للفريابي:"أنادي في المدينة أن لا صلاة إلَّا بقراءة أو بفاتحة الكتاب فما زاد"، وفي لفظ:"فناديت: أن لا صلاة إلَّا بقراءة فاتحة الكتاب"، وعند البيهقي:"إلَّا بقراءة فاتحة الكتاب فما زاد"، وفي "الأوسط":"في كل صلاة قراءة ولو بفاتحة الكتاب".
وهذه الأحاديث كلها لا تدل على فرضية قراءة الفاتحة، بل غالبها ينفي الفرضية، فإن دلت إحدى الروايتين على عدم جواز الصلاة إلَّا بالفاتحة دلَّت
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
الأخرى على جوازها بلا فاتحة، فنعمل بالحديثين، ولا نهمل أحدهما بأن نقول بفرضية مطلق القراءة، وبوجوب قراءة الفاتحة، وهذا هو العدل في باب إعمال الأخبار.
وأيضًا في حديث أبي داود المذكور أمران:
أحدهما: أن جعفرًا المذكور في سنده هو جعفر بن ميمون فيه كلام حتى صرح النسائي أنه ليس بثقة.
والثاني: أنه يقتضي فرضية ما زاد على الفاتحة، لأن معنى قوله: فما زاد، الذي زاد على الفاتحة، أو بقراءة زيادة على الفاتحة، وليس ذلك مذهب الشافعي.
وقد روى أبو داود من حديث عبادة بن الصامت يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب فصاعدًا"، قال سفيان: لمن يصلي وحده.
قلت: معناه: لا صلاة كاملة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب زائدة على الفاتحة، وقال سفيان هو ابن عيينة أحد رواة هذا الحديث: هذا لمن يصلي وحده، يعني في حق من يصلي وحده، وأما المقتدي فإن قراءة الإِمام قراءة له، وكذا قال الإسماعيلي في روايته: إذا كان وحده، فعلى هذا يكون الحديث مخصوصًا في حق المنفرد، فلم يبق للشافعية بعد هذا دعوى العموم، وحديث عبادة هذا أخرجه البخاري كما ذكر وليس فيه لفظة: فصاعدًا.
فإن قلت: قال البخاري في "كتاب القراءة خلف الإِمام": وقال معمر عن الزهري: فصاعدًا، وعامة الثقات لم تتابع معمرًا في قوله: فصاعدًا.
قلت: هذا سفيان بن عيينة قد تابع معمرًا في هذه اللفظة، وكذلك تابعه فيها صالح والأوزاعي وعبد الرحمن بن إسحاق وغيرهم كلهم عن الزهري.
فإن قلت: أخرج أبو داود عن القعنبي عن مالك عن العلاء بن عبد الرحمن
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
أنه سمع أبا السائب مولى هشام بن زهرة يقول: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلَّى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن" الحديث، وقد ذكرناه عن قريب وفيه:"فقلت: يا أبا هريرة إني أكون أحيانًا وراء الإِمام، قال: فغمز ذراعي وقال: اقرأ بها في نفسك يا فارسي"، الحديث، والخطاب لأبي السائب، وقال النووي: هذا يؤيد وجوب قراءة الفاتحة على المأموم، ومعناه: اقرأها سرًّا بحيث تسمع نفسك.
قلت: هذا لا يدل على الوجوب، لأن المأموم مأمور بالإنصات لقوله تعالى:{وَأَنْصِتُوا} والإنصات: الإصغاء، والقراءة سرًّا بحيث يسمع نفسه تخل بالإنصات، فحينئذٍ يحمل ذلك على أن المراد تدبر ذلك وتفكره، ولئن سلمنا أن المراد هو القراءة حقيقة، فلا نسلم أنه يدل على الوجوب، على أن بعض أصحابنا استحسنوا ذلك على سبيل الاحتياط في جميع الصلوات، ومنهم من استحسنها في غير الجهرية، ومنهم من رأى ذلك إذا كان الإِمام لحَّانًا.
ومما يؤيد ما ذهب إليه أصحابنا ما أخرجه أبو داود من حديث أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: "إنما جعل الإِمام ليؤتم به" بهذا الخبر، وزاد:"وإذا قرأ فأنصتوا" رواه النسائي وابن ماجه والطحاوي، وهذا حجة صريحة في أن المقتدي لا يجب عليه أن يقرأ خلف الإِمام أصلًا على الشافعي في جميع الصلوات، وعلى مالك في الظهر والعصر.
فإن قلت: قد قال أبو داود عقيب إخراجه هذا الحديث: وهذه الزيادة يعني: "إذا قرأ فأنصتوا" ليست بمحفوظة، الوهم عندنا من أبي خالد، وأبو خالد أحد رواته، واسمه سليمان بن حيان بفتح الحاء وتشديد الياء آخر الحروف، وهو من رجال الجماعة.
وقال البيهقي في "المعرفة"(1): أجمع الحفاظ على خطأ هذه اللفظة،
(1)"معرفة السنن والآثار"(2/ 46).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
وأسند عن ابن معين في "سننه الكبير"، قال في حديث ابن عجلان: وزاد: "إذا قرأ فأنصتوا" ليس بشيء، وكذا قال الدارقطني في حديث أبي موسى الأشعري:"وإذا قرأ الإِمام فأنصتوا"، وقد رواه أصحاب قتادة الحفاظ عنه، منهم: هشام الدستوائي وسعيد وشعبة وهمام وأبو عوانة وأبان وعدي بن أبي عمارة ولم يقل واحدٌ منهم: "وإذا قرأ فأنصتوا"، قال: وإجماعهم يدل على وهمه، وعن أبي حاتم: ليست هذه الكلمة بمحفوظة، إنما هي من تخاليط ابن عجلان.
قلت: في هذا كله نظر، أما ابن عجلان فإنه وثَّقه العجلي، وفي "الكمال" ثقة كثير الحديث، وقال الدارقطني: إن مسلمًا أخرج له في "صحيحه"، قلت: أخرج له الجماعة والبخاري مستشهدًا وهو محمد بن عجلان المدني، فهذه زيادة ثقة فتقبل، وقد تابعه عليها خارجة بن مصعب ويحيى بن العلاء كما ذكره البيهقي في "سننه الكبير".
وأما أبو خالد فقد أخرج له الجماعة كما ذكرنا، وقال إسحاق بن إبراهيم: سألت وكيعًا عنه، فقال: أبو خالد ممن يسأل عنه؟ وقال أبو هشام الرافعي: حدثنا أبو خالد الأحمر الثقة الأمين، ومع هذا لم ينفرد بهذه الزيادة.
وقد أخرج النسائي كما ذكرنا هذا الحديث بهذه الزيادة من طريق محمد بن سعد الأنصاري، ومحمد بن سعد ثقة، وثَّقه يحيى بن معين، وقد تابع ابن سعد هذا أبا خالد، وتابعه أيضًا إسماعيل بن أبان، كما أخرجه البيهقي في "سننه".
وقد صحَّح مسلم هذه الزيادة من حديث أبي موسى الأشعري، ومن حديث أبي هريرة، وقال أبو بكر: لمسلم حديث أبي هريرة، يعني "إذا قرأ فأنصتوا"، قال: هو عندي صحيح، فقال: لِمَ لا تضعه هاهنا؟ قال: ليس كل شيء عندي صحيح وضعته هاهنا، وإنما وضعت هاهنا ما أجمعوا عليه، وتوجد هذه الزيادة أيضًا في بعض نسخ مسلم عقيب الحديث المذكور.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
وفي "التمهيد" بسنده عن ابن حنبل أنه صحَّح الحديثين، يعني حديث أبي موسى وحديث أبي هريرة، والعجب من أبي داود أنه نسب الوهم إلى أبي خالد وهو ثقة بلا شك، ولم ينسب إلى ابن عجلان، وفيه كلام، ومع هذا أيضًا فابن خزيمة صحَّح حديث ابن عجلان، انتهى كلام العيني (1).
وقد تقدم البحث منا في قوله: "إذا قرأ فأنصتوا" في "باب الإِمام يصلي من قعود"، وأورد العلَّامة النيموي في "باب قراءة خلف الإِمام" من كتابه "آثار السنن"(2) حديث عبادة بن الصامت المختصر الذي رواه البخاري ومسلم وغيرهما، وهو حديث مرفوع صحيح.
ثم قال بعد إيراده: وفي الاستدلال بهذه الأحاديث نظر، وقال في تعليقه عليه، قال الترمذي: قال أحمد بن حنبل: معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" إذا كان وحده، وقال أبو داود: وقال سفيان: لمن يصلي وحده، قلت: والأولى أن يقال: إن هذا الحكم لمن كان ضامنًا للصلاة ومتكفلًا لها إمامًا كان أو منفردًا.
ويؤيده ما رواه مسلم في رواية، والنسائي من طريق معمر عن الزهري في آخر حديث الباب لفظ: فصاعدًا.
فإن قلت: قال البخاري في "جزء القراءة": وقال معمر عن الزهري: لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن فصاعدًا، وعامة الثقات لم تتابع معمرًا في قوله: فصاعدًا مع أنه أثبت فاتحة الكتاب، وقوله: فصاعدًا غير معروف، ثم قال: ويقال: إن عبد الرحمن بن إسحاق تابع معمرًا، وإن عبد الرحمن ربما روى عن الزهري، ثم أدخل بينه وبين الزهري غيره، ولا نعلم أن هذا من صحيح حديثه أم لا، انتهى كلامه.
(1)"عمدة القاري"(4/ 452).
(2)
(1/ 75).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
قلت: تابعه سفيان بن عيينة أيضًا عن الزهري في قوله: فصاعدًا عند أبي داود، فالزيادة صحيحة، وأخرج أحمد والبخاري في "جزء القراءة" وأبو داود وابن الجارود عن أبي هريرة أن النبي- صلى الله عليه وسلم أمره أن يخرج فينادي:"لا صلاة إلَّا بقراءة فاتحة الكتاب وما زاد"، انتهى، رجاله ثقات إلَّا جعفر بن ميمون، قال ابن معين: ليس بذاك، وقال مرة: صالح الحديث، وقال الدارقطني: يعتبر به، وقال ابن عدي: لم أر أحاديثه منكرة، كذا في "الميزان"، وقال الحافظ في "التقريب": صدوق يخطئ، انتهى، قلت: فالحديث حسن.
وأخرجه الحاكم في "المستدرك"(1) من طريق يحيى بن سعيد القطان عن جعفر بن ميمون، وقال: هذا حديث صحيح لا غبار عليه، فإن جعفر بن ميمون العبدي من ثقات البصريين، ويحيى بن سعيد لا يحدث إلَّا عن الثقات، انتهى.
وأخرج أبو داود وأبو يعلى وابن حبان بإسناد صحيح عن أبي سعيد، قال: أمرنا أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر، انتهى، فقوله: فصاعدًا، وما زاد، وما تيسر يدل على أن قراءة ما زاد على الفاتحة من السورة واجبة في الصلاة، وعند الجمهور ليس هذا الحكم إلَّا لمن كان إمامًا أو يصلي وحده، لا على المأموم، فكذلك تحمل قراءة الفاتحة عليهما لا على المأموم.
فإن سلمنا أن قراءة الفاتحة واجبة على كل من يصلي إمامًا كان أو مأمومًا أو منفردًا.
قلنا: إن القراءة أعم من أن يكون حقيقة أو حكمًا، والمأموم يقرأ حكمًا لقوله عليه الصلاة والسلام:"قراءة الإِمام له قراءة"، وسيجيء البحث على هذا الحديث.
(1)(1/ 365) رقم (872).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
فإن قلت: أخرج البيهقي في "كتاب القراءة"(1) على ما نقله السيوطي في "جمع الجوامع": عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب خلف الإِمام"، ثم قال: إسناده صحيح، والزيادة التي فيه صحيحة مشهورة من أوجه كثيرة، قلت: الحديث ضعيف وإن كان إسناده على ما زعمه البيهقي صحيحًا، لأن زيادة قوله:"خلف الإِمام" شاذة لا يتابع عليها، ويدل عليه الحديث الذي أخرجه الشيخان، وكذلك سائر طرق عبادة، وتأويل البيهقي بأنها صحيحة مشهورة من أوجه كثيرة يشير إلى ذلك، انتهى.
قلت: وعندي وجه النظر في الاستدلال بحديث عبادة أن هذا الحديث مختصر من حديث طويل أخرجه أبو داود والترمذي والبخاري في "جزء القراءة" والآخرون من حديث عبادة، ولفظه:"قال: كنا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فثقلت عليه القراءة، فلما فرغ قال: لعلكم تقرؤون خلف إمامكم؟ قلنا: نعم هذّا يا رسول الله، قال: لا تفعلوا إلَّا بفاتحة الكتاب، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها"، فاختصر الراوي هذا الحديث، وأخذ من قوله:"فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها"، وروى على ما فهم منه بلفظ:"لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب".
فالأصل في الحجة هذا الحديث لا الحديث المختصر، فإن مبناه على ما فهمه الراوي من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحجة في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا فيما فهمه الراوي من لفظ الحديث، ولفظ أصل الحديث لا يستدل به على ركنية فاتحة الكتاب، لأن قوله صلى الله عليه وسلم:"فإنه لا صلاة" دليل على إباحة فاتحة الكتاب للمأموم، لأن في قوله صلى الله عليه وسلم استثنى الفاتحة بعد نهيه عن القراءة، والاستثناء بعد النهي يفيد الإباحة، فلو كان معنى قوله:"لا صلاة لمن لم يقرأ بهما"، أن الصلاة التي لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب باطلة لناقض آخر الكلام أوله، بل معناه أن ليس حال الفاتحة مثل حال السور الآخر، فإن السور لا تقرأ
(1)(ص 70).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
في الصلاة إلَّا أحيانًا، وأما الفاتحة فلا تخلو صلاة عنها، أي لا صلاة موجودة بالوجود الحسي لمن لم يقرأ الفاتحة في الصلاة، ولأجل ذلك كانت كثيرة الدوران على الألسنة، فلا يختلج بها إلَّا القليل، فعلى هذا يوافق آخر الكلام أوله، ولا يثبت وجوب فاتحة الكتاب فضلًا عن كونها ركنًا.
فإن قلت: ثبت بقولكم إباحة قراءة فاتحة الكتاب خلف الإِمام وأنتم تمنعونها.
قلت: نمنعها بما صح عنه صلى الله عليه وسلم لحديث أبي موسى الأشعري كما ذكره مسلم، وبحديث أبي هريرة صححهما مسلم رحمه الله:"وإذا قرأ فأنصتوا" لتتوافق الأحاديث.
ثم العلامة النيموي (1) بعد ما أخرج الحديث الطويل لعبادة بن الصامت، قال: فيه مكحول، وهو يدلس، رواه معنعنًا، وقد اضطرب في إسناده، ومع ذلك قد تفرد بذكر محمود بن الربيع عن عبادة في طريق مكحول محمدُ بن إسحاق، وهو لا يحتج بما انفرد به، فالحديث معلول بثلاثة أوجه.
وقال في "التعليق": قال في "الجوهر النقي"(2): والكلام في ابن إسحاق معروف، والحديث مع ذلك مضطرب الإسناد، والبيهقي بين بعضه، انتهى كلامه.
قلت: رواه مكحول مرة عن عبادة بن الصامت مرسلًا وأخرى عن نافع بن محمود عن عبادة، وتارةً عن محمود عن عبادة، وآوِنةً (3) عن محمود عن أبي نعيم أنه سمع عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال، الحديث، أخرجه الدارقطني (4) من طريق الوليد بن مسلم حدثني غير واحد منهم سعيد بن عبد العزيز عن مكحول
(1)"آثار السنن"(1/ 76).
(2)
"الجوهر النقي" مع "السنن الكبرى"(2/ 164).
(3)
في "مختار الصحاح": هو يفعل ذلك الأمر آونة إذا كان يفعله مرارًا ويدعه مرارًا.
(4)
"سنن الدارقطني"(1/ 319).