الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الحادي عشر:
تحرير القول في عدالة الصحابة
الصحابي أصل الإسناد، وهو حلقة الوصل بالوحي، وحيث إن العصمة لا تثبت لآحاد الصحابة، فما القول في عدالتهم بركنيها: العدالة الدينية، وإتقان الرواية؟
ولا ريب أن الذي يهمنا هو تمييز شأن الصحابي الذي روى العلم.
فأما العدالة الدينية، فثابتة لجميعهم بتثبيت الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ذلك لهم، والمقصود براءة جميعهم من وصف الفسق، وإنما كان يوجد الفسق في المنافقين، وليسوا صحابة، لتخلف معنى الصحبة فيهم، وليس من هؤلاء بفضل الله من يذكر برواية العلم.
قال ابن حزم: " قد كان في المدينة في عصره عليه السلام منافقون بنص القرآن، وكان بها أيضاً من لا ترضى حاله، كهيت المخنث الذي أمر عليه السلام بنفيه، والحكم الطريد، وغيرهما، فليس هؤلاء ممن يقع عليهم اسم الصحبة "(1).
قلت: وحتى من زنى أو سرق ممن قص علينا نبؤهم، فإن من ثبت
(1) الإحكام في أصول الأحكام (2/ 83).
ذلك عليه فإنه تاب منه وأقيم عليه الحد المطهر، فعاد أمره إلى العدالة بالتوبة.
قال الخطيب: " كل حديث اتصل إسناده بين من رواه وبين النبي صلى الله عليه وسلم لم يلزم العمل به إلا بعد ثبوت عدالة رجاله، ويجب النظر في أحوالهم سوى الصحابي الذي رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل الله لهم، وإخباره عن طهارتهم، واختياره لهم في نص القرآن "(1).
قلت: والأدلة المثبتة عدالة جميع الصحابة كثيرة في الكتاب والسنة من حيث المعموم، ومن حيث التفصيل في كثير من أعيانهم.
من ذلك قوله تعالى: {وكذلك جعلنكم أمة وسطاً} [البقرة: 143].
عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يدعى نوح عليه السلام يوم القيامة، فيقال له: هل بلغت؟ فيقول: نعم، فيدعى قومه فيقال لهم: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، أو: ما أتانا من أحد، قال: فيقال لنوح: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، قال: فذلك قوله: {وكذلك جعلنكم أمة وسطاً}، قال: الوسط: العدل، قال: فيدعون، فيشهدون له بالبلاغ، قال: ثم أشهد عليكم "(2).
(1) الكفاية (ص: 93).
(2)
حديث صحيح. أخرجه وكيع بن الجراح في " نسخته "(رقم: 26) ومن طريقه: أحمد (17/ 372، 383 رقم: 11271، 11283) وابن أبي حاتم في " تفسيره "(رقم: 1332، 1336) و " الجرح والتعديل "(1/ 1 / 2 _ 3) عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد، به. وأخرجه سعيد بن منصور في (التفسير) من " سننه " (رقم: 222) وابن أبي شيبة (11/ 454) وأحمد (17/ 122 رقم: 11068، 18/ 112 رقم: 11558) والترمذي (رقم: 2961) والنسائي في " التفسير "(رقم: 26، 27) وابن ماجة (رقم: 4284) وأبو يعلى (2/ 416 رقم: 1207) وابن أبي حاتم في " تفسيره "(رقم 1331) و " الجرح "(1/ 1 / 2) وابن حبان (16/ 199 رقم: 7216) والبيهقي في " الشعب "(1/ 248 رقم: 265) جميعاً من رواية أبي معاوية الضرير، عن الأعمش، بإسناده به. ولم يذكر ابنُ ماجة والبيهقي تفسير الوسط. واقتصر أحمد في الموضع الأول والترمذي وأبو يعلى ومن بعده سِوى البيهقي على قول أبي سعيد: عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة: 143] قال: " عدلاً ". وقال الترمذي: " حديث حسن صحيح ".
وأخرجه البخاري (رقم: 4217، 6917) من طريق أبي أسامة. و (رقم: 3161) من طريق عبد الواحد بن زياد. والبخاري أيضاً (رقم: 4217) وأبو يعلى (2/ 397 رقم: 1173) من طريق جرير بن عبد الحميد. وكذا البُخاري في " صحيحه "(رقم: 6917) و " خلق أفْعال العِباد "(رقم: 207) وعبْد بن حميد (رقم: 913) والترمذي (رقم: 2961) وابن جرير في " تفسيره "(2/ 7) والبيهقي في " الشعب "(1/ 248 رقم: 264) من طريق جعفرِ بن عون. وابن جرير (2/ 7) من طريق حَفصِ بن غياث، خمستهم عن الأعمش، به.
لم يذكر البخاري في " أفعال العباد " وابنُ ماجة والبيهقي تفسير الوَسط، بينما اقتصرت عليه روايتا ابن جرير، دونَ سائر الحديث. وقال الترمذي:"حديث حسن صحيح ".
خالفهم سُفيان الثوري، فروى الحديث في تفسير (الوَسط) بالعدْل من قول أبي سعيد، ولم يرفعه.
أخرجه ابن جرير (2/ 7) من طريق مُؤمَّل بن إسماعيل، والحاكم (2/ 268 رقم: 3062، وكما في " إتحاف المهرة " 5/ 208 حيث سقط بعض الإسناد من طبعة المستدرك) من طريق حماد بن مسعدة، كلاهما عن الثوري عن الأعمش، بإسناده. وقال الحاكم:" صحيح على شرْط الشيخين ".
قلت: ورفْع هذا اللفظ أظْهر على ما في رواية السبعة عن الأعمش: وكيع وأبي معاوية والخمْسة الآخرين.
وقوله تعالى: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعل ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم} الآية [الفتح: 18]، وقوله عز وجل:{والسابقون الأولون من المهجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه} الآية [التوبة: 100]، وقوله تعالى:{لقد تاب الله على النبي والمهجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة} حتى قوله: {وكونوا مع الصدقين} [التوبة: 117 _ 119]، وقوله {للفقراء المهجرين الذين أخرجوا من ديراهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هو الصدقون} والآية التي بعدها [الحشر: 8 _ 9].
قال الخطيب: " لا يحتاج أحد منهم مع تعديل الله تعالى لهم، المطلع على بواطنهم، إلى تعديل أحد من الخلق له، فهم على هذه الصفة، إلا أن
يثبت على أحد ارتكاب ما لا يحتمل إلا قصد المعصية والخروج من باب التأويل؛ فيحكم بسقوط العدالة، وقد برأهم الله من ذلك، ورفع أقدارهم عنه، على أنه لو لم يرد من الله عز وجل ورسوله فيهم شيء
…
لأوجبت الحال التي كانوا عليها، من الهجرة والجهاد والنصرة، وبذل المهج والأموال، وقتل الآباء والأولاد، والمناصحة في الدين، وقوة الإيمان واليقين؛ القطع على عدالتهم، والاعتقاد لنزاهتهم، وأنهم أفضل من جميع المعدلين والمزكين الذين يجيئون من بعدهم أبد الآبدين. هذا مذهب كافة العلماء، ومن يعتد بقوله من الفقهاء " (1).
وعن البراء بن عازب، قال:" ليس كلنا سمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت لنا ضيعة وأشغال، وكان الناس لم يكونوا يكذبون يومئذ، فيحدث الشاهد الغائب "(2).
وفي رواية، عن البراء، قال: " ما كل ما نحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1) الكفاية (ص: 96).
(2)
أثرٌ صحيح. أخرجه الرامهرمزي في " المحدث الفاصل "(ص: 235) _ ومن طريقه: ابن رُشيْد في " السنن الأبين "(ص: 117) _ والخطيب في " الكفاية "(ص: 548) من طريق إسحاق بن منصور السلولي، والحاكم في " المستدرك " (1/ 127 رقم: 438 وكما في " إتحاف المهرة " لابن حجر 2/ 512) والخطيب في " الجامع لأخلاق الراوي "(رقم: 99) من طريق عبد الله بن مُحمد بن سالم المفْلوج، كلاهما عن إبراهيم بن يوسف بن أبي إسحاق، عن أبيه، عن أبي إسحاق، قال: سمعت البراء بن عازب، به. (في كتابي: المحدث، والمستدرك، سقط).
قال الحاكم: " هذا حديث صحيح على شرْط الشيخين ولم يُخرجاه. ومُحمد بن سالم وابْنه عبْد الله مُحتج بهما. فأما صحيفة إبراهيم بن يوسف بن أبي إسحاق، فقد أخرجها البخاري في الجامع الصحيح ".
قلت: إسناده حسن، من أجل أن إبراهيم بن يوسف لا يتجاوز حديثه الحُسن، وسائر الإسناد ثقات.
وإنما صححته، لكون يوسف لم يتفرد به عن أبيه، بل هو متابع على معناه، كما بينته في (الحديث المرْسل).
سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحدثنا أصحابنا، ولكنا لا نكذب " (1).
وقال قتادة _ وسمع حديثاً من أنس _: قال رجل لأنس: أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: " نعم، وحدثني من لم يكذب، والله ما كنا نكذب، ولا ندري ما الكذب "(2).
وقال حميد الطويل بعد أن ساق حديثاً عن أنس في الشفاعة: فقال له (أي لأنس) رجل: يا أبا حمزة، أسمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: تغير وجهه واشتد عليه، وقال:" ما كل ما نحدثكم سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن لم نكن يكذب بعضنا على بعض "(3).
وليس ما وقع بين الصحابة من اختلاف أفضى إلى الاقتتال فيما بينهم، كالذي وقع في الجمل وصفين، فكان بتأويل، والتأويل لا يقدح في أصل العدالة، بل صاحبه معذور.
وقال ابن حزم: " أما قدامة بن مظعون، وسمرة بن جندب، والمغيرة بن شعبة، وأبو بكرة، رضوان الله عليهم، فأفاضل أئمة عدول "(4).
وبين أن ذلك، لكون قُدامة بدرياً، وكان متأولاً فيما جاء عنه، يعني
(1) أثرٌ صحيح. خرَّجته في (الحديث المرسل) ضِمن (القسم الثاني) من هذا الكتاب.
(2)
أثر حسن. أخرجه يعقوب بن سفيان في " المعرفة والتاريخ "(2/ 633 _ 634) وابن عدي (1/ 263) من طريق عباد بن راشد، عن قتادة، به، وإسناده حسن، عباد لا بأس به.
(3)
أخرجه ابن منده في " الإيمان "(في آخر رقم: 874) من طريق مُعتمر بن سليمان، قال: سمعت حُميداً. وإسناده صحيح. وأخرجه ابن عدي (1/ 261) من طريق يحيى بن أيوب عن حُميد، بنحوه، وإسناده حسن. والطبراني في " الكبير " (1/ 218 رقم: 699) من طريق أبي شهاب الحنَّاط، عن حميد، نحوه. وإسناده حسن كذلك. وجعفر الفِريابي في " فوائده " (ق: 80 / ب) والخطيب في " الجامع " رقم: 100) من طريق حماد بنِ سلمة عن حميد، وإسناده صحيح.
(4)
الإحكام في أصول الأحكام (2/ 84).