الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني:
الدليل على اشتراط عدالة الناقل لقبول خبره
دل على ذلك النصوص النقلية من جهتين:
الأولى: إلغاء القرآن الاعتداد بخبر الفاسق لذاته، في قوله عز وجل:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6].
والفاسق ضد العدل، فإذا ألغى تصديق الفاسق في خبره، وأوجب التحري، من أجل أن الفسق لا يمنع الكذب، بل الكذب ذاته من خصال الفسق، فدل مفهمومه: أن الخبر العدل مقبول.
والجهة الثانية: ما فرض الله من العدالة في الشهود في غير موضع من كتابه، كما قال تعالى:{وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]، وكما قال سبحانه:{مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282].
ووجه الدلالة في ذلك على وجوب العدالة لقبول الأخبار، هو أن إيجاب العدالة في الشاهد من أجل ما يحتاج إليه من صدقه لإثبات الحقوق في الأموال وغيرها، وحق الله أعظم من حقوق العباد، وحفظ الدين من حفظ حق الله، وهو الضرورة العظمى التي دونها سائر الضرورات، كضرورة
المال والنفس والعرض، فإذا أمر الله بفرض العدالة فيمن يشهد على درهم، ففرضها في حق من يقول: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم آكد وأعظم، من جهة اتصال ذلك بحفظ ضرورة الدين.
فكيف إذا ضممت إلى ذلك ما عظمته النصوص المتواترة في الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم؟ فغير العدل لا يمنعه شيء من الكذب.
من أجل ذلك قال الله عز وجل في القذفة: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4].
قال مسلم بن الحجاج: " والخبر وإن فارق معناه معنى الشهادة في بعض الوجوه، فقد يجتمعان في أعظم معانيهما "(1).
قلت: بل شأن الحديث يرجح من بعض الوجوه، خصوصاً في جانب ضبط الرواية، كما سيأتي في ذكر الفرق ما بين الشهادة والرواية.
وهاتان الجهتان اللتان ذكرت ظاهرتان في وجوب حمل الحديث عن العدول، لا عن غيرهم.
وأما ما روي من نصوص مباشرة في اشتراط ذلك فلا يثبت منه شيء، كحديث:" هلاك أمتي في العصبية والقدرية والرواية عن غير ثبت "، فهذا حديث موضوع (2).
(1) مقدمة صحيح مسلم (ص: 9).
(2)
أخرجه الفريابي في " القدر "(رقم: 388) _ وعنه: الطبراني في " الكبير "(11/ 89 _ 90 رقم: 11142) _ وابن أبي عاصم في " السنة "(رقم: 326، 950) _ ومن طريقه: أبو نعيم في " المستخرج (رقم: 39) _ والبزار (رقم: 191 _ كشف الأستار) والرامهرمزي في " المحدث الفاصل " (ص: 412 _ 413) والعقيلي في " الضعفاء " (4/ 359) _ ومن طريقه: ابن الجوزي " الموضوعات " (رقم: 539) _ وابن عدي في " الكامل " (1/ 243، 244، و 8/ 438) واللالكائي في " السنة " (رقم: 1130) من طريقين عن هارون بن هارون، عن مجاهد عن ابن عباس، به مرفوعاً.
ورواه بقية بن الوليد، فقال: عن أبي العلاء، عن مجاهد، عن ابن عباس.
أخرجه ابن عدي (1/ 244) وأبو نعيم في " المستخرج "(رقم: 39) واللالكائي في " السنة "(رقم: 1129) وابن عبد البر في " التمهيد "(1/ 58) والخطيب في " الكفاية "(ص: 74) والسمعاني في " أدب الإملاء "(ص: 56).
قلت: أبو العلاء هذا هو هارون بن هارون، كذلك كناه بقية، وكان مبتلى بالتدليس.
فأخرجه العقيلي (4/ 359) _ ومن طريقه: ابن الجوزي في " الموضوعات "(رقم: 539) _ من طريق بقية، قال: حدثنا هارون بن هارون أبو العلاء الأزدي، عن عبد الله بن زياد، عن مجاهد، عن ابن عباس.
وكذلك أخرجه ابن عدي (1/ 244)، لكنه لم يذكر كنية هارون.
وترى ههنا أنَّ هارون هذا إنما أخذه بواسطةٍ عن مجاهد، فهو تارةً يُسقطها، وتارة يذكرها، وتارة يكني عنها، فقد قال بقية مرة: عن هارون بن هارون أن شيخاً من الأنصار حدثه، عن مجاهد عن ابن عباس. كذلك أخرجه ابن عدي (1/ 244).
وعبد الله بن زياد شيخ هارون فيه: هو آفته، وهو ابن سمعان، وكان يتلاعب بإسناده، فقال فيه مرة أيضا: عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس. أخرجه ابن عدي (1/ 244).
وقال مرة _ إن ثبت عنه _: عن عطاء، يعني ابن رباح، عن ابن عباس. أخرجه الرامهرمزي في " المحدث الفاصل " (ص: 412) والخطيب في " الكفاية "(ص: 74) من طريق أحمد بن حازم الغِفاري، قال حدثنا حسن بن قتيبة، عنه. وحسن هذا ضعيف.
قال ابن عدي: " رواة هذا الحديث شوَّشوا الإسناد، وبلاءُ هذه الأحاديث من هارون بن هارون، وهو منكر الحديث،. . وعبد الله بن زياد بن سمعان ضعيف جدا، وهؤلاء كلهم اضطربوا في إسناده لوْناً لوْناً ".
قلت: بل ظاهر الأمر أنه حديث ابن سمعان، هو الذي كان يتلاعب في تركيب أسانيده عن ابن عباس، وهارون أسقطه في بعض روايته تدليساً، كما قال ابن الجوزي:" ترك ذكر ابن سمعان لأنه كذاب "، وما هذا بالاضطراب.
وقال البزار: " لا نعلمه يُروى بهذا اللفظ من وَجهٍ صحيح، وإنما ذكرناه إذ لا يُحفظ من وجه أحسن من هذا، وهارون ليس بالمعروف بالنقل ".
وقال ابن الجوزي: " حديث موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم " وحمل فيه على ابن سمعان، فقال:" هو المتهم بهذا الحديث ".
قلت: ابن سمعان هو عبد الله بن زياد بن سليمان بن سِمعان مدني كذبوه، وهو متروك الحديث.
فقوْل ابن عبد البر بعد هذا: " هذا حديث انفرد به بقية عن أبي العلاء، وهو إسناد فيه ضعف لا تقوم به حُجة "، وقال:" والحديث الضعيف لا يُدفع وإن لم يُحتج به، ورُبَّ حديث ضعيف الإسناد صحيح المعنى "، فهذا لو كان الضعف يسيراً لسوء حفظ مع الصدق، أما أن يتبيَّن أن أصل هذا الحديث ينتهي إلى ابن سمعان لا يتجاوزه، فلا.
ورُوي مرفوعاً من حديث أبي قتادة الأنصاري، وعلي بن أبي طالب.
أما حديث أبي قتادة، فأخرجه الطبراني في " الصغير " (رقم: 432) " الأوسط "(4/ 336 رقم: 3579) وابن عدي (1/ 244) والخطيب في " الكفاية "(ص: 74) و " الجامع لأخلاق الراوي "(رقم: 1261) والسمعاني في " أدب الإملاء "(ص: 56) من طريق محمد بن إبراهيم بن العلاء الشامي، حدثنا سويد بن عبد العزيز، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه، به.
قلت: وإسناده واهٍ، ابن العلاء هذا مُتهم بوضْع الحديث وسويد ضعيف الحديث.
وأما حديث علي، فأخرجه ابن عدي (1/ 245) من طريق عمر بن شبَّة، قال: حدثني عيسى بن مُحمد (! ) بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن جده، عن علي، به ضمن سياق. في ذم العصبية.
قال ابن عدي: " وهذا الحديث لا أعلم يرويه غير عيسى بن محمد ".
قلت: كذا ذكره ابن عدي، والصواب:(عيسى بن عبد الله) وذكر (ابن مُحمد) خطأ في الإسناد، فعيسى من أبناء عبد الله، وكذلك ترجم له الأئمة، وهو آفة هذا الحديث، وسائر الإسناد يُحتمل، لكنه قد هوى به، فهو متروك الحديث، أتى بموضوعات.
وروى هذا الحديث أبو البختري وهب بن وهب بإسنادٍ إلى الحسن البصري، به مرسلاً.
أخرجه ابن عدي (1/ 245 _ 246) وأبو البختري هذا من أعيان المعروفين بالكذب ووضْع الحديث.
ومثل هذه الأحاديث لا يصح التعلق بها في شيء، وقد أغنى الله عنها.
تبيين الفرق بين العدالة للشاهد والعدالة للراوي:
روي في اتحاد معنى العدالة فيهما حديث موضوع: " لا تأخذوا العلم إلا ممن تجيزون شهادته "(1)، وهذا لا يعتمد عليه في شيء.
(1) أخرجه الرامهرمزي في " المحدث الفاصل "(ص: 411) وابن عدي في " الكامل "(1/ 255، 256، و 3/ 289 و 5/ 77) وابن حبان في " المجروحين "(1/ 25) والخطيب في " تاريخه "(9/ 301) و " الكفاية "(ص: 158، 159) والرافعي في " تاريخ قزوين "(3/ 399) وابن الجوزي في " العلل "(رقم: 187) من طرق عن صالح بن حسان، عن محمد بن كعب، عن ابن عباس، به.
وفيمن رواه عن صالح ثقة وضعيفٌ، وليس الحمل فيه إلا على صالح هذا وهو مدني، منكر الحديث ليس بثقة.
ومن الرواة من حدث به عنه عن محمد بن كعب مُرسلاً، ليس فيه ابن عباس. ومنهم من حدث به عنه عن محمد بن كعب عن ابن عباس قوله ولم يرفعه.
أخرج ذلك الخطيب في " الكفاية "(ص: 159، 160)، كما روى المرسل ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل "(1/ 1 / 28). والموقوف ابن عدي في " الكامل "(1/ 256).
وهكذا كان أو كذلك، فإنه لا يثبت منه شيء، قال الخطيب:" إن صالح بن حسان تفرَّد بروايته، وهو ممن اجتمع نُقاد الحديث على ترك الاحتجاج به؛ لسوء حفظه، وقلة ضبطه ".
وقال ابن حبان: " هذا خبرٌ باطل رفْعه، وإنما هو قول ابن عباس " وحَمل فيه على أحد من رواه عن صالح ..
قلت: بل لم يثبت عنه أيضاً؛ لما ذكرت من حال صالحٍ نفسه.
وروى بقية بن الوليد، قال: حدثنا إسحاق بن مالك، عن أبي بكر التميمي، عن الحسن، به مرسلاً.
أخرجه ابن عدي (1/ 256) وإسناده لا يثبت، فإسحاق من شيوخ بقية المجهولين، والتميمي هذا لم يتبين من يكون، وأخاف أن يكون دلسه بقية، ثم هو إلى ذلك كله مرسل. وأخرجه ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل "(1/ 1/ 31) من رواية الحسن بن ذكوان عن الحسن به مرسلاً. وابن ذكوان هذا ضعيف.
والتحقيق: أن الاتفاق بين الشاهد والراوي معتبر في العدالة والصدق، لكنهما يفترقان في معاني تقبل فيها الرواية ولا تقبل الشهادة:
فاعتُبِرت مثلاً في الشاهد الحرية، لكنها لا تطلب في الراوي، ففي الرواة الثقات كثير من الموالي؛ إذا الرق لا ينافي العدالة.
ويقبل في الرواية خبر الواحد العدل، ويقبل في صيغة الرواية:(حدثني فلان عن فلان)، وليس كذلك في الشهادة.
والحديث يشهد للحديث، كما تشهد له الأصول، وليس كذلك الشهادة.
يقابل ذلك أن قوماً تقبل شهادتهم، ولكن لا تقبل رواياتهم؛ لما يوجبه حفظ وأداء الرواية من الاحتياط في اللفظ والمعنى (1).
(1) وانظر: الرسالة، للشافعي (الفقرات: 1008 _ 1014)، وانظر لبعض فوارق الشهادة والرواية: شروط الأئمة الخمسة، للحازمي (ص: 149 _ 150).
كما قال الشافعي، وحكي عن سائل سأله: قد أراك تقبل شهادة من لا تقبل حديثه؟ قال: " فقلت: لكبر أمر الحديث وموقعه من المسلمين، ولمعنى بين، قال: وما هو؟ قلت: تكون اللفظة تترك من الحديث فتحيل معناه، أو ينطق بها بغير لفظة المحدث، والناطق بها غير عامد لإحالة الحديث، فيحيل معناه، فإذا كان الذي يحمل الحديث يجهل هذا المعنى، كان غير عاقل للحديث، فلن نقبل حديثه إذا كان يحمل ما لا يعقل إن كان ممن لا يؤدي الحديث بحروفه، وكان يلتمس تأديته على معانيه وهو لا يعقل المعنى. قال: أفيكون عدلاً غير مقبول الحديث؟ قلت: نعم، إذا كان كما وصفت كان هذا الموضع ظنة بينة يرد بها حديثه، وقد يكون الرجل عدلاً على غيره ظنيناً في نفسه وبعض أقربيه، ولعله أن يخر من بعد أهون عليه من أن يشهد بباطل، ولكن الظنة لما دخلت عليه تركت بها شهادته، فالظنة ممن لا يؤدي الحديث بحروفه ولا يعقل معانيه ، أبين منها في الشاهد لمن ترد شهادته فيما هو ظنين فيه بحال "(1).
قلت: وليس اعتبار خصائص الشهادة من مباحثنا هذه، ومحلها مطولات كتب الفقه.
* * *
(1) الرسالة (ص: 380 _ 381).