الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع:
متى يترك حديث الراوي
؟
عمت مما تقدم في (تفسير التعديل) أن ضبط الراوي يعرف مقارنته بحديث الثقات المعروفين، فإن وافق فيما نقل ولو معنى، أو غلبت عليه الموافقة وندرت المخالفة وتميزت؛ فهو ضابط.
لكن أعلم أن السلامة من الغلط والوهم ليست واردة على أحد من رواة الحديث وإن وصف بكونه " أمير المؤمنين في الحديث ".
لذا فالخطأ النادر المتميز من الثقة، في راو أو إسناد أو متن، لا يسقط به الثقة، إنما يرد من روايته ذلك الخطأ.
قال سفيان الثوري: " ليس يكاد يفلت من الغلط أحد، إذا كان الغالب على الرجل الحفظ فهو حافظ، وإن غلط، وإن كان الغالب عليه الغلط ترك "(1).
وقال عبد الله بن المبارك: " ومن يسلم من الوهم؟ "(2).
(1) أخرجه الخطيب في " الكفاية "(ص: 227 _ 228) بإسناد جيد.
(2)
أخرجه ابنُ عدي في " الكامل "(1/ 191) بإسناد صحيح.
وكان يحيى بن معين يقول: " من لا يخطئ في الحديث فهو كذاب "(1).
ويقول: " لست أعجب ممن يحدث فيخطئ، إنما العجب ممن يحدث فيصيب "(2).
وقال ابن حبان: " وفي الدنيا أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرى عن الخطأ؟ ولو جاز ترك حديث من أخطأ لجاز ترك حديث الصحابة والتابعين ومن بعدهم من المحدثين؛ لأنهم لم يكونوا بمعصومين "(3).
قال الذهبي: " ليس من حد الثقة أنه لا يغلط ولا يخطئ فمن الذي يسلم من ذلك غير المعصوم الذي لا يقر على الخطأ "(4).
قلت: فهذا شعبة بن الحجاج أمير المؤمنين في الحديث، ومع ذلك فقد أخذ عليه الخطأ اليسير في أسماء الرواة.
قال أبو زرعة الرازي: " كان أكثر وهم شعبة في أسماء الرجال "(5)، ونحوه قال أبو حاتم كذلك (6).
وقال أبو داود السجستاني: " شعبة يخطئ فيما لا يضره ولا يعاب عليه " يعني في الأسماء (7).
وله في " علل الحديث " لا بن أبي حاتم ثمانية أو تسعة مواضع أخطأ فيها.
(1) تاريخ يحيى بن معين (النص: 2682، 4342) ومن طريقه: ابنُ عدي في " الكامل "(1/ 191) والخطيب في " الجامع "(رقم: 1124).
(2)
تاريخ يحيى بن معين (النص: 52) ومن طريقة: ابن عدي (1/ 191).
(3)
الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان (1/ 153).
(4)
الموقظة (ص: 78).
(5)
علل الحديث، لابن أبي حاتم (رقم: 45).
(6)
علل الحديث (رقم: 45، 1196، 2831).
(7)
سؤالات الآجري (النص: 1190).
وما من هؤلاء الحفاظ المكثرين من يسلم من شيء يؤخذ عليه، والإكثار مظنة العثار، والراوي يحفظ الكثير، فيهم في اليسير، فلا يقدح قليل خطئه في كثير صوابه.
قال ابن عدي في (أبي داود الطيالسي): " حدث بأصبهان كما حكى عنه بندار أحداً وأربعين ألف حديث ابتداء، وإنما أراد به من حفظه، وله أحاديث يرفعها، وليس بعجب ممن يحدث بأربعين ألف حديث من حفظه أن يخطئ في أحاديث منها، يرفع أحاديث يوقفها غيره، ويوصل أحاديث يرسلها غيره، وإنما أتي ذلك من قبل حفظه، وما أبو داود عندي وعند غيري إلا متيقظ ثبت "(1).
وقال الحافظ أبو حامد ابن الشرقي في (أبي الأزهر أحمد بن الأزهر النيسابوري): " أبو الأزهر هذا كتب الحديث فأكثر، ومن أكثر لا بد من أن يقع في حديثه الواحد والاثنان والعشرة مما ينكر "(2).
قلت: فالعبرة إنما هي بغلبة الحفظ والضبط والإتقان وأن يقل الغلط إلى جنب ما روى.
واعلم أن ورود مظنة الغلط على كل راو أوجبت التحري والتثبت في قبول الأحاديث المنسوبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بفحص أحوال النقلة وتمييز ضبطهم من عدمه، وتمامه من نقصه، ومقدار غلطهم بالنسبة إلى جملة ما رووا، فراو حدث بمئة حديث وأخطأ في بضعة أحاديث، فرفع ما هو موقوف أو وصل ما هو مرسل، فلا تطرح المئة لأجل البضعة، وإنما يميز ما أخطأ فيه بالحجة، ويقبل سائره، وآخر روى عشرة أحاديث فأخطأ في بعضها، فقلة ما روى مع الخطأ تورد الريبة في سائر العشرة، فمثله لا يقبل منه التفرد ويوصف بعدم الضبط أو خفته، وقد يبقى في درجة من يستشهد به، وقد يطرح كلية.
(1) الكامل (4/ 278).
(2)
الكامل، لابن أبي عدي (1/ 318)
قال عبد الرحمن بن مهدي: قيل لشعبة: متى يترك حديث الرجل؟ قال: " إذا حدث عن المعروفين ما لا يعرفه المعروفون، وإذا أكثر الغلط، وإذا اتهم بالكذب، وإذا روى حديثاً غلطاً مجتمعاً عليه فلم يتهم نفسه فيتركه لذلك طرح حديثه، وما كان غير ذلك فارووا عنه "(1).
وقال أحمد بن سنان الواسطي: " كان عبد الرحمن بن مهدي لا يترك حديث رجل إلا رجلاً متهماً بالكذب، أو رجلاً الغالب عليه الغلط "(2).
وكان عبد الرحمن بن مهدي يقول: " ثلاثة لا يحمل عنهم: الرجل المتهم بالكذب، والرجل الكثير الوهم والغلط، ورجل صاحب هوى يدعو إلى بدعة "(3).
وقال أبو موسى محمد بن المثنى: قال لي عبد الرحمن بن مهدي: " يا أبا موسى، أهل الكوفة يحدثون عن كل أحد ". قلت: يا أبا سعيد، إنهم يقولون: إنك تحدث عن كل أحد. قال: " عمن أحدث؟ "، فذكرت له محمد بن راشد المكحولي، فقال لي:" احفظ عني، الناس ثلاثة: رجل حافظ متقن، فهذا لا يختلف فيه. وآخر يهم، والغالب على حديثه الصحة، فهو لا يترك حديثه، لو ترك حديث مثل هذا لذهب حديث الناس. وآخر يهم، والغالب على حديثه الوهم، فهذا يترك حديثه "(4).
(1) أخرجه ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل "(1/ 1 /31 _ 32) بإسناد صحيح. وأخرجه الرامهرمزي في " المحدث الفاصل "(ص: 410) وابن حبان في " المجروحين "(1/ 74، 77، 79) والعقيلي (1/ 13) وابن عدي في " الكامل "(1/ 260) والحاكم في " معرفة علوم الحديث "(ص: 62) والخطيب في " الكفاية "(ص: 225 _ 226، 229) بمعناه من وجه آخر فيه ضعف.
(2)
أخرجه الخطيب في " الكفاية "(ص: 227) بإسناد صحيح.
(3)
أخرجه عبد الله بن أحمد في " العلل "(النص: 4947) وعنه: العقيلي (1/ 8) وإسناده صحيح.
(4)
أثر صحيح. أخرجه مسلم في " التمييز "(رقم: 35) وابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل "(1/ 1 / 38) والرامهرمزي في " المحدث "(ص: 406) والعقيلي في " الضعفاء "(ق: 2 / ب) وابن عدي في " الكامل "(1/ 242، 264) والخطيب في " الكفاية "(ص: 227) و " الجامع لأخلاق الراوي "(رقم: 1265) جميعا من رواية ابن المثنى وزاد ابن أبي حاتم تفسيرا لقوله: " فهذا يترك حديثه " قال: " يعني لا يحتج بحديثه ".
وقال الحميدي: " فإن قال قائل: فما الشيء الذي ظهر لك في الحديث أو من حدث عنه لم يكن مقبولاً؟
قلنا: أن يكون في إسناده رجل غير رضى، بأمر يصح عليه: بكذب، أو جرحة في نفسه ترد بمثلها الشهادة، أو غلطاً فاحشاً لا يشبه مثله، وما أشبه ذلك.
فإن قال: فما الغفلة التي ترد بها حديث الرجل الرضى الذي لا يعرف بكذب؟
قلت: هو أن يكون في كتابه غلط، فيقال له في ذلك، فيترك ما في كتابه ويحدث بما قالوا، أو يغيره في كتابه بقولهم، لا يعقل فرق ما بين ذلك.
أو يصحف تصحيفاً فاحشاً، فيقلب المعنى، لا يعقل ذلك، فيكف عنه.
وكذلك من لقن فتلقن، التلقين يرد حديثه الذي لقن فيه، وأخذ عنه ما أتقن حفظه إذا علم أن ذلك التلقين حادث في حفظه لا يعرف به قديماً، فأما من عرف به قديماً في جميع حديثه؛ فلا يقبل حديثه، ولا يؤمن أن يكون ما حفظ مما لقن " (1).
وقال الشافعي: " ومن كثر غلطه من المحدثين ولم يكن له أصل كتاب صحيح لم نقبل حديثه، كما يكون من أكثر الغلط في الشهادة لم نقبل شهادته "(2).
(1) الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم (1/ 1 / 33 _ 34) بسند جيد.
(2)
الرسالة، للشافعي (ص: 382) وأخرجه عنه الخطيب في " الكفاية "(ص: 228).
قلت: هذه بعض عباراتهم الجامعة تشرح ما لخصته قبل: أن ثبوت الغلط من الراوي لا يقدح في حديثه حتى يكثر منه، وما تميز حفظه له من الحديث فهو مقبول، والصدق لا ينافي الغلط في الحفظ.
* * *