الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(149) بَابُ طُولِ القِيامِ مِنَ الرُّكُوعِ وَبَيْنَ السَّجدَتَيْنِ
851 -
حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنِ ابْنِ أَبِى لَيْلَى، عَنِ الْبَرَاءِ:"أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ سُجُودُهُ وَرُكُوعُهُ وَقُعُودُهُ وَمَا بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ قَرِيبًا مِنَ السَّوَاءِ". [خ 792، م 471، ت 280، ن 1065، ق 2/ 122]
===
(149)
(بَابُ طُولِ الْقِيَامِ مِنَ الرُّكُوعِ) أي: طول القيام في القومة (وَبَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ) أي: الجلسة بينهما
851 -
(حدثنا حفص بن عمر، نا شعبة، عن الحكم، عن) عبد الرحمن (بن أبي ليلى، عن البراء: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان سجوده وركوعه وقعوده (1) وما بين السجدتين قريبًا من السواء) هكذا في أكثر النسخ بالواو بعد قعوده، وفي بعضها من غير واو، أي قعوده ما بين السجدتين، فعلى النسخة الثانية معناه ظاهر بأن المراد من القعود هو الجلسة بين السجدتين، ويؤيده جميع الروايات التي أخرجها المحدثون بهذا السند في كتبهم، فإنهم ذكروا في هذا الحديث هذه الجلسة.
فإن البخاري أخرج في "باب استواء الظهر في الركوع" من طريق شعبة: أخبرنا الحكم عن ابن أبي ليلى، عن البراء قال: كان ركوع النبي صلى الله عليه وسلم وسجوده وبين السجدتين وإذا رفع رأسه من الركوع ما خلا القيام والقعود قريبًا من السواء.
ثم أخرج في "باب الطمأنينة حين يرفع رأسه من الركوع" بهذا السند قال: كان ركوع النبي صلى الله عليه وسلم وسجوده وإذا رفع من الركوع وبين السجدتين قريبًا من السواء، وكذلك سائر المصنفين أخرجوا هذا الحديث في كتبهم، ذكروا الجلسة بين السجدتين.
(1) ليس في نسخة ابن رسلان لفظ قعوده. (ش).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
وأما على النسخة الأولى فلم يذكر القعود أحد، إلَّا ما في أبي داود في الرواية الآتية والدارمي وغيرها فجلسته بين التسليم والانصراف قريبًا من السواء، فلو كان ذكر القعود في هذا الحديث محفوظًا يمكن أن يحمل على هذه الجلسة التي هي بين التسليم والانصراف، وإلا فحديث البخاري الذي فيه ذكر الاستثناء ينفيه، فإن فيه لفظ: ما خلا القيام والقعود، يدل على أن القيام والقعود خارجان عن الاستواء.
والذي أظن فيه أن في حديث أبي داود، إما ذكر القعود غلط من الكاتب، أو حرف الواو كتب الناسخ غلطًا، وعلى هذا المراد من القعود هو الجلسة ما بين السجدتين.
ومعنى قوله: "قريبًا من السواء" أي كان قريبًا من التساوي والتماثل، وقال الطيبي: أي زمان ركوعه وسجوده وبين السجدتين ووقت رفع رأسه من الركوع سواء.
وقال الحافظ (1): قال بعض شيوخ شيوخنا: معنى قوله: "قريبًا من السواء" أن كل ركن قريب من مثله، فالقيام الأول قريب من الثاني، والركوع في الأولى قريب من الثانية.
وكتب مولانا محمد يحيى المرحوم من تقرير شيخه - رحمه الله تعالى-: قوله: وقعوده وما بين السجدتين، ولم يذكر في كثير من النسخ بعد قوله:"وقعوده" واو العطف، وكلاهما صحيح، والمعنى على الأول بيان مساواة الركوع والسجود والقعدة الأولى والجلسة، وعلى الثاني لا تعرض فيه لقعدة التشهد الأولى، انتهى.
وهذا الحديث لا يدل على طول القيام في القومة والجلسة إلَّا على تقدير
(1)"فتح الباري"(2/ 276).
852 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، أَخْبَرَنَا ثَابِتٌ وَحُمَيْدٌ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: مَا صَلَّيْتُ خَلْفَ رَجُلٍ أَوْجَزَ صَلَاةً مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِى تَمَامٍ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَالَ:«سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ» قَامَ حَتَّى نَقُولَ: قَدْ أَوْهَمَ (1)،
===
صحة لفظ القعود وواو العطف، وتأويل الشيخ محمد يحيى المرحوم، نعم قال الحافظ في "الفتح": ومطابقة حديث البراء لقوله: "حد إتمام الركوع" من جهة أنه دالّ على تسوية الركوع والسجود والاعتدال والجلوس بين السجدتين، وقد ثبت في بعض طرقه عند مسلم تطويل الاعتدال، فيؤخذ منه إطالة الجميع، والله أعلم.
852 -
(حدثنا موسى بن إسماعيل، نا حماد، أنا ثابت وحميد، عن أنس بن مالك قال: ما صليت خلف رجل أوجز)(2) أخصر (صلاة من رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي باعتبار غالب الأحوال، وإلَّا ففي بعضها يطول الصلاة تطويلًا كثيرًا (في تمام) أي مع تمام، قال العيني (3): الإيجاز ضد الإطناب، والإكمال ضد النقص، قلت: وكذلك الإتمام، وقال الحافظ (4): المراد بالإيجاز مع الإكمال: الإتيان بأقل ما يمكن من الأركان والأبعاض.
(وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال: سمع الله لمن حمده قام) قيامًا طويلًا في القومة (حتى نقول) بالنصب (قد أوهم)(5) قال في "المجمع"(6): أوهمته: تركته، وأوهمه: إذا أوقعه في الغلط، وعلى الأول معناه وقف حتى قلنا:
(1) وفي نسخة: "وهم".
(2)
بالنصب صفة لمصدر محذوف، "ابن رسلان". (ش).
(3)
"عمدة القاري"(4/ 341).
(4)
"فتح الباري"(2/ 201).
(5)
بسط ابن رسلان في معناه وقال: يحتمل أن يكون بمعنى نسي لرواية مسلم بلفظ: نسي ، نسي أنه في صلاة، أو نسي ما يفعل بعده. (ش).
(6)
(5/ 122).
ثُمَّ يُكَبِّرُ وَيَسْجُدُ، وَكَانَ يَقْعُدُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ حَتَّى نَقُولَ: قَدْ أَوْهَمَ (1). [حم 3/ 203، خ 708، م 469 مختصرًا]
===
ترك ذلك الركوع والاعتدال وعاد إلى القيام من طول قيامه، وعلى الثاني يكون أوهم بضم همزة وكسر هاء، أي أوقع في الغلط.
(ثم يكبر ويسجد وكان يقعد بين السجدتين حتى نقول قد أوهم) قال الشوكاني (2): قال ابن دقيق العيد: هذا الحديث يدل على أن الاعتدال ركن طويل، وحديث أنس أصرح في الدلالة على ذلك بل هو نص فيه، فلا ينبغي العدول عنه لدليل ضعيف، وهو قولهم: لم يسن فيه تكرير التسبيحات كالركوع والسجود، ووجه ضعفه أنه قياس في مقابلة النص.
ثم قال: ومن ثم اختار النووي جواز تطويل الركن القصير بالذكر خلافًا للمرجح (3) في المذهب، قال الحافظ (4): فالعجب ممن يصحح مع هذا بطلان الصلاة بتطويل الاعتدال، وتوجيههم ذلك أنه إذا أطيل انتفت الموالاة معترض بأن معنى الموالاة أن لا يتخلل فصل طويل بين الأركان بما ليس منها، وما ورد به الشرع لا يصح نفي كونه منها، والله تعالى أعلم.
قلت: وتطويل القومة والجلسة الذي ذكره أنس بن مالك في حديثه لم يذكره غيره من الصحابة الذين رووا صفة صلاته، وكذلك لم يأخذ به من الأئمة جمهورهم إلَّا الظاهرية، فلعله كان ذلك في ابتداء الأمر حين كان يطول صلاته، ثم أمر بالتخفيف بعده، أو فعل هذا في صلاة النفل، ويمكن أن
(1) وفي نسخة: "وهم".
(2)
"نيل الأوطار"(2/ 340).
(3)
قال في "الروضة" في فصل ما يبطل الصلاة: السادس: تطويل ركن قصير عمدًا، فالركن القصير هو الاعتدال والجلوس بين السجدتين، وتطويل الاعتدال يكون بالزيادة على قدر الدعاء الوارد فيه بقدر الفاتحة، سواء قرأ الدعاء أم لا، وتطويل الجلوس يكون بالزيادة على قدر الدعاء الوارد فيه بقدر الواجب في التشهد، انتهى. (ش).
(4)
"فتح الباري"(2/ 289).
853 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ وَأَبُو كَامِلٍ - دَخَلَ حَدِيثُ أَحَدِهِمَا فِى الآخَرِ - قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ هِلَالِ بْنِ أَبِى حُمَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى لَيْلَى، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: رَمَقْتُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم وَقَالَ أَبُو كَامِلٍ: رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
===
يكون صلى الله عليه وسلم طولهما حين نهى الناس عن المتقدم على الإِمام، فعل ذلك ليعتادوا أن يسجدوا بعد سجود النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يتقدموا عليه، فنهاهم قولًا، وكفهم عنه فعلًا، على أن سائر الأحاديث التي فيها ذكر القوة والجلسة ليس فيها تطويل، فإن في حديث مسيء الصلاة:"ثم ارفع حتى تعتدل قائمًا، ثم اجلس حتى تطمئن جالسًا".
وكذلك حديث أبي حميد الساعدي في عشرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه:"ثم يوفع رأسه ويقول: سمع الله لمن حمده، ثم يرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه معتدلًا"، وأيضًا فيه:"ثم يرفع رأسه ويثني رجله اليسرى، ويقعد عليها، ويفتح أصابع رجليه إذا سجد ثم يسجد".
هذه وغيرها من الروايات تدل على عدم تطويل القومة والجلسة، وحديث أنس هذا يدل على أن هذا التطويل منه صلى الله عليه وسلم كان على خلاف عادته المستمرة، لأنه لو كان معتادًا يفعله صلى الله عليه وسلم من الزمان المتقدم، لا يمكن أن يحمله أنس بن مالك على أنه صلى الله عليه وسلم أوهم، فحمله على أنه أوهم، فيه دليل صريح على أن هذا التطويل صدر منه في ذلك الوقت، وليس فيه ولا في غيره من الأحاديث ما يدل على أن هذا التطويل استمر بعده، ولعله لأجل هذا لم يأخذ به جمهور الأئمة، والله تعالى أعلم.
853 -
(حدثنا مسدد وأبو كامل، دخل حديث أحدهما في الآخر) أي لم يتميز بعض لفظ حديث أحدهما من لفظ حديث الآخر، بل الحديث المذكور مؤلف من لفظيهما (قالا: نا أبو عوانة، عن هلال بن أبي حميد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن البراء بن عازب قال: رمقت محمدًا صلى الله عليه وسلم) وهذا لفظ مسدد (وقال أبو كامل: رسول الله صلى الله عليه وسلم)، أي لفظ أبو كامل:
فِى الصَّلَاةِ فَوَجَدْتُ قِيَامَهُ كَرَكْعَتِهِ وَسَجْدَتِهِ، وَاعْتِدَالَهُ فِى الرَّكْعَةِ كَسَجْدَتِهِ، وَجَلْسَتَهُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، وَسَجْدَتَهُ مَا بَيْنَ التَّسْلِيمِ وَالاِنْصِرَافِ قَرِيبًا مِنَ السَّوَاءِ.
قَالَ أَبُو دَاوُدَ: قَالَ مُسَدَّدٌ: فَرَكْعَتَهُ وَاعْتِدَالَهُ (1) بَيْنَ الرَّكْعَتَيْنِ فَسَجْدَتَهُ
===
رمقت رسول الله صلى الله عليه وسلم (في الصلاة) وفي رواية مسلم: "رمقت الصلاة مع محمد صلى الله عليه وسلم"(فوجدت قيامه كركعته وسجدته) بالجر عطفًا على الركعة (واعتداله) منصوب عطفًا على قيامه (في الركعة) أي بعد الركوع، والمراد به القومة، ويدل عليه لفظ مسلم، فإن فيه: فاعتداله بعد ركوعه (كسجدته، وجلسته) منصوب بالنصب عطفًا على قيامه (بين السجدتين، وسجدته) منصوب عطفًا على قيامه (ما بين التسليم والانصراف قريبًا (2) من السواء).
ونقل مولانا محمد يحيى المرحوم عن تقرير شيخه رحمه الله: قوله: فوجدت قيامه كركعته وسجدته، أي وجدت كقدر مجموع ركعته وسجدته، أو كركعته وكسجدته، وعلى الأول (3) هما مثل القيام، وعلى الثاني على نصفه، لكن لم يعلم مقدار الركوع والسجود على التوجيه الأخير أيهما أطول، فقال: واعتداله في الركعة أي الركوع كسجدته، فعلم مساواتهما، وأما إذا أريد مساواة القيام لكل منها على حدة، فمعنى:"واعتداله في الركعة" بمعنى من الركعة هو القومة، أي وجدت قومته كسجوده، ووجدت جلسته بين السجدتين وسجدة سهوه لو وقع، لأنها الواقعة بين التسليم والانصراف من السواء، انتهى.
(قال أبو داود: قال مسدد: فركعته واعتداله بين الركعتين) والمراد بالركعتين (4) الركوع والسجود، فأطلق الركوع على السجود تغليبًا (فسجدته)
(1) وفي نسخة: "فاعتداله".
(2)
حمله ابن رسلان على تخفيف القراءة في بعض الأوقات. (ش).
(3)
الظاهر وقع القلب في ذكر الأول والثاني وانعكس. (ش).
(4)
قلت: وما المانع من أن تراد به جلسة الاستراحة. (ش).
فَجَلْسَتَهُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، فَسَجْدَتَهُ فَجَلْسَتَهُ بَيْنَ التَّسْلِيمِ وَالانْصِرَافِ قَرِيبًا (1) مِنَ السَّوَاءِ. [م 471، ن 1332، دي 1334، حم 4/ 294]
===
أي الأولى (فجلسته بين السجدتين، فسجدته) أي الثانية (فجلسته بين التسليم والانصراف قريبًا من السواء).
واعلم أن هذا الحديث أخرجه مسلم (2) من رواية حامد بن عمر وأبي كامل ولفظه: "فوجدت قيامه فركعته، فاعتداله بعد ركوعه، فسجدته، فجلسته بين السجدتين، فسجدته، فجلسته ما بين التسليم والانصراف قريبًا من السواء".
وأخرج النسائي (3) هذا الحديث من طريق عمرو بن عون، قال: حدثنا أبو عوانة بهذا السند، قال:"رمقت رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاته، فوجدت قيامه وركعته، واعتداله بعد الركعة، فسجدته، فجلسته بين السجدتين، فسجدته، فجلسته بين التسليم والانصراف قريبًا من السواء".
وأخرجه أيضًا الإِمام أحمد في "مسنده"(4) من طريق عفان، قال: حدثنا أبو عوانة ولفظه كحديث مسلم.
فيستدل بهذه الأحاديث على أن ما أخرجه أبو داود من لفظ أبي كامل وقع فيه الغلط والتصحيف، فإن كلهم ذكروا الجلسة بين التسليم والانصراف، وقال أبو كامل: وسجدته ما بين التسليم والانصراف، فهذا غلط فيه، وإن حمله بعض الشراح على سجدة السهو، وكان في أصل الرواية: وسجدته وجلسته ما بين التسليم والانصراف فسقط منه لفظ: "فجلسته".
وكذلك إدخال الكاف على ركعته وسجدته، وكذلك ذكر سجدته بعد
(1) وفي نسخة: "قريب".
(2)
"صحيح مسلم"(471).
(3)
"سنن النسائي"(1332).
(4)
"مسند أحمد"(4/ 294).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
ركعته، فكلها وهم فيه وسقوط وتغيير بالتقديم والتأخير والزيادة والنقصان، ولعل ذكر أبي داود حديث مسدد بعد هذا إشارة إلى وهم رواية أبي كامل.
ولكن يشكل هذا بما رواه مسلم من حديث حامد بن عمر وأبي كامل عن أبي عوانة إلَّا أنهما اختلفا، فقال أبو كامل: عن أبي عوانة، وقال حامد: حدثنا أبو عوانة بهذا السند، ثم ساق الحديث، ولم يذكر الاختلاف في لفظيهما، بل ظاهر سياقه يدل على أنهما اتفقا على هذا اللفظ الذي يوافق لفظ مسدد، فكيف يمكن أن يكون سياق أبي كامل عند أبي داود على خلاف سياقه عند مسلم؟
والتقصي عن هذا الإشكال عندي صعب، اللَّهم إلَّا أن يقال: إن أبا كامل لما روى الحديث لمسلم كان حافظًا له، فروأه على وجهه، ثم بعد ذلك لما رواه لأبي داود نسيه، فرواه بالمعنى، وغلط فيه، وهذا على تقدير أن يكون الوهم مضافًا إلى أبي كامل.
ويمكن أن يكون الوهم والغلط من المصنف أبي داود كما يدل عليه قوله: "دخل حديث أحدهما في الآخر" أي لم يحفظ لفظ أحدهما من الآخر، ثم بَيَّنَ ذلك، فميَّز لفظ مسدد من لفظ أبي كامل، فاختلط عليه، ونسب لفظ مسدد إلى أبي كامل، ولفظ أبي كامل إلى مسدد، وكان هذا السياق الذي نسبه إلى أبي كامل سياق مسدد.
وصحة هذا الجواب تتوقف على أن يوجد حديث مسدد في موضع آخر على هذا السياق، ولا يكون مخالفًا له، ولكن تتبعت فما وجدت سياق مسدد عند غير أبي داود.
والأولى أن يقال: إن هذا إن كان غلطًا وتصحيفًا فليس هذا من أبي كامل ولا من المصنف، بل هذا تصحيف نشأ من الناسخ، وتصحيف النساخ أكثر من هذا وأقبح، والله تعالى أعلم.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
قال النووي (1): فيه دليل على تخفيف القراءة والتشهد، وإطالة الطمأنينة في الركوع والسجود وفي الاعتدال عن الركوع وعن السجود، وقوله:"قريبًا من السواء"، يدل على أن بعضها كان فيه طول يسير على بعض، وذلك في القيام، ولعله أيضًا في التشهد.
واعلم أن هذا الحديث محمول على بعض الأحوال، وإلَّا فقد ثبتت الأحاديث السابقة بتطويل القيام، وأنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الصبح بالستين إلى المئة، وفي الظهر بـ: الم السجدة، وأنه كانت تقام الصلاة، فيذهب الذاهب إلى البقيع، فيقضي حاجته، ثم يرجع فيتوضأ، ثم يأتي المسجد، فيدرك الركعة الأولى، وأنه قرأ في المغرب بالطور والمرسلات، وفي البخاري بالأعراف، وأشباه هذا، وكله يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كانت له في إطالة القيام أحوال بحسب الأوقات.
وهذا الحديث الذي نحن فيه جرى في بعض الأوقات، وقد ذكره مسلم في الرواية الأخرى، ولم يذكر فيه القيام، وكذا ذكره البخاري، وفي رواية البخاري:"ما خلا القيام والقعود"، وهذا تفسير الرواية الأخرى، وقوله:"فجلسته بين التسليم والانصراف"، دليل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يجلس بعد التسليم والانصراف شيئًا يسيرًا في مصلاه.
وقال مولانا محمد يحيى المرحوم من تقرير شيخه رحمه الله في شرح قوله: "فجلسته بين التسليم والانصراف": هذه الجلسة ممكن أن يراد به التشهد والقعدة الأخيرة، وكونها بين التسليم والانصراف باعتبار أن يراد بالتسليم السلام عليك أيها النبي، والانصراف هو تسليم التحليل، وأن يراد به جلوسه صلى الله عليه وسلم لانتظار ذهاب النساء، فالتسليم إذًا هو تسليم التحليل والانصراف هو رجوعه إلى بيته صلى الله عليه وسلم، انتهى.
(1)"شرح صحيح مسلم"(3/ 427).