الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القسم الثاني: الإجازة
اعلم أن المتأخرين توسعوا في هذا، وابتكروا له أنواعاً وصوراً، خرجت عما يأتي بيانه، ولم آت على تفصيل ما ذكروه، من أجل أن جميع ما يخرج عما أذكره من صور الإجازة فهو باطل غير صحيح، وما أذكره فهو بحسبه، والمقصود إبراز ما قبله الأوائل من أنواع الإجازة وضروبها، حيث الحاجة إلى تمييز طرق الأسانيد قبل استقرار مصير الناس إلى الكتب المدونة الصحيحة.
وبالاستقراء وجدت ما استعمله السلف وصححوه وخرجت به أحاديث في كتب السنة، ومنها الصحيحان، ما يلي:
1 _
مناولة الشيخ للتلميذ بعض حديثه مكتوباً، وإذنه له في روايته عنه
وهذه أعلى صور الإجازة؛ لما اشتملت عليه من مزيد التوثق.
قال الخطيب: " يجوز للطالب روايته عنه، وتحل الإجازة محل السماع عند جماعة من أئمة الحديث "(1).
وقال عياض: " هي رواية صحيحة عند معظم الأئمة والمحدثين "(2).
وممن صح عنه من أئمة السلف تصحيحها: ابن شهاب الزهري، ويحيى بن أبي كثير، ومنصور بن المعتمر، والأوزاعي، وابن أبي ذئب، ومالك بن أنس، ومعتمر بن سليمان، وعبد الرزاق الصنعاني، وأحمد بن حنبل، وغيرهم.
وكذا من قال بتصحيح الإجازة بإطلاق فإن هذا النوع أولى بالدخول
(1) الكفاية (ص: 466).
(2)
الإلماع، للقاضي عياض اليَحصُبي (ص: 80).
فيه من غيره، كسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، وشعيب بن أبي حمزة، والبخاري، وغيرهم.
2 _
إعلام التلميذ للشيخ أن لديه بعض حديثه، أيرويه عنه؟ فيقول الشيخ: نعم.
ثبت هذا عن الحسن البصري، وابن شهاب الزهري، ومكحول الشامي، وهشام بن عروة، وابن جريج، والأوزاعي، والليث بن سعد، والشافعي، وأحمد بن حنبل، والبخاري، وغيرهم، وروى عنهم الثقات بذلك كما رووا عنهم بالسماع.
وعن بعض أهل الحديث من لم يكن يختار الرواية بهذا، وهو مذهب تشدد، كيحيى بن سعيد القطان، وصالح جزرة، وإبراهيم الحربي، وروي عن شعبة ولا يصح عنه، أو مذهب تحوط كالمنقول عن أبي زرعة الرازي، وروي عن مالك، وذلك خشية الاتكال.
والأصل وثوق الشيخ بأن التلميذ عنى حديثاً معروفاً له من روايته، وعلامته ثقة التلميذ وأنه غير مجروح.
قال أبو طاهر السلفي: " الأصل في ذلك معرفة الراوي وضبطه وإتقانه على أي وجه كان، سماعاً، أو مناولة، أو إجازة "(1).
قلت: والأحاديث المروية بهذا الطريق لا يميز أكثرها في كتب الحديث، فلا يبين الراوي أنه أخذها عن الشيخ إجازة، ويستعمل فيها صيغة (أخبرنا) كما هو عند طائفة، وجوز بعضهم (حدثنا)، وهذا إذا لم يبين في الرواية أنه إجازة، فلا سبيل إلى تمييزه عن السماع الصريح، وحين جعلوا ذلك اتصالاً، فلم يبق للجدل فيه فائدة.
(1) الوجيز في ذكر المُجاز والمُجيز (ص: 57).
3 _
كتابة الشيخ للتلميذ بشيء معين من حديثه، يقرنه بلفظ الإجازة، أو لا.
وصورتها أن يقول الراوي: (كتب إليَّ فلان) وما في معناها.
فهذه رواية متصلة، إذا روعيت الشروط المتقدمة لتثبيت السماع، مع شرط رابع، وهو: صحة الكتاب، بمعنى: أن يكون الكتاب كتاب الشيخ.
قال الخطيب: " فإذا عرف المكتوب إليه خط الراوي، وثبت عنده أنه كتابه إليه، فله أن يروي عنه ما تضمن كتابه ذلك من أحاديث "(1).
وتصحيح الرواية بهذا أيضاً مما عليه عمل أئمة كبار، قبل الناس ذلك منهم، واحتجوا به من روايتهم، منهم: منصور بن المعتمر، وأيوب السختياني، وشعبة بن الحجاج، وابن جريج، والليث بن سعد، وغيرهم.
والسنة وعمل المسلين في الصدر الأول بالمكاتبة متواتر، وهي عندهم حجة، كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملوك ، وكتب أبو بكر وعمر إلى الأمراء والولاة، ولزمت الحجة بتلك الكتب.
قال القاضي عياض: " استمر عمل السلف فمن بعدهم من المشايخ بالحديث بقولهم: (كتب إلي فلان، قال: أخبرنا فلان)، وأجمعوا على العمل بمقتضى هذا التحديث، وعدوه في المسند بغير خلاف يعرف في ذلك "(2).
وما ذكرنا من اشتراط صحة ذلك الكتاب عمن نسب إليه، طريقه: اعتماد نسبة الراوي عن الشيخ ذلك الكتاب إليه، مادام الراوي ثقة.
وقد يتأكد ذلك بقرينة زائدة، كقول عبد الله بن أحمد بن حنبل: " كتب
(1) الكفاية (ص: 480)، وذكر معناه القاضي عِياض في " الإلماع " (ص: 84).
(2)
الإلماع (ص: 86).
إلي قتيبة بن سعيد: كتبت إليك بخطي، وختمت الكتاب بخاتمي، يذكر الليث بن سعد حدثهم " (1).
فهذه زيادة وتوكيد، وإلا فمجرد أن يقول عبد الله:(كتب إلي قتيبة) فقد بين أن ذلك الكتاب كتاب قتيبة: ومادام ثقة فهو صادق في تلك النسبة.
ومن أمثلة ما احتجوا به وهو مما روي بهذه الطريق:
1 _
قال قتادة: كتبنا إلى إبراهيم بن يزيد النخعي نسأله عن الرضاع؟ فكتب: إن شريحاً حدثنا، أن علياً وابن مسعود كانا يقولان: يحرم من الرضاع قليله وكثيره. وكان في كتابه: إن أبا الشعثاء المحاربي حدثنا، أن عائشة حدثته، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول:" لا تحرم الخطفة والخطفتان "(2).
2 _
وقال عبد الله بن عون: كتب إليَّ نافع: أن ابن عمر قال: " نُهي عن لحوم الحمر الإنسية "(3).
3 _
وقال الأوزاعي: كتب إلي قتادة، قال: حدثني أنس بن مالك: أنه صلى خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، فكانوا يستفتحون بـ (الحمد لله رب العالمين)، لا يذكرون (بسم الله الرحمن الرحيم) في أول القراءة ولا في آخرها (4).
(1) مُسند الإمام أحمد (رقم: 575)، وساقَ ذلك الخطيب في " الكفاية " (ص: 486) بإسناد إلى عبد الله، بزيادة.
(2)
حديثٌ صحيحٌ. أخرجه بهذا السياق: النسائي (رقم: 3311) وأبو يعلى (8/ 163 رقم: 4710) والرامهرمزي (ص: 441 _ 442) من طريق يزيد بن زُريع، حدثنا سعيد (هو ابن عروبة) عن قتادة، به.
وسنده صحيح.
(3)
حديثٌ صحيحٌ. أخرجه الطبراني في " الكبير "(12/ 384 رقم: 13421) وإسناد حسنٌ، وصحَّة الحديث من جهة أصله.
(4)
أخرجه أبو عوانة (2/ 134 _ 135) والرامهرمزي (ص: 442)، ونحوه عند مسلم في " صحيحه " (1/ 299) قلت: تكلموا فيما كتب به قتادة، قالوا: قتادة وُلد أكمه، فكيف كتب؟ إنما هذا مجاز حقيقته أنه أمر من كتب له، وعليه فيدخل الكاتب واسطة مَجهولة في الرواية، فتكون مُنقطعة، كما قال ذلك بعض العلماء، كالذهبي في " سير أعلام النبلاء "(7/ 121).
وأقول: هذا تكلف، فإن الأعمى يُكتب له ما يُنسب إليه من القول، كما يُكتب للأمي الذي لايقرأ، ويُنسب ذلك إليه، ويُعتدُّ بذلك المكتوب، إذ الواجب أن يطمئنَّا إلى ما كُتب وأنهما لا يُقرَّان أنه كلاهما حتى يتيقَّناه كذلك.
وهذه غير مسألة أن يعتمد الضرير فيما يُحدث به على كتاب كُتب له، فهو هنا أمر بأن يُكتب له مما أملاه من حفظه.
4 _
ومما اتفق عليه الشيخان مما جاء بهذا الطريق:
رواية أبي عثمان النهدي، قال:" أتانا كتاب عمر ونحن مع عتبة بن فرقد بأذربيجان، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " فذكر الحديث في النهي عن الحرير.
وفي لفظ، قال أبو عثمان:" كتب إلينا عمر ونحن بأذربيجان "، وفي لفظ ثالث:" كنا مع عتبة، فكتب إليه عمر "(1).
5 _
وما أخرجه البخاري من طريق هشام الدستوائي، قال:" كتب إلي يحيى " يعني ابن أبي كثير، وساق حديثاً في الصلاة " (2).
6 _
وما أخرجه البخاري من طريق الليث بن سعد، قال:" كتب إلي هشام " يعني ابن عروة، وساق حديثاً في فضل خديحة (3).
7 _
وما أخرجه مسلم من طريق أيوب السختياني قال: " كتب إلي يعلى بن حكيم " وساق حديثاً في كراء الأرض (4).
بل إن البخاري ومسلماً خرجا رواية الرجل عن الرجل ممن لم يثبت السماع بينهما البتة، وإنما كان ذلك مكاتبة، وتلك رواية الليث بن سعد عن
(1) هذه الألفاظ للبخاري (رقم: 5490 _ 5492)، ولمسلمٍ نحو ذلك (3/ 1642 _ 1643).
(2)
صحيح البخاري (رقم: 611).
(3)
صحيح البخاري (رقم: 3605).
(4)
صحيح مسلم (3/ 1181).
عبيد الله بن أبي جعفر المصري، فإنه صح عن الليث قال:" لم أسمع من عبيد الله بن أبي جعفر، إنما كان صحيفة كتب إلي، ولم أعرضه عليه "(1).
نعم الرواية في الكتابين بصيغة العنعنة، لكن المقصود أن الشيخين لم يريا تلك الصورة انقطاعاً، مع أن طريق التلقي فيها لم يكن إلا المكاتبة، بل قال البخاري في ترجمة (ابن أبي جعفر):" سمع منه الليث "(2) ، فعد المكاتبة بمنزلة السماع.
وهو مذهب الليث بن سعد نفسه، فإن عبد الله بن وهب قال: لقد كان يحيى بن سعيد يكتب إلى الليث بن سعد، فيقول:" حدثني يحيى بن سعيد "، وكان هشام بن عروة يكتب إليه، فيقول " حدثني هشام "(3).
والوجه في صحة الاحتجاج بالمكاتبة: ما حكاه الرامهرمزي عن بعض أهل العلم، قال:" المكاتب لا يخلو من أن يكون على يقين من أن المحدث كتب بها إليه، أو يكون شاكاً فيه، فإن كان شاكاً فيه لم تجز له روايته عنه، وإن كان متيقناً له فهو وسماعه الإقرار منه سواء؛ لأن الغرض من القول باللسان فيما تقع العبارة فيه باللفظ إنما هو تعبير اللسان عن ضمير القلب، فإذا وقعت العبارة عن الضمير بأي سبب كان من أسباب العبارة: إما بكتاب، وإما بإشارة، وإما بغير ذلك مما يقوم مقامه، كان ذلك كله سواء "(4).
وقال الزيعلي في معرض نقد حديث ابن عكيم في جلود الميتة:
(1) أخرجه ابنُ أبي حاتم في " المراسيل "(ص: 180) والخطيب في " الكفاية "(ص: 460) بإسناد صحيح. ومن مواضع تخريجها عند البخاري (الأحاديث: 284، 1405، 2210) وعند مسلم (2/ 720، و 3/ 1214، 1478).
(2)
التاريخ الكبير (3/ 1 / 376).
(3)
أخرجه يعقوب بن سفيان في " المعرفة "(2/ 824 _ 825) _ ومن طريقه: الخطيب في " الكفاية "(ص: 491) _ بإسناد صحيح.
(4)
المحدث الفاصل (ص: 452 _ 453).
" الكتاب والوجادة والمناولة كلها مرجوحات؛ لما فيها من شبه الانقطاع بعدم المشافهة "(1).
قلت: لا عبرة بهذا الشبه، فإن العلة في رد المنقطع هي وجود الواسطة المجهولة، لا عدم المشافهة، وهي معدومة هنا.
وقد قال الحافظ محمد بن سليمان بن حبيب المصيصي المعروف بلوين: " كتب إلي، وحدثني واحد، وإن كتب النبي صلى الله عليه وسلم قد صارت ديناً يدان بها، والعمل بها لازم للخلق، وكذلك ما كتب به أبو بكر وعمر وغيرهما من الخلفاء الراشدين، فهو معمول به، ومن ذلك كتاب القاضي إلى القاضي، يحكم به ويعمل به "(2).
هذه الصور من الإجازة هي التي توجد في استعمال السلف، وقد توسع فيها المتأخرون، وزادوا في أنواعها، وأدخلوا فيها صوراً منكرة، شبيهاً بما أدركناه اليوم من طائفة يقتني أحدهم كراساً جمع فيه له أو جمع لنفسه أسماء مصنفات عدة، كالصحيحين والسنن، له بمضمون ذلك الكراس إجازة من شيخ له، أن يروي تلك الكتب عنه، وذلك بإسناد لذلك الشيخ عن شيخ له، ويقع في السلسلة من هو معروف من علماء المتأخرين بالإسناد، ينتهي الإسناد إلى إمام من الأئمة الحديث، كالحافظ ابن حجر أو غيره، ومنه إلى الأئمة المصنفين لتلك الكتب.
والعيب في هذه الإجازات أن الطالب يجاز بمجرد أسماء لكتب، لا يجاز بمضمون، بل من هؤلاء المجازين من لم يطلع على مضمون، ولم ير الكتاب الذي أجيزت له روايته عمره، خصوصاً بعض الأجزاء الحديثية التي هي في عداد المفقود، فعجبا لأحدهم يقول بعد ذلك:(لدي برواية صحيح البخاري إجازة) و: (أنا أروي جامع الترمذي عن مسند العصر فلان)، ما
(1) نصب الراية (1/ 121 _ 122).
(2)
أخرجه الخطيب في " الكفاية "(ص: 491) وإسناده صحيح.