الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول:
حكم نقد الراوي
معنى النقد:
قال ابن فارس: " النون والقاف والدال أصل صحيح، يدل على إبراز شيء وبروزه " قال: " ومن الباب (نقد الدرهم) وذلك أن يكشف عن حاله في جودته أو غير ذلك "(1).
و (نقد الراوي) من هذا، فإنه يكشف عن حاله في أهليته للرواية أو عدم ذلك.
كما سمي من يقوم بعملية الكشف هذه بـ (الناقد) لهذا الاعتبار.
وقد اصطلح علماء الحديث على تسمية النقد هذه بـ (الجرح والتعديل)، بناء على ما ينتج عنها من ثبوت أهلية الراوي أو عدمها.
وهذان الوصفان يشعران بثنائية القسمة عندهم، فالناقد إما أن يصير إلى (جرح) الرواي، وإما إلى (تعديله)، ولا يفيد مرتبة متوسطة.
وتحقيق ذلك: أن النظر في أحوال الرواة لا يسفر دائماً عن نتيجة
(1) مقايس اللغة (5/ 467).
(الجرح) أو (التعديل) لذلك الراوي، وإنما قد تخفى حاله ولا يسعف النظر في التوصل إلى شيء في أمره، فيصير الناقد إلى مرتبة ليست تعديلاً ولا تجرحاً صريحاً، وهي الحكم بـ (جهالة) الراوي.
لكن، حين كان المقصود التوصل إلى كون الراوي مقبول الرواية أو مردودها، فالعبارة إذاً بالقبول أو الرد؛ وعليه فيصح أن تكون القسمة ثنائية، على اعتبار المصير بالمرتبة المتوسطة إلى (الجرح) على مذهب الأكثر، أو (التعديل) على مذهب الأقل، على ما سيأتي تفصيله.
و (نقد الراوي) هي المرحلة الثانية من النظر في الأسانيد، فقد تقدم في الباب الأول تبيين طرق الكشف عن شخصية الراوي، وحيث تميز لنا فيتلو ذلك تمييز حاله من جهة صلاحيته لقبول حديثه أو رده.
وهذا المبحث من أهم مباحث (علوم الحديث) وأصعبها، فأما أهميته فمن جهة كونه (القاعدة العظمى) التي ينبني عليها تصحيح نسبة السنن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو نفي ذلك، وأما صعوبته فمن جهتين:
الأولى: ما يدخل على الناقد من الحرج من الكلام في المسلم بالقدح في حال ثبوت ذلك عليه؛ لأنه كلام في عرضه الذي جاءت شريعة الإسلام بحفظه.
والثانية: فهم قوانينه وقواعده ومنهجية تطبيقه.
فأما ما يتصل بالجهة الثانية فهذا الفصل أكثره معقود لهذا الغرض، وأما الجهة الأولى فإنها تستلزم بيان حكم الشريعة في ذلك.
حكم الكلام في النقلة:
حفظ عرض المسلم من المسلمات في دين الإسلام، وحرمته معلومة بالضرورة، والنقاد يقولون:(فلان ضعيف) أو (سيئ الحفظ) أو (كثير الغلط) أو (ليس بشيء) أو (ليس بثقة) أو (متروك) أو (كذاب) أو غير ذلك من
صيغ قدح تقال في الراوي، ولو علم بها لما رضيها، فكيف يصح مثل هذا القدح مع تلك الضرورة المسلَّمة في تحريم عرض المسلم؟
وإذا تأملت ذلك من جهة أخرى وجدت أحوال نقاد المحدثين محل القدوة في الصلاح والدين، ومع ذلك فهم من كان يقوم بهذه الوظيفة (جرح الرواة وتعديلهم)، فكيف كانوا يرون ذلك؟ وما عذرهم فيه؟
جواب ذلك من وجوه، منها:
1 _
حرمة العرض كحرمة الدم والمال، وحرمة الدين أعظم منها جميعاً، فإنه تسترخص له الأنفس والأموال، وهذا أيضاً معلوم من الدين بالضرورة.
والحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم دين، كما قال محمد بن سيرين رحمه الله:" إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم "(1)، وهو بيان الكتاب العزيز ، وفيه تفصيل الأحكام والأوامر والنواهي، فالمتعرض له إنما يضيف شيئاً إلى الدين، فإما أن يكون أهلاً له صادقاً أميناً حافظاً أو ليس كذلك، ولا طريق إلى معرفة ذلك إلا بـ (الجرح والتعديل).
فهو واجب ألزمت به ضرورة حفظ الدين.
وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6]، فأوجب الله تعالى التبين في خبر الفاسق قبل قبوله فيما ينبئ به عن قوم آخرين، فكيف الطريق إلى معرفة فسقه إن لم يكن بعلامة علمناها منه دلت على فسقه؟
(1) أخرجه الدارمي (رقم: 425) وابنُ سعد (7/ 194) ومسلم في " مقدمة صحيحه "(1/ 14) وابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل "(1/ 1 / 15) والرامهرمزي في " المحدث الفاصل "(ص: 414) وابن عدي (1/ 253، 254) والخطيب في " الكفاية "(ص: 196، 197) و " الجامع لأخلاق الراوي "(رقم 138) من طريق ابنِ عونٍ عن ابن سيرين، به.
وروى معناه غير واحد عن ابن سيرين.
ولو ثبت فسقه لأحد ما جاز له كتمانه على من يتضرر بخبره من الناس، فإذا كان هذا التثبت في الإخبار عن شخص أو قوم من سائر الناس ممن لا يلزم بخبرهم تحليل ولا تحريم ولا أمر ولا نهي، فكيف يجوز السكوت والإقرار لخبر من يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير دراية بأهليته أو عدمها؟
وقد تواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: " من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار "(1) في لفظ: " إن كذباً علي ليس ككذب على أحد، من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار "(2)، كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم قوله:" يا أيها الناس، إياكم وكثرة الحديث عني، من قال علي فلا يقولون إلا حقاً أو صدقاً، فمن قال علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار "(3)، وصح عنه صلى الله عليه وسلم قوله:" من حدث بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين "(4).
قال الدارمي: " معنى هذا الحديث: إذا روى الرجل حديثاً، ولا يعرف لذلك الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أصل، فحدث به، فأخاف أن يكون قد دخل في هذا الحديث "(5).
فهذا حكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم بتكذيب من حدث عنه بما لم يقل
(1) حديث صحيح مُتواترٌ، رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم خلق كثيرٌ من أصحابه.
وهو عند البخاري (رقم: 107) من حديث الزبير بن العوام، ولم يذكر " مُتعمداً "، و (رقم: 110، 5844) ومسلم (رقم: 3) من حديث أبي هريرة، والبخاري (رقم: 3274) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، ومسلم (رقم 3004) من حديث أبي سعيد الخُدري.
(2)
حديث صحيح. متفق عليه: أخرجه البخاري (رقم: 1229) ومسلم (رقم: 4) من حديث المغيرة بن شعبة، به.
(3)
حديث صحيح. أخرجه أحمد (5/ 297) وابن أبي شيبة (8/ 761) وابن ماجة (رقم: 35) من طريق محمد بن إسحاق، عن معبدِ بن كعب، عن أبي قتادة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: على هذا المنبر، فذكره.
قلت: وإسناده جيد، وابن إسحاق ذكر سماعه للحديث عند أحمد.
(4)
أخرجه مسلم (1/ 9) من حديث سمرة بن جندب، والمغيرة بن شعبة.
(5)
الجامع للترمذي (بعد حديث رقم: 2662).
ناسباً ذلك إليه، وسبب تغليظ حكم الكذب عليه صلى الله عليه وسلم؛ أن من كذب عليه فقد زاد في دين الله، فكأنما كذب على الله عزوجل.
ومن وقع في الكذب على التوهم لا القصد فربما يعذر، لكن لا يعذر من علم غلطه ولم يبين.
فبيان أحوال النقلة يوجبه نفي الكذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ودين الإسلام، الذي يرجح حفظ ضرورته على ضرورة حفظ الأنفس والأموال والأعراض.
2 _
تأملنا فوجدنا التعرض للمسلم إنما يحرم بغير سبب شرعي، أما إن كان بسبب معتبر صحيح في الشرع فإن ذلك يتردد بين إباحة وندب ووجوب، ولا يمتنع، وذلك بنفس أدلة الشرع، فمن اعتدى على غيره وجب منعه، وكان للمعتدي عليه الحق في الانتصار لنفسه، كما قال تعالى:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40]، وقال:{لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ الْقَوْلِ إِلَاّ مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:" لي الواجد يحل عرضه عرضه وعقوبته "(1)، والواجد: هو الغني يكون عليه الدين يحل أجله فلا يقضيه.
والتعدي على الدين أخطر من التعدي على الأنفس والأعراض والأموال، فكيف يصح أن تأذن الشريعة في الرد عن النفس بما هو ممتنع في الأصل إن لم يكن له سبب، وتمنع الذَّب عن الدين بتخليصه من عدوان الكذابين والمتهمين والغالطين عليه؟
3 _
اعتبرت الشريعة العدالة في الشهود، فقال تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَى
(1) حديثٌ حسنٌ. أخرجه أحمد (4/ 22، 388، 389) وأبو داود (رقم: 3628) والنسائي (رقم: 4689، 4690) وابن ماجة (رقم: 2427) من حديث الشريد بن سُويد.
وحققت القول فيه في تعليقي على " المنتقى من مُسند المقلين " لدَعلج السجْزي (رقم: 12).
عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]، والعدالة لا سبيل إلى معرفتها في أعيان الشهود إلا بنقدهم ثم الحكم عليهم بمقتضى ذلك النقد من عدالة أو جرح، فإذا صح أن يطلب هذا فيمن يشهد على متاع وشيء ليس له كبير قدر، فصحته ووجوب تحققه فيمن يشهد في دين الله، فينسب شيئاً إلى الله تعالى، أو رسوله صلى الله عليه وسلم.
قال الثقة محمد بن عمرو الرازي المعروف بـ (زنيج): سمعت بهز بن أسد يقول إذا ذكر له الإسناد الصحيح: " هذه شهادات العدول المرضيين بعضعم على بعض " وإذا ذكر له الإسناد فيه شيء قال: " هذا فيه عهدة "، ويقول:" لو أن لرجل على رجل عشرة دراهم ثم جحده، لم يستطع أخذها منه إلا بشادين عدلين، فدين الله عزوجل أحق أن يؤخذ فيه بالعدول "(1).
4 _
أوجب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم النصيحة، فعن تميم الداري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" الدين النصيحة " قلنا: لمن؟ قال: " لله، ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم "(2).
والكشف عن أمر الراوي بقصد التحذير من غلطه أو كذبه لئلا يغتر به من لا يعلم حاله من النصيحة لله ولكتابه بنفي نسبة ما لا تصح إضافته إليه، ولرسوله صلى الله عليه وسلم بنفي نسبة ما لم يتفوه به من القول إليه، ولعموم المسلمين بوقايتهم من التدين بما ليس من دين الإسلام.
وهذه علة كافية للفصل بين (نقد الرواة) لهذا المقصد، وبين (الغيبة) التي حرمها الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.
(1) أخرجه ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل "(1/ 1 / 16) وابن عدي في " الكامل "(1/ 251) والخطيب في " الكفاية "(ص: 135) و " الجامع "(رقم: 131) بإسناد صحيح.
وأخرج ابن حبان في " المجروحين "(1/ 23) طرفاً منه.
(2)
حديث صحيح. أخرجه أحمد (4/ 102، 103) ومُسلم (رقم: 55) وأبو داود (رقم: 4944) والنسائي (رقم: 4197، 4198).
ويشهد له ما جاء من حديث عائشة رضي الله عنها: أن رجلاً استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:" ائذنوا له، فلبئس ابن العشيرة " أو: " بئس رجل العشيرة "، فلما دخل عليه ألان له القول، قالت عائشة: فقلت: يا رسول الله، قلت له الذي قلت، ثم ألنت له القول؟ قال:" يا عائشة، إن شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة: من ودعه _ أو: تركه _ الناس اتقاء فحشه "(1).
قال الخطيب: " ففي قول النبي صلى الله عليه وسلم: " بئس رجل العشيرة " دليل على أن إخبار المخبر بما يكون في الرجل من العيب على ما يوجب العلم والدين من النصيحة للسائل ليس بغيية، إذا لو كان ذلك غيبة لما أطلقه النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما أراد عليه السلام بما ذكر فيه والله أعلم أن بئس للناس الحالة المذمومة منه، وهي الفحش فيجتنبوها، لا أنه أراد الطعن عليه والثلب له، وكذلك أئمتنا في العلم بهذه الصناعة؛ إنما أطلقوا الجرح فيمن ليس بعدل لئلا يتغطى أمره على من لا يخبره، فيظنه من أهل العدالة فيحتج بخبره، والإخبار عن حقيقة الأمر إذا كان على الوجه الذي ذكرناه لا يكون غيبة "(2).
قال: " وأما الغيبة التي نهى الله تعالى عنها فهي ذكر الرجل عيوب أخيه يقصد بها الوضع منه والتنقيص له والإزراء به، فيما لا يعود إلى حكم النصيحة وإيجاب الديانة، من التحذير عن ائتمان الخائن، وقبول خبر الفاسق، واستماع شهادة الكاذب "(3).
قال مسلم بن الحجاج يصف صنيع نقاد المحدثين: " وإنما ألزموا أنفسهم الكشف عن معايب رواة الحديث وناقلي الأخبار، وأفتوا بذلك حين سئلوا، لما فيه من عظيم الخطر، إذ الأخبار في أمر الدين إنما تأتي بتحليل
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (رقم: 5685، 5707، 5780) ومُسلم (رقم: 2591) من طريق مُحمد بن المنكدر، عن عروة بن الزبير، عن عائشة، به.
(2)
الكفاية (ص: 83 _ 84).
(3)
الكفاية (ص: 85).
أو تحريم أو أمر أو نهي أو ترغيب أو ترهيب، فإذا كان الراوي لها ليس بمعدن للصدق والأمانة، ثم أقدم على الرواية عنه من قد عرفه، ولم يبين ما فيه لغيره ممن جهل معرفته كان آثماً بفعله ذلك، غاشاً لعوام المسلمين، إذ لا يؤمن على بعض من سمع تلك الأخبار أن يستعملها أو يستعمل بعضها، ولعلها أو أكثرها أكاذيب لا أصل لها، مع أن الأخبار الصحاح من رواية الثقات وأهل القناعة أكثر من أن يضطر إلى نقل من ليس بثقة ولا مقنع " (1).
وقال الترمذي: " وقد عاب بعض من لا يفهم على أهل الحديث الكلام في الرجال، وقد وجدنا غير واحد من الأئمة من التابعين قد تكلموا في الرجال، منهم الحسن البصري وطاوُس تكلما في معبد الجهني (2) ، وتكلم سعيد بن جبير في طلق بن حبيب (3)، وتكلم إبراهيم النخعي وعامر الشعبي في الحارث الأعور (4)، وهكذا روي عن أيوب السختياني وعبد الله
(1) صحيح مُسلم (1/ 28).
(2)
أما أثرُ الحسن، فأخرجه الترمذي في " العلل الصغير " (6/ 248) وعبد الله بن أحمد في " السنة " (رقم: 849) والآجري في " الشريعة "(رقم: 592، 599) وابن عدي في " الكامل "(1/ 131) من طريق مَرحوم بن عبد العزيز العطار، قال: سمعت أبي وعمِّي يقولان: سَمعنا الحسن وهو ينهى عن مجالسة مَعبد الجهني، يقول " لا تُجالسوه؛ فإنه ضال مُضل ".
قلت: إسناد هذا الخبر إلى الحسن حسن.
وأخرجه العقيلي في " الضعفاء "(4/ 218) بإسناد آخر عن الحسن، وهو جيد.
وأما أثر طاوُس، فأخرجه الفريابي في " القدر " (رقم: 266) وعبد الله بن أحمد في " السنة "(رقم: 847) والآجري في " الشريعة "(رقم: 590) واللالكائي في " السنة "(رقم: 1273) من طريق سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، قال: قال لنا طاوس: " أخروا معْبد الجهني؛ فإنه قدري ". وإسناده صحيح.
(3)
أخرجه البخاري في " التاريخ الكبير "(2/ 2 / 359) و " الأوسط "(1/ 369) وابن سعد في " الطبقات "(7/ 228) وعبد الله بن أحمد في " السنة "(رقم: 303) من طريق حمَّاد بن زيد، عن أيوب (يعني السختياني)، قال: ما رأيت أحداً أعبد من طلْْق بن حبيب، فرآني سعيد بن جبير جالساً معه، فقال: ألم أرك مع طلقٍ؟ لا تُجالس طلقاً، وكان طلقٌ يرى الإرجاء.
قلت إسناده صحيح، وهذا لفظ البخاري.
(4)
أما عن الشعبي، فأخرجه مُسلم في " مُقدمة صحيحه "(1/ 19) عنه، قال: حدثني الحارث الأعور، وكان كذاباً ".
وأخرجه يعقوب بن سفيان في " المعرفة والتاريخ "(3/ 116 _ 117) وعبد الله بن أحمد في " العلل "(رقم: 990، 1148) وابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل "(1/ 2 / 78) والعُقيلي (1/ 208) وابنُ عدي (2/ 449 _ 450) والخطيب في " الكفاية "(ص: 151) وفي رواية لأكثرهم، قال الشعبي:" حدثني الحارث الأعور، وأشهد أنه أحد الكذابين ".
وهو صحيح عنه باللفظين.
وأما عن إبراهيم، فأخرجه مسلم في " المقدمة " (1/ 19) وابنُ أبي حاتم (1/ 2 / 78) والعُقيلي (1/ 208) وابنُ عدي (2/ 449) بإسناد صحيح عن إبراهيم:" أن الحارث اتُّهم ".
بن عون وسليمان التيمي وشعبة بن الحجاج وسفيان الثوري ومالك بن أنس والأوزاعي وعبد الله بن المبارك ويحيى بن سعيد القطان ووكيع بن الجراح وعبد الرحمن بن مهدي، وغيرهم من أهل العلم؛ أنهم تكلموا في الرجال وضعفوا، وإنما حملهم على ذلك عندنا _ والله أعلم _ النصيحة للمسلمين، لا يظن بهم أنهم أرادوا الطعن على الناس أو الغيبة، إنما أرادوا عندنا أن يبينوا ضعف هؤلاء لكي يعرفوا؛ لإن بعضهم من الذين ضعفوا كان صاحب بدعة، وبعضهم كان متهماً في الحديث، وبعضهم كانوا أصحاب غفلة وكثرة خطأ، فأراد هؤلاء الأئمة أن يبينوا أحوالهم شفقة على الدين وتثبتاً؛ لأن الشهادة في الدين أحق أن يتثبت فيها من الشهادة في الحقوق والأموال " (1).
سياق بعض الآثار عن السلف في شرعية نقد الرواة:
1 _
عن يحيى بن سعيد القطان، قال:
سألت سفيان الثوري، وشعبة بن الحجاج، ومالك بن أنس، وسفيان بن عيينة، عن الرجل يكون واهي الحديث، يأتيني الرجل فيسألني عنه، فأجمعوا أن أقول: ليس هو بثبت، وأن أبين أمره.
وفي لفظٍ سألهم قال: عن الرجل لا يكون ثبتاً في الحديث، فيأتيني الرجل فيسألني عنه؟ قالوا:" أخبر عنه، وبين أمره ".
وفي رواية قال لهم: الرجل يكون كثير الغلط في الحديث (وفي لفظ:
(1) العلل الصغير، للترمذي في آخر كتاب " الجامع "(6/ 230 _ 231).
لا يحفظ، أو يتهم في الحديث) (وفي لفظ: يتهم ويغلِّط ويصّحف) (وفي لفظ: يغلط في الحديث، أو يكذب فيه)، أبين أمره؟ قالوا:" بين أمره "(1).
2 _
وعن حماد بن زيد، قال:
كلمنا شعبة في أن يكف عن أبان بن أبي عياش لسنه وأهل بيته، فضمن أن يفعل، ثم اجتمعنا في جنازة، فنادى من بعيد: يا أبا إسماعيل، إني قد رجعت عن ذاك، لا يحل الكف عنه؛ لأن الأمر دين (2).
3 _
وعن عبد الرحمن بن مهدي، قال:
مررت مع سفيان الثوري برجل، فقال:" كذاب والله، لولا أنه لا يحل لي أن أسكت عنه لسكت "(3).
4 _
وعن عبد الله بن المبارك، قال:
قلت لسفيان الثوري: إن عبَّاد بن كثير من تعرف حاله، وإذا حدث جاء بأمر عظيم، فترى أن أقول للناس: لا تأخذوا عنه؟ قال سفيان: " بلى ".
(1) أثر صحيح بجميع ألفاظه.
أخرجه البُخاري في " التاريخ الأوسط "(رقم: 1436) ومسلم في " المقدمة "(1/ 17) والجوزجاني في " أحوال الرجال "(ص: 36 _ 37) وأبو داود في " سؤالات أحمد بن حنبل "(النص: 134) والترمذي في " العلل الصغير "(6/ 231 _ آخر الجامع) وأبو زرعة الدمشقي في " تاريخه "(1/ 471) وعبد الله بن أحمد في " العلل "(النص: 4684، 4685) وابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل "(1/ 1 / 23، 24) والعُقيلي في " الضعفاء "(1/ 3 _ 6) وابن حبان في " المجروحين "(1/ 20) وابن عدي في " الكامل "(1/ 149، 150) والرامهرمزي في " المحدث الفاصل "(رقم: 850، 851) وأبو نُعيم في " المستخرج على مسلم "(رقم: 45، 53) والبيهقي في " الدلائل "(1/ 45) والخطيب في " الكفاية "(ص: 88) و " الجامع
لأخلاق الراوي " (رقم: 1509) وابن عبد البر في " التمهيد " (1/ 47) من طرُقٍ عن يحيى بن سعيد، به، وأسانيده صحيحة.
(2)
أثرٌ صحيح. أخرجه العقيلي في " الضعفاء "(1/ 39) بإسناد جيد، وجاء معناهُ عن حماد بن زيْدٍ من غير وَجْه.
(3)
أثرٌ صحيح. أخرجه ابنُ حبان في " المجروحين "(1/ 21) بإسناد صحيح.
وأخرجه أبو نعيم في " المستخرج على مسلم "(رقم: 47) وعنه: الخطيب في " الكفاية "(ص: 89)، ووقع فيه:(شُعبة) بدل (سُفيان)، ولا يَرد احتمال التصحيف على رواية ابن حبان من أجل أنه نُسب فيها:(الثوري)، ومُحتملٌ على رواية الخطيب، والله أعلم.
قال عبد الله: فكنت إذا كنت في مجلس ذكر فيه عبَّاد أثنيت عليه في دينه، وأقول: لا تأخذوا عنه (1).
5 _
وقال الشافعي: " وأما الرجل من أهل الفقْه يُسْأل عن الرجل من أهل الحديث فيقول: كُفوا عن حديثه، ولا تقبلوا حديثَه؛ لأنه يغْلط، أو يُحدث بما لم يَسمع، وليست بينه وبين الرجل عداوة؛ فليس هذا من الأذى الذي يكون به القائل لهذا فيه مجروحاً عنه لو شَهِد بهذا عليه، إلا أن يُعرف بعداوةٍ له، فتُردَّ بالعداوة لا بهذا القول "(2).
6 _
وعن أبي بكر محمد بن خلاد (وكان ثقة)، قال:
قلت ليحيى بن سعيد: أما تخشى أن يكون هؤلاء الذين تذكر حديثهم خصمائك عند الله يوم القيامة؟ فقال: " لأن يكون هؤلاء خصمائي أحب إلي من أن يكون خصمي رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: لم حدثت عني حديثاً ترى أنه كذب "(3).
وفي رواية، قال أبو بكر بن خلاد:
أتيت يحيى مرة، فقال لي: أين كنت؟ فقلت: كنت عند ابن داود فقال: إني لأشفق على يحيى من ترك هؤلاء الرجال الذين تركهم، فبكى يحيى، وقال:" لأن يكون خصمي رجل من عرض الناس شككت فيه فتركته، أحب إلي من أن يكون خصمي النبي صلى الله عليه وسلم، ويقول: بلغك عني حديث سبق إلى قلبك أنه وهم فلم حدثت به؟ "(4).
(1) أثرٌ صحيح. أخرجه مسلم في " مقدمة صحيحه "(1/ 17) بإسناد جيد.
(2)
الأم (6/ 206).
(3)
أثرٌ صحيح. أخرجه الحاكمُ في " المدخل إلى الصحيح "(1/ 111) والبيهقي في " الدلائل "(1/ 45) والخطيب في " الكفاية "(ص: 90) بسند جيد.
(4)
أخرجه ابنُ عدي (1/ 186) والخطيب في " الجامع "(رقم: 1268) بإسناد صحيح.
7 _
وعن عفان بن مسلم، قال:
كنا عند إسماعيل بن علية، فحدث رجل عن رجل، فقلت: إن هذا ليس بثبت، قال: فقال الرجل: اغتبته، قال إسماعيل: ما اغتابه، ولكنه حكم أنه ليس بثبت (1).
8 _
وقال أبو زرعة الدمشقي:
سمعت أبا مسهر (هو عبد الأعلى بن مسهر الغساني حافظ الشاميين) يسأل عن الرجل يغلط ويتهم (وفي لفظ: ويهم) ويصحف؟ قال: " يبين أمره " فقلت لأبي مسهر: أترى ذلك من الغيبة؟ قال: " لا "(2).
9 _
وعن محمد بن بندار السباك الجرجاني (وكان لا بأس به)، قال: قلت لأحمد بن حنبل: إنه ليشتد علي أن أقول: فلان ضعيف، فلان كذاب؟ فقال أحمد:" إذا سكتَّ أنت، وسكتُّ أنا؛ فمتى يعرف الجاهل الصحيح من السقيم؟ "(3).
الخلاصة:
فحاصل ما تقدم في بيان حكم (نقد الرواة) أنه: واجب لحفظ الدين، وليس هو من قبيل الغيبة التي حرمها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
* * *
(1) أخرجه مسلم في " مقدمته "(1/ 26) و " التمييز "(ص: 178) وابنُ أبي حاتم في " الجرح والتعديل "(1/ 1 / 23) والرامهرمُزي (رقم: 853) والعقيلي في " الضعفاء "(1/ 11) وابنُ حبان في " المجروحين "(1/ 18) والخطيب في " الكفاية "(ص: 89) بإسناد صحيح.
(2)
تاريخ أبي زُرعة الدمشقي (1/ 377). وأخرجه من طريقه: ابنُ حبان في " المجروحين "(1/ 20) وابنُ عدي (1/ 150) والخطيب في " الكفاية "(ص: 92).
(3)
أثرٌ صحيح. أخرجه الخطيب في " الكفاية "(ص: 92) و " الجامع لأخلاق الراوي "(رقم: 1617) بإسناد صحيح إلى السَّبَّاك، به.