الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني:
تفسير عبارات الجرح والتعديل
هذا المبحث معقود لبيان دلالات الألفاظ التي ورد عن السلف من أئمة هذا الشأن بيان معانيها، أو كانت كثيرة الاستعمال شائعة، يجدر التنبيه على بعض ما يتصل بها مما تكون له فائدة لكشف أثر استعمالها.
ولم أقصد إلى حصر ألفاظ الجرح والتعديل، فهذا مما لا يتحمله هذا المقام (1)، ولم أر تتبع ذلك استقصاء مما له كبير فائدة، وذلك أن منها ما يندر استعماله، بل فيها ما لم يستعمل إلا في الراوي الواحد (2)، ومنها الشائع المنتشر، وهذا غالبه بين في دلالته اللغوية، فالأصل أن تلك الألفاظ موضوعة على دلالاتها في كلام العرب، ومنها ما يعرف بالمقايسة بما أذكر.
فإن كانت للفظ دلالة خاصة، فالطريق إلى العلم بها أحد أمور ثلاثة:
الأول: بيان مستعملها أنه يعني بها كذا.
(1) ولسْتُ أرى ابتداع أمْر كهذا أن يكون على سبيل الاستقصاءِ إلا مما يثْقل به هذا العلم، فإنَّ المتعرض له الناظر في مصطلحات أهْله المشتغل به، المدمن للنظر في تراجم النقلة، لا يحتاج إلى أن يُتكلف له تتبع مثل ذلك، وهُو أمْرٌ لم يفعله المتقدمون، إنما شرحوا من تلك العبارات ما يُشكل وما يكثر، وقد رأيت كتاباً حافلاً لشيخ فاضل جمع فيه تلك الألفاظ كالمستقصي، لكني استثْقلته للمبتدئ، واستبْعدتُ فائدته للمتخصص.
(2)
وللعالم الفاضل الدكتور سعدي الهاشمي كِتابان فريدان في جمع الألفاظ النادرة والقليلة الاستعمال، أحدهما في (ألفاظ التوثيق والتعديل)، والثاني في (ألفاظ التجريح).
والثاني: دلالة قرينة في السياق على إرادة معنى معين.
والثالث: إفادة التتبع لاستعمالات الناقد لتلك اللفظة.
1 _
من هو (الحجة)؟
قولهم: (فلان حجة)، أو:(يحتج بحديثه) أو: (لا يحتج بحديثه) مما يتكرر كثيراً في كلام النقاد في تعديل الرواة وتجريحهم.
فقولهم: (حجة) يعني (ثقة)، بل فوق الثقة (1)، يصحح حديثه ويحتج به.
وتأتي عبارة (يحتج به)، في أكثر الأحيان وصفاً إضافياً مع لفظ آخر أو أكثر من ألفاظ التعديل، لكن قد يستعملها الناقد أحياناً وصفاً مستقلاً، وهي عندئذ من أوصاف التعديل، وصريحة في صحة الاحتجاج بحديث الموصوف بها عند قائلها.
من ذلك الدارقطني في (مغيرة بن سبيع الكوفي) يروي عن بريدة الأسلمي: " يحتج به "(2).
ويقابلها قولهم: (لا يحتج به) في التجريح، وستأتي.
فإذا قال الناقد: (فلان لا بأس به) فيقال له: يحتج به؟ فيقول: (لا)، دل ذلك على أنه لم يرد بعبارة التعديل ما يفهمه إطلاقها من صحة أو حسن حديث ذلك الراوي.
ويأتي في شرح عبارة: (لا بأس به) من أمثلة ما يوضح ذلك.
وللأئمة في إطلاق وصف " حجة " إرادة خاص.
(1) انْظر: تَذكرة الحفاظ، للذهبي (3/ 979).
(2)
سؤالات البرقاني (النص: 511).
فقال أحمد بن حنبل وقد سئل عن عقيل بن خالد ويونس بن يزيد وشعيب بن أبي حمزة من أصحاب الزهري: " ما فيهم إلا ثقة " قال المروذي: وجعل يقول: " تدري من الثقة؟ إنما الثقة يحيى القطان، تدري من الحجة؟ شعبة وسفيان حجة، ومالك حجة "، قلت: ويحيى؟ قال: " يحيى وعبد الرحمن، وأبو نعيم الحجة الثبت، كان أبو نعيم ثبتاً ".
وشبيه به ما نقله المروذي، قال: قلت (يعني لأحمد بن حنبل): عبد الوهاب (يعني ابن عطاء) ثقة؟ قال: " تدري من الثقة؟ الثقة يحيى القطان "(1).
وقال أبو زرعة الدمشقي: قلت ليحيى بن معين، وذكرت له الحجة، فقلت له: محمد بن إسحاق منهم؟ فقال: " كان ثقة، إنما الحجة عبيد الله بن عمر، ومالك بن أنس، والأوزاعي، وسعيد بن عبد العزيز "(2).
قال أبو زرعة: فقلت ليحيى بن معين: فلو قال رجل: إن محمد بن إسحاق كان حجة، كان مصيباً؟ قال:" لا، ولكنه كان ثقة "(3).
قلت: وهذه العبارات وشبهها من هؤلاء الأعلام أرادوا بها الحجة الذي يكون حكماً على غيره فيما يرويه، ينازع الرواة إلى روايته، ولا ينازع هو إلى غيره، لكونه قد تجاوز في الحفظ والإتقان أن يكون محكوماً عليه، أو أرادوا من يليق إطلاق القول:" هو ثقة "، أو " هو حجة " دون تحفظ.
وإلا فإنهم احتجوا بروايات الثقات المقلين، وبالثقات الذين قورنوا هنا ببعض كبار المتقنين، بل واحتجوا بحديث الصدوق لكن بعد عرضه على المحفوظ من حديث الثقات.
(1) العلل ومعرفة الرجال، رواية المروذي (النص: 48).
(2)
تاريخ أبي زُرعة (1/ 460 _ 461).
(3)
تاريخ أبي زُرعة (1/ 462).
2 _
قولهم: (ثقة)، ويشبهها:(متقن)، و (ثبت).
هذه اللفظة إذا صدرت من ناقد عارف كمن وصفنا، فإنها تعني أن الموصوف بها صحيح الحديث، يكتب حديثه ويحتج به في الانفراد والاجتماع.
قال أبو زرعة الرازي في (حصين بن عبد الرحمن السلمي): " ثقة "، فقال ابن أبي حاتم: يحتج بحديثه؟ قال: " إي، والله "(1).
لكنهم إذا اختلفوا فلاحظ أن لفظ (ثقة) يمكن أن يجامع اللين اليسير الذي لا يضعف به الراوي، وإنما قد ينزل بحديثه إلى مرتبة الحسن، كقول علي بن المديني في (أيمن بن نابل):" كان ثقة، وليس بالقوي "(2)، وقول يعقوب بن سفيان في (الأجلح بن عبد الله الكندي):" ثقة، في حديثه لين "(3)، وفي (فراس بن يحيى):" في حديثه لين، وهو ثقة "(4).
كما أنه قد يجامع الضعف الذي يبقي الراوي في إطار من يعتبر بحديثه، مثل قول يعقوب بن شيبة في (علي بن زيد بن جدعان):" ثقة، صالح الحديث، وإلى اللين ما هو "(5).
وإدراك هذا يعين على الإجابة عن تعارض ظاهر في العبارات المنقولة عن الناقد المعين، ويكثر مثله عن يحيى بن معين، حيث تختلف عنه الروايات في شأن بعض الرواة جرحاً وتعديلاً (6)، كما يعين على الإجابة كذلك عن تعارض يقع بين عبارات النقاد في الراوي المعين.
(1) الجرح والتعديل (1/ 2 / 193).
(2)
سؤالات ابن أبي شيبة (النص: 195).
(3)
المعرفة والتاريخ (3/ 104).
(4)
المعرفة والتاريخ (3/ 92).
(5)
نقله المري في " تهذيب الكمال "(20/ 438).
(6)
كما تقدم في (الفصْل السابق).
3 _
قولهم: (جيد الحديث).
عبارة تعديل واحتجاج، مستعملة عندهم بغير شيوع، واستعملوها بما يساوي (ثقة)، ولذا فربما اقترنت بها في كلام بعض النقاد.
فمن ذلك، قول أحمد بن حنبل في (زكريا بن أبي زائدة):" جيد الحديث، ثقة "(1)، وفي (سليمان بن أبي مسلم الأحول):" ثقة، جيد الحديث "(2).
ووقعت مرسلة في كلام أبي داود السجستاني، فقد قال في (عمر بن عبد الله الرومي):" جيد الحديث "(3)، وكذلك قال أبو زرعة الدمشقي في (الوليد بن عبد الرحمن الجرشي)(4).
4 _
قولهم: (صدوق).
وصف الراوي بهذه العبارة جرى عند المتأخرين حملها على من يكون في مرتبة من يقولون فيه: (حسن الحديث)، والاصطلاح لا حرج فيه، لكن ليس على ذلك الإطلاق استعمال السلف.
نعم، هي مرتبة دون الثقة في غالب استمالهم، بل حديث الموصوف بها على ما نص عليه ابن أبي حاتم عن منهج أئمة الحديث أنه يكتب وينظر فيه، أي لا يؤخذ ثابتاً على التسليم، حتى تدفع عنه مظنة الخطأ والوهم، ويكون ذلك الحديث المعين منه محفوظاً.
و (الصدوق) هو من يحكم بحسن حديثه عند اندفاع تلك المظنة.
(1) العلل ومعرفة الرجال، رواية الميموني (النص: 363).
(2)
العلل، رواية الميموني (النص: 367).
(3)
سؤالات الآجري (النص: 824).
(4)
تاريخ أبي زُرعة (2/ 713).
قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن عطاء الخراساني؟ فقال: " لا بأس به، صدوق "، قلت: يحتج بحديثه؟ قال: " نعم "(1).
وقد تأتي (صدوق) وصفاً للثقة المبرز في الحفظ والإتقان، فيكون إطلاقها عليه مجردة لا يخلو من قصور من قبل القائل، لا ينزل بدرجة ذلك الحافظ، من أجل ما استقر من العلم بمنزلته.
وذلك مثل قول أبي حاتم الرازي في (عمرو بن علي الفلاس): " كان أرشق من علي بن المديني، وهو بصري صدوق "(2).
وجدير أن تعلم أن عبارة (صدوق) قد تجامع وصف الراوي بكونه (ثقة) في قول الناقد، يوصف الراوي بهما جميعاً، فإذا وجدت ذلك في راو، فالأصل أنه بمنزلة التوكيد لنعته بالثقة من قبل ذلك الناقد.
كقول أحمد بن حنبل في (أبي بكر بن أبي شيبة): " صدوق ثقة "(3)، فأبو بكر متفق على حفظه وثقته، فلم يقع هذا النعت له على سبيل التردد بين الوصفين.
وأكثر ما يأتي ذلك على هذا المعنى.
نعم، قد يطلق الوصفان مجموعين تارة، ويشعر استمالهما مقارنة بأوصاف سائر النقاد لذلك الراوي بأن المراد (هو صدوق أو ثقة) على سبيل التردد، كقول أبي حاتم الرازي في (سماك بن حرب): " صدوق ثقة (4).
وربما جمع الناقد الأوصاف المتعددة من أوصاف التعديل في الراوي، والتي لو جاءت مفرقة لكان لكل منها دلالتها ومعناها، لكنها حيث اجتمعت
(1) الجَرح والتعديل (3/ 1 / 335).
(2)
الجرح والتعديل (3/ 1 / 249).
(3)
العلل ومعرفة الرجال (النص: 1658).
(4)
الجرح والتعديل (2/ 1 / 280).
فإنها تحمل على تأكيد التعديل، كقول أبي حاتم الرازي في (السري بن يحيى الشيباني):" صدوق، ثقة، لا بأس به، صالح الحديث "(1)، وقوله في (عبد الله بن محمد بن الربيع الكرماني):" شيخ ثقة صدوق مأمون "(2).
وربما جمعت إلى وصف أدنى، فتنزل بالراوي عند الناقد له إلى تلك المرتبة الدنيا، مع بقاء الوصف بالصدق في الجملة.
مثل: (عباد بن عباد المهلبي)، قال فيه أبو حاتم:" صدوق، لا بأس به "، قيل له: يحتج بحديثه؟ قال: " لا "(3).
أما إذا جاء الوصفان من أكثر من قائل، فالأصل اعتبار دلالات ألفاظ كل على سبيل الاستقلال، فإن الرجل يختلف فيه بين أن يكون ثقة أو صدوقاً، فيصار إلى تحرير أمره تارة بالجمع بين أقوالهم، وتارة بالترجيح بدليله.
5 _
قولهم: (لا بأس به)، أو:(ليس به بأس).
الأصل أن هذه اللفظة إذا أطلقت على راو من قبل ناقد عارف فهي تعديل له في نفسه وحديثه، فإن أريد به معنى مخصوص بين.
وذلك كقول أحمد بن حنبل في (مجاعة بن الزبير): " لم يكن به بأس في نفسه "(4).
قد يحتج به ابتداء:
كقول أبي حاتم الرازي في (غوث بن سليمان بن زياد الحضرمي): " صحيح الحديث، لا بأس به "(5).
(1) الجرح والتعديل (2/ 1 / 284).
(2)
الجرح والتعديل (2/ 2 / 162).
(3)
الجرح والتعديل (3/ 2 / 83).
(4)
الجرح والتعديل (4/ 1 / 420).
(5)
الجرح والتعديل (3/ 2 / 57).
وقوله في (واقد بن محمد بن زيد العمري): " لا بأس به، ثقة، يحتج بحديثه "(1).
وقوله في (عطاء بن أبي مسلم الخراساني): " لا بأس به، صدوق "، فقال ابنه: يحتج بحديثه؟ قال: " نعم "(2).
وقوله في (عبد ربه بن سعيد): " لا بأس به "، فقال ابنه: يحتج بحديثه؟ قال: " هو حسن الحديث، ثقة "(3).
وقول الدارقطني في (مبشر بن أبي المليح): " لا بأس به، ويحتج بحديثه "(4).
ومن هذا استعمالها في كلام الناقدين: يحيى بن معين، وعبد الرحمن بن إبراهيم دحيم.
قال أبو بكر بن أبي خيثمة: قلت ليحيى بن معين: إنك تقول: (فلان ليس به بأس)، و (فلان ضعيف)؟ قال:" إذا قلت: (ليس به بأس) فهو ثقة، وإذا قلت لك: (هو ضعيف) فليس هو بثقة، ولا يكتب حديثه "(5).
وقال أبو زرعة الدمشقي: قلت لعبد الرحمن بن إبراهيم: ما تقول في علي بن حوشب الفزاري؟ قال: " لا بأس به "، قلت: ولم لا تقول (ثقة) ولا تعلم إلا خيراً؟ قال: " قد قلت لك: إنه ثقة "(6).
ولك أن تقول: إنما جعلها ابن معين ودحيم تساوي الوصف بقولهم:
(1) الجرح والتعديل (4/ 2 / 33).
(2)
الجرح والتعديل (3/ 1 / 335).
(3)
الجرح والتعديل (3/ 1 / 41).
(4)
سؤالات البرقاني (النص: 486).
(5)
هوَ في " تاريخ ابن أبي خيثمة "(ص: 315 _ تاريخ المكيين) وأخرجه من طريقه: ابن شاهين في " الثقات "(ص: 270) والخطيب في " الكفاية "(ص: 60).
(6)
تاريخ أبو زُرعة (1/ 395).
(ثقة)، على اعتبار أنها مرتبة من مراتب الثقات، لا أنها تعادلها من كل وجه عند الإطلاق.
وقد تكون بمنزلة قولهم في الراوي: (صدوق)، فيكتب حديثه وينظر فيه، ويحتج به بعد اندفاع شبهة الوهم والخطأ، لكون الوصف بها حينئذ قاصراً عن وصف أهل الضبط والإتقان.
مثل قول ابن عدي في (المغيرة بن زياد الموصلي): " عامة ما يرويه مستقيم، إلا أنه يقع في حديثه كما يقع في حديث من ليس به بأس من الغلط، وهو لا بأس عندي "(1).
وقد يكون موضع تردد عن الناقد:
كقول أبي حاتم الرازي في (إبراهيم بن عقبة بن أبي عياش الأسدي) وقد وثقوه: " صالح، لا بأس به "، قال ابنه: قلت: يحتج بحديثه؟ قال: " يكتب حديثه "(2).
وقوله في (زهرة بن معبد أبي عقيل): " ليس به بأس، مستقيم الحديث " فقال ابنه: يحتج بحديثه؟ قال: " لا بأس به "(3).
وقد يعتبر به، ولا يبلغ حديثه الاحتجاج:
كقول أبي حاتم في (عبيد الله بن علي بن أبي رافع المدني): " لا بأس بحديثه، ليس منكر الحديث "، فقال ابنه: يحتج بحديثه؟ قال: " لا، هو يحدث بشيء يسير، وهو شيخ "(4).
وقوله في (عنبسة بن الأزهر الشيباني) و (محمد بن سعيد ابن
(1) الكامل (8/ 76).
(2)
الجرح والتعديل (1/ 1 / 117).
(3)
الجرح والتعديل (1/ 2 / 615).
(4)
الجرح والتعديل (2/ 2 / 328).
الأصبهاني) في كل منهما: " لا بأس به، يكتب حديثه، ولا يحتج به "(1).
وقول ابن عدي في (جعفر بن ميمون أبي العوام البصري): " ليس بكثير الرواية، وقد حدث عنه الثقات، مثل: سعيد بن أبي عروبة، وجماعة من الثقات، ولم أر بحديثه نكرة، وأرجو أنه لا بأس به، ويكتب حديثه في الضعفاء "(2).
وعند الدارقطني ربما قارن هذا اللفظ قلة حديث الراوي:
كما قال في (أيوب بن وائل) الذي يحدث عن نافع، وعنه حماد بن زيد:" مقل، صاحب حديث، لا بأس به "(3).
وقال في (ثمامة بن شراحيل) الراوي عن ابن عمر: " لا بأس به، شيخ مقل "(4).
وقال في (الخصيب بن زيد) الراوي عن الحسن البصري: " شيخ لا بأس به، ليس له كبير مسند "(5).
تنبيه:
أما عبارة: (لا أعلم به بأساً)، فهذه وقعت في كلام أحمد بن حنبل في جماعة من الرواة، منهم: صالح بن نبهان مولى التوأمة قبل أن يختلط (6)، وعبد الله بن شريك (7)، والمختار بن فلفل (8)، وداود بن صالح
(1) الجرح والتعديل (3/ 1 / 401، و 3/ 2 / 268).
(2)
الكامل (2/ 370).
(3)
سؤالات البرقاني (النص: 18).
(4)
سؤالات البرقاني (النص: 65).
(5)
سؤالات البرقاني (النص: 135).
(6)
العلل ومعرفة الرجال (النص: 2382، 4479).
(7)
العلل ومعرفة الرجال (النص: 3193).
(8)
العلل ومعرفة الرجال (النص: 3321).
التمار (1)، ويزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد (2)، وعمير بن سعيد النخعي (3)، وقيس بن طلق (4).
ولم يقلها في راو من هؤلاء إلا وهو إما ثقة وإما صدوق، ليس فيهم من ينزل عن ذلك.
وشبيه به استعمال من جرت في قوله من سواه من النقاد، كالذهبي من المتأخرين، فإنه يقولها في رواة من المستورين أو من فوقهم.
ولو جاريت مجرد دلالة اللفظ اللغوية، لوجدت بينها وبين (لا بأس به) فرقاً، وذلك شبيه بما حدث به عبد الله بن عون، قال: قال ابن سيرين لرجل في شيء سأله عنه: " لا أعلم به بأساً "، ثم قال له:" إني لم أقل لك: لا بأس به، إنما قلت: لا أعلم به بأساً "(5).
قلت: لكن حين تبين لنا المراد بالتعديل بها في حق النقلة، وعلمنا أن الناقد قد عنى التعديل، لم يؤثر ما للفظ اللغوي من دلالة.
وأرى مثلها قول أحمد بن حنبل في جماعة من الرواة: (لا أعلم إلا خيراً)، فقد تتبعتها فوجدته لا يكاد يقولها إلا في ثقة أو صدوق، وندر منه قولها في مجروح ينزل عن درجة الاعتبار.
وذلك كالذي نقل الميموني عن أحمد في (الحكم بن عطية) قال: " لا أعلم إلا خيراً "، فقال له رجل: حدثني فلان عنه عن ثابت عن أنس، قال: كان مهر أم سلمة متاعاً قيمته عشرة دراهم، فأقبل أبو عبد الله يتعجب،
(1) الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم (1/ 2 / 416).
(2)
الجرح والتعديل (4/ 2 / 275).
(3)
سؤالات أبي داود (النص: 342).
(4)
سؤالات أبي داود (النص: 551).
(5)
أخرجه ابنُ سعد في " الطبقات "(7/ 196) وأبو زُرعة الدمشقي في " تاريخه "(2/ 683) وأبو نُعيم في " الحلية "(2/ 299 رقم: 2288) وإسناده صحيح.
وقال: " هؤلاء الشيوخ لم يكونوا يكتبون، إنما كانوا يحفظون، ونسبوا إلى الوهم، أحدهم يسمع الشيء فيتوهم فيه "(1).
وكان أحمد بعد ذلك إذا سئل عنه لينه، كما قال له المروذي: الحكم بن عطية، كيف هو؟ قال: البصري؟ قلت: نعم، الذي روى عن ثابت، قال:" كان عندي ليس به بأس، ثم بلغني أنه حدث بأحاديث مناكير " وكأنه ضعفه (2).
قلت: وفي هذا من الفائدة دلالة على أنه قوله في الراوي: (لا أعلم إلا خيراً) تعديل يساوي قوله: (ليس به بأس).
أما عن غير أحمد من سائر النقاد، فندر استعمال هذه اللفظة في كلامهم.
6 _
قولهم: (حسن الحديث).
شرحت ما يتصل به في الكلام على (الحديث الحسن).
7 _
قولهم: (مقارب الحديث).
وقع استعمال هذه العبارة في كلام أحمد بن حنبل، والبخاري، وهي عبارة تعديل وقبول، تساوي مرتبة (حسن الحديث)، على هذا دل استقراء أحوال من قيلت فيه، على قلة ذلك في كتب الجرح والتعديل.
بل وجدت البخاري قال في (الوليد بن رباح): " مقارب الحديث "، وحكم على حديث رواه بقوله:" حديث صحيح "(3).
والترمذي يبني على من يقول فيه البخاري ذلك أن يحسن حديثه (4)،
(1) تهذيب التهذيب (1/ 468).
(2)
العلل، رواية المروذي (النص: 165).
(3)
العلل الكبير، للترمذي (2/ 676 _ 677).
(4)
كما في جاء حديث رواهُ أبو ظِلال عن أنس، " الجامع " للترمذي (رقم: 586)، وآخر لبكَّار بن عبد العزيز بن أبي بكرةَ، " الجامع " (رقم: 1578).
نعم، ربما خالف شيخه في قوله ذلك ولم يقنع به في رواة شاع لأهل العلم بالحديث فيهم الجرح (1).
وبمعناه أيضاً عبارة (حديثه مقارب)، ووقعت في كلام أحمد بن حنبل، وأبي حاتم الرازي، وبندرة في كلام يحيى بن معين، وغيرهم.
8 _
قوهم: (وسط).
تقع في كلام ابن المديني، ومن المتأخرين الذهبي.
وهل هي مرتبة تعديل، أم لا؟
دلالتها من لفظها تضع الموصوف بها في مرتبة بين التعديل والتجريح، ومن كان كذلك فلا يحسن أن يلحق بمراتب التعديل، كما لا يصار به إلى الجرح، فحديثه موقوف على المرجح، وهو المتابعات والشواهد، وعليه يقال: هي مرتبة صالح الحديث الذي لا يحتج بحديثه ولكن يعتبر به.
ومما يبين ذلك من استعمالهم:
قول يحيى بن سعيد القطان في (يزيد بن كيسان اليشكري): "ليس هو ممن يعتمد عليه، وهو صالح وسط "(2).
وقول علي بن المديني في (محمد بن مهاجر): " كان وسطاً "(3).
وقوله في (موسى بن أعين): " كان صالحاً وسطاً "(4).
وقول أبي زرعة الرازي في (محمد بن الزبرقان أبي همام): " صالح، هو وسط "(5).
(1) مثل: عبد الرحمن بن زياد بن أنْعم الإفريقي، (الجامع، للترمذي رقم: 199)، وإسماعيل بن رافع (الجامع، رقم: 1666).
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل "(4/ 2 / 285) وإسناده صحيح.
(3)
سؤالات ابن أبي شيبة (النص: 231).
(4)
سؤالات ابن أبي شيبة (النص: 260).
(5)
الجرح والتعديل (3/ 2 / 260).
قلت: فدلالة هذه العبارة لا تعدو صلاحية حديث الراوي للاعتبار عند من قالها في حق من قيلت فيه.
9 _
قولهم: (شيخ).
عبارة تقع في كلام بعض أئمة الحديث في معرض بيان حال الراوي على سبيل النعت المستقل، لا مضمومة إلى غيرها، وأكثرهم لها استعملاً الإمام أبو حاتم الرازي.
وبتأمل معناها من خلال النظر في حال من قيلت فيه، فإنها لا تدل على عدالة الراوي إلا من جهة أنه مذكور برواية، وليس هذا تعديلاً ولا جرحاً، وليس فيه تمييز لضبطه، ولذا لا تقال إلا في راو قليل الحديث، ليس بالمشهور به.
قال الذهبي: " ليس هو عبارة جرح، ولكنها أيضاً ما هي بعبارة توثيق "(1).
فمن أمثلتها المبينة لذلك ما يلي:
سأل ابن الجنيد يحيى بن معين عن (المفضل بن فضالة أبي مالك البصري)؟ فقال: " شيخ، وأيش عنده؟ ! "(2).
وقال أبو حاتم الرازي في (سليمان بن زياد الحضرمي المصري): " صحيح الحديث "، فقال ابنه: ما حاله؟ قال: " شيخ "(3).
قلت: وهذا رجل قليل الحديث، جملة ما روى من الحديث أربعة أو خمسة أحاديث، يرويها جميعاً عن عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي من صغار الصحابة، وروى عنه جماعة من أهل مصر، وما رواه فجميعه
(1) ميزان الاعتدال (2/ 385).
(2)
سؤالات ابنِ الجنيد (النص: 708).
(3)
الجرح والتعديل (2/ 1 / 118).
محتمل، ولذلك قال يحيى بن معين:" ثقة "(1)، وذكره يعقوب بن سفيان في " ثقات التابعين من أهل مصر "(2).
وقال أبو حاتم في (شبيب بن بشر البجلي): " لين الحديث، حديثه حديث الشيوخ "(3).
قلت: يعني بقوله: " حديثه حديث الشيوخ " أنه قليل الحديث، وكذلك أمره، فجميع ما روى من الحديث إذا استبعدت رواية بعض الهلكى عنه، إنما هو بضعة عشر حديثاً، حديثان من روايته عن عكرمة عن ابن عباس، والباقي من روايته عن أنس، ولم يعرف أكثر ما رواه إلا من طريقه، واشتهر ذكره من رواية أبي عاصم النبيل عنه، ولا يكاد توجد لغيره رواية عنه إلا من طريق لا يخلو من علة، ولذا قال غير واحد من الأئمة:" لم يرو عنه غير أبي عاصم "، وأحسن ما روي عنه من غير طريق أبي عاصم: رواية إسرائيل بن يونس لحديث واحد، وأحمد بن بشير الكوفي بحديث واحد كذلك، ولا كلام في كونه معروفاً، لكن في حديثه على قلته من التفرد ما لا يقدر على حمله، وله في التفسير نصوص رواها عن عكرمة عن ابن عباس، كان أبو حاتم الرازي يقول، وقد سئل عن عمر بن الوليد الشني:" من تثبت عمر أن عامة حديثه عن عكرمة فقط، ما أقل ما يجوز به إلى ابن عباس، لا شبه شبيب بن بشر الذي جعل عامة حديثه عن عكرمة عن ابن عباس "(4) وهو يريد بذلك ما رواه من التفسير، وفيه نقول غريبة مستنكرة.
وقال أبو حاتم وأبو زرعة في (طالب بن حجير أبي حجير): " شيخ "(5).
(1) الجرح والتعديل (2/ 1 / 118).
(2)
المعرفة والتاريخ (496).
(3)
الجرح والتعديل (2/ 1 / 357).
(4)
الجرح والتعديل (3/ 1 / 140).
(5)
الجرح والتعديل (2/ 1 / 496).
ففسره أبو الحسن بن القطان بقوله: " يعنيان بذلك أنه ليس من طلبة العلم ومقتنيه، وإنما هو رجل اتفقت له رواية لحديث أو أحاديث أخذت عنه "(1).
وقال أبو حاتم في (عبد الله بن الأسود القرشي): " شيخ، لا أعلم روى عنه غير عبد الله بن وهب "(2).
قلت: لابن وهب عنه حديثان، يروي أحدهما عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه مرفوعاً:" أعلنوا النكاح "، والثاني عن يزيد بن خصيفة عن السائب بن يزيد مرفوعاً:" لا تزال أمتي على الفطرة ما صلوا المغرب قبل اطلاع النجوم "، كما وقفت له على حديث ثالث ظاهر صنيع أبي حاتم عدم الوقوف عليه، وهو من رواية عبد الله بن عياش بن عباس القتباني عنه عن أبي معقل، عن أبي عبيد مولى رفاعة مرفوعاً:" ملعون من سأل بوجه الله، وملعون من سئل بوجه الله فمنع سائله ".
فهذه رواية ثان عنه، ومقدار هذا الذي رواه يعسر معه تمييز حفظه وإتقانه، لكن حين رأى الدارقطني أن هذا القدر اليسير ليس فيه منكر قال:" مصري لا بأس به "(3).
وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سألت أبي، قلت له: يحيى البكاء أحب إليك، أو أبو جناب (4)؟ قال:" لا هذا، ولا هذا "، قلت: إذا لم يكن في الباب غيرهما، أيهما أكتب؟ قال:" لا تكتب منه شيئاً "، قلت: ما قولك فيه؟ قال: " هو شيخ "(5).
(1) بيان الوهم والإيهام (3/ 482).
(2)
الجرح والتعديل (2/ 2 / 2).
(3)
سؤالات البرقاني (النص: 250).
(4)
البكَّاء هو يحيى بن مسلم، وأبو جَناب هو يحيى بنُ أبي حية الكلبي.
(5)
الجرح والتعديل (4/ 2 / 186).
وقد قال فيه ابن عدي: " ليس بذاك المعروف، وليس له كثير رواية "(1).
وقد يخرج عن المعنى الذي بينت ما لا تخفى دلالته بالقرينة، وذلك كقول عبد الله بن أحمد بن حنبل: قلت لأبي: من رأيت في هذا الشأن، أعني الحديث؟ قال:" ما رأيت مثل يحيى بن سعيد "، قلت: فهشيم؟ قال: " هشيم شيخ "(2).
قلت: فهذا خرج مخرج المقارنة لهشيم بن بشير بيحيى القطان، وإلا فحسبك من قدر هشيم في الحديث أن يقارن بيحيى.
10 _
قولهم: (محدث).
هذه العبارة في كلام المتقدمين تعني الاعتناء بالحديث رواية، وهي وصف مدح، لكنها لا تفيد التعديل الذي يحتج معه بحديث ذلك الراوي، حتى يعرف منه ضبطه لحديثه، وسلامته من قادح في العدالة، فكأن العبارة تساوي (عنده حديث كثير).
ولتبين هذا المعنى خذ له مثالاً قول أبي حاتم الرازي وقد سئل عن (عبد العزيز بن محمد الدراوردي) و (يوسف بن الماجشون): " عبد العزيز محدث، ويوسف شيخ "(3).
فهذه المقارنة تفسر المفارقة بين النعتين، فحيث إن لفظة (شيخ) تعني قلة الحديث، فعبارة (محدث) تعني كثرته.
ومن برهان صحة هذا أن أحمد بن حنبل قال في (الدراوردي): " كان
(1) الكامل (9/ 15).
(2)
العلل ومعرفة الرجال (النص: 1181).
(3)
الجرح والتعديل (2/ 2 / 396).
معروفاً بالطلب " (1)، وقال أبو زرعة وأبو حاتم الرازيان مقارنة بينه وبين (عبد العزيز بن أبي حازم): " ابن أبي حازم أفقه من الدراوردي، والدراوردي أوسع حديثاً " (2).
ولا يبعد من هذا استعمال المتأخرين مصنفي التراجم عندما يطلقون على الرجل وصف " المحدث "، فهم يذكرون هذا الوصف لمن كانت له بالحديث عناية متميزة، أو فائقة.
لكن ينبغي أن تلاحظ منه أن الدراية ليست مرادة في هذا، كذلك قدر المروي لا أصل له في كلامهم، فما ادعاه بعض المتأخرين أن (المحدث) وصف يطلق على من حفظ قدر كذا من الحديث، دعوى لا تعرف لها حجة.
11 _
قولهم: (صالح الحديث).
قال الحافظ أحمد بن سنان: " كان عبد الرحمن بن مهدي ربما جرى ذكر حيث الرجل فيه ضعف، وهو رجل صدوق، فيقول: رجل صالح الحديث "(3).
واستعمل الإمام أحمد هذه العبارة فيمن هو دون الثقة، ويحتج به.
فقال ابن هانئ: سألته عن الأعمش: هل هو حجة في الحديث؟ قال: " نعم "، قلت له: فأبو الزبير؟ قال: " نعم، هو حجة "، قلت: فيزيد التستري؟ قال: " نعم، هؤلاء نحتج نحن بحديثهم "، قلت: فابن إسحاق؟ قال: " هو صالح الحديث، وأحتج به أيضاً "(4).
(1) الجرح والتعديل (2/ 2 / 396).
(2)
الجرح والتعديل (2/ 2 / 383).
(3)
أخرجه الخطيب في " الكفاية "(ص: 60) وإسناده صحيح.
(4)
مسائل ابن هانئ النيسابوري (2/ 241 _ 243).
لكن ربما كانت عبارة تردد هل يحتج به أم لا، عند أبي حاتم الرازي، فإنه قال في (بشير بن عقبة أبي عقيل الأزدي):" صالح الحديث "، فقال ابنه: يحتج بحديثه؟ قال: " صالح الحديث "(1)، مع أن غيره يطلق توثيقه كأحمد وابن معين.
بل ربما كانت عنده دون درجة من يحتج به، كما قال في (عمر بن روبة التغلبي):" صالح الحديث "، فقال ابنه: تقوم به الحجة؟ فقال: " لا، ولكنه صالح "(2).
وقال في (موسى بن أبي عائشة): " صالح الحديث "، فقال ابنه: يحتج بحديثه؟ قال: " يكتب حديثه "(3).
وهذا يعني أنه (صالح الحديث) للاعتبار، أي في الشواهد والمتابعات.
هذا إن صح حمله على التردد، وإلا فهو عبارة تعديل بلا تردد، فتجرى في حق الراوي منزلة سائر ألفاظ التعديل فيه، فإن كانت تلك العبارات قد صيرته إلى الاحتجاج أهملنا أثر التردد في هذه العبارة، وإن كانت تنزل به إلى الاعتبار كان محمل هذه العبارة عليه صحيحاً أيضاً، فإن من يعتبر بحديثه فهو صالح الحديث كذلك.
كما قال أبو حاتم في (حنش بن المعتمر الكناني): " هو عندي صالح "، فقال ابنه: يحتج بحديثه؟ قال: " ليس أراهم يحتجون بحديثه "(4).
وقال يزيد بن الهيثم: قيل ليحيى (يعني ابن معين) وأنا أسمع: (إسماعيل بن زكريا) روى حديث حجية عن علي في قصة صدقة العباس؟
(1) الجرح والتعديل (1/ 1 / 376 _ 377).
(2)
الجرح والتعديل (3/ 1 / 108).
(3)
الجرح والتعديل (4/ 1 / 157).
(4)
الجرح والتعديل (1/ 2 / 291).
فقال: " ليس بشيء، إسماعيل بن زكريا صالح الحديث "، قيل له: فحجة هو؟ قال: " الحجة شيء آخر "(1).
12 _
قولهم: (صويلح).
هي كقولهم: (صالح الحديث) في الصلاحية للاعتبار لا للاحتجاج، وإن كانت صيغتها تفيد أنها دونها في القوة.
وقد قيلت في كلام المتقدمين في طائفة غير كثيرة من الرواة، وقعت في كلام يحيى بن معين (2)، وقالها أبو زرعة الرازي في فرد لعله لم يقلها في غيره (3).
وقال الدارقطني في (هارون بن مسلم صاحب الحناء): " صويلح، يعتبر به "(4).
قلت: فدل هذا، مع التأمل لحال من قالها فيهم ابن معين وأبو زرعة، على أن من هذا وصفه ليس بخارج عما قاله الدارقطني في هارون هذا.
(1) من كلام أبي زكريا (النص: 358).
(2)
قالها مثلاً في (عبْد الرحمن بن سُليمان ابنِ الغسيل) و (عبد الله بن عبد الرحمن بن يعلى الطائفي) في " تاريخ الدارمي "(النص: 450، 473)، وفي (روْح بن المسيب أبي رَجاء الكلبي) و (عبد الله بن عُمر العُمري) و (عُبيد بن طُفيل أبي سيدان) و (عبيد بن عبد الرحمن المعروف بعبيد الصيد) و (عاصم بن رَجاء بن حيوةَ) و (عائذ بن حَبيب) و (محمد بن سُليم أبي هلال الراسبي) و (مُبشر بن مُكسر) و (المستلم بن سعيد) كما في " الجرح والتعديل "(1/ 2 / 496، و 2/ 2 / 110، 409، 410، و 3/ 1 / 342، و 3/ 2 / 17، 273، و 4/ 1 / 343، 439)، وفي (يحيى بن يزيد الهُنائي) كما في " الضعفاء " للعُقيلي (4/ 436)، وهذا أكثرُ المأثور عن يحيى ممن قال فيهم هذه العبارة.
(3)
قالها في (زكريا بن أبي زائدة) كما في " الجرح والتعديل "(1/ 2 / 594) ولابن مَعين مثلها في زكريا هذا.
(4)
سؤالات البرقاني (النص: 526).
ثم أكثر من استعمالها الذهبي فيما لا يخرج عن استعمال من تقدم، في المعنى الذي بينت.
واعلم أنه ليس من هذا أن يقال في الراوي: (له أحاديث صالحة)، إذ ليس هذا وصفاً له في عموم ما روى، بل هو وصف لبعض حديثه، وقد يكون ما عدا تلك الأحاديث واهية منكرة.
وهذا مثل قول ابن عدي في (سليمان بن أرقم) وذكر بعض حديثه: " لسليمان غير ما ذكرت من الحديث أحاديث صالحة، وعامة ما يرويه لا يتابع عليه "(1).
وقوله في (القاسم بن غصن): " له أحاديث صالحة غرائب، ومناكير "(2).
13 _
قولهم: (محله الصدق).
هي عبارة تعديل، تقرب من (صدوق) وإن كانت دونها، فإن حققت فيها ما يشترط لحسن الحديث، حسنت حديث الموصوف بها، ما لم يقترن بها وصف تليين سواهاً، فحينئذ لا تبلغ بالراوي مرتبة الاحتجاج، وإنما هو بمنزلة من يعتبر به ويستأنس بحديثه.
كما قال أبو حاتم وأبو زرعة الرازيان في (سعيد بن بشير): " محله
(1) الكامل (4/ 238).
واعلم أن ابنَ عدي يَستعمل عِبارة (عامة) بمعنى (أكثر) أو (غالب)، دلَّ على ذلك الاستقراء، ورُبما صرَّح في بعض المواضع بما يدلُّ على ذلك أيضاً، وذلك كقوْله في ترجمة (الجرح بن مليح الرُّؤاسي) والد وَكيع:" عامة ما يَرويه عنه ابنه وكيع، وقد حدَّث عنه غيرُ وَكيع الثقات من الناس "(الكامل 2/ 413)، وقال في ترجمة (داود بن علي بن عبد الله بن عباس الهاشمي) بعدَ أن أملى له أحاديث عدة:" وهذا الذي أمْليت لداود هوَ عامة ما يرويه، ولعله لا يرْوي ما ذكرْته إلا حديثاً أو حديثين "(الكامل 3/ 560).
(2)
الكامل (7/ 153).
الصدق عندنا "، قال ابن أبي حاتم: قلت لهما: يحتج بحديثه؟ فقالا: " يحتج بحديث ابن أبي عروبة، والدستوائي، هذا شيخ يكتب حديثه " (1).
ويزيده بياناً قول أبي حاتم الآتي عند شرح عبارة (لا يحتج به).
أما ذكرها مجردة عن وصف التليين، فوقعت كثيراً في كلام طائفة من الأئمة، وأكثر منها أبو حاتم الرازي.
وشبهها قولهم: (إلى الصدق ما هو)، وهي نادرة الاستعمال جداً، إن قيلت مرسلة، فتقرب من (صدوق)، كما قالها أبو زرعة الرازي في (سعيد بن سالم القداح)(2)، وإن ضم إليها تليين فالراوي بحسبه، كما قال أبو زرعة أيضاً في (ربيعة بن عثمان التيمي):" إلى الصدق ما هو، وليس بذاك القوي "(3)، وقال في (مشمعل بن ملحان):" لين، إلى الصدق ما هو "(4)، فهذان صالحاً الأمر يعتبر بهما.
14 _
قولهم: (لين)، أو:(لين الحديث).
قال الحافظ حمزة السهمي: سألت أبا الحسن الدارقطني، قلت له: إذا قلت: (فلان لين) أيش تريد به؟ قال: " لا يكون ساقطاً متروك الحديث، ولكن يكون مجروحاً بشيء لا يسقط عن العدالة "(5).
قلت: وهذا المعنى في التحقيق هو الأصل في معنى هذا اللفظ في كلامهم، وهو الضعف من جهة سوء الحفظ.
وفي معناها كذلك قولهم: (فيه لين)، و (فيه ضعف)، وإن كانت قد
(1) الجرح والتعديل (2/ 1 / 7).
(2)
الجرح والتعديل (2/ 1 / 31).
(3)
الجرح والتعديل (1/ 2 / 477).
(4)
الجرح والتعديل (4/ 1 / 417).
(5)
سؤالات السهمي (النص: 1) وأخرجه من طريقه: الخطيب في " الكفاية "(ص: 60).
تفيد خفة عن (لين) بمقتضى وضعها اللغوي، لكنها كذلك في استعمالهم.
15 _
قولهم: (ليس بالحافظ).
قال ابن القطان الفاسي: " هذا قد يقال لمن غيره أحفظ منه "(1).
قلت: وذلك كما قال يحيى بن سعيد القطان في (عاصم بن سليمان الأحول): " لم يكن بالحافظ "(2)، فإن عاصماً كان من الثقات التقنين، ولكن جفت فيه عبارة يحيى، وغاية القول: أراد بالنظر إلى أقرانه من البصريين.
ومما يبينه أيضاً أن ابن أبي حاتم سأل أباه عن حديث يرويه (حميد بن قيس الأعرج) وقد اختلف عليه فيه؟ فقال: " إن كان شيء فمن حميد؛ لأن حميداً ليس بالحافظ "(3).
قلت: وحميد هذا من الثقات، وإنما فيه لين يسير.
وسأل البرذعي أبا زرعة الرازي عن رواية (يونس بن يزيد الأيلي) عن غير الزهري؟ فقال: " ليس بالحافظ "(4).
قلت: أراد ليس بالمتقن لما رواه عن غير الزهري إتقانه عن الزهري، ولهذا نقل ابن أبي حاتم عن أبي زرعة إطلاقه القول في (يونس) هذا:" لا بأس به "(5).
وقال أبو حاتم الرازي في (عبد الله بن نافع الصائغ): " ليس بالحافظ، هو لين، تعرف حفظه وتنكر، وكتابه أصح "(6).
(1) بيان الوهم والإيهام (4/ 336).
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل "(3/ 1 / 343) وإسْناده صحيح.
(3)
علل الحديث (رقم: 1419).
(4)
سؤالات البرذعي (2/ 684).
(5)
الجرح والتعديل (4/ 2 / 249).
(6)
الجرح والتعديل (2/ 2 / 184).
قلت: وهو عندهم جيد الحديث، وهذا لا تخرج عنه عبارة أبي حاتم هذه.
وقال ابن عدي في (الهيثم بن جميل الأنطاكي): " ليس بالحافظ، يغلط على الثقات "(1).
قلت: وهو موصوف عند عامتهم سوى ابن عدي بالحفظ والإتقان والثقة، وكأنه لينه لوهم يسير وقف عليه منه، والثقة قد يخطئ.
وممن يكثر استعماله لها: أبو أحمد الحاكم، ولفظه بها:" ليس بالحافظ عندهم "، فهو يلخص بذلك عبارة من تقدمه من نقاد المحدثين، وقد يعني بها ما ذكرت من دلالتها على المنزلة المتوسطة للراوي، وربما عنى الضعف الذي لحق الراوي بسبب سوء الحفظ والوهم والخطأ، وقد يكون أثر ذلك في حديثه قليلاً، وقد يكون كثيراً.
لذا، يجب تمييز قدر الضعف فيها بالنظر في عبارات من تقدم أبا أحمد من النقاد.
وتقايس بها عبارات هي في معناها، كقولهم:(ليس بالمتقن).
16 _
قولهم: (معروف).
هل تعني التعديل؟
قال أبو حاتم الرازي في (الحجاج بن سليمان ابن القمري): " شيخ معروف "(2).
والتحقيق: أنه هو الرعيني، مصري اختلفوا فيه جرحاً وتعديلاً، وقرين أبي حاتم أبو زرعة الرازي قال في (الرعيني) هذا:" منكر الحديث "(3)، فكأن أبا حاتم أراد بالمعرفة أنه ليس بمجهول، فتأمل !
(1) الكامل (8/ 399).
(2)
الجرح والتعديل (1/ 2 / 162).
(3)
الجرح والتعديل (1/ 2 / 162).
بينما قال علي بن المديني في (حصين بن أبي الحر مالك العنبري): " معروف "(1)، وهو ثقة.
والتحقيق: أنها عبارة مجملة، يبحث في تفسيرها في عبارات سائر النقاد في ذات ذلك الراوي.
ومن دليل ذلك، قول أحمد بن حنبل في (أبي ريحانة عبد الله بن مطر):" هو معروف "، فسأله ابنه عبد الله: كيف حديثه؟ قال: " ما أعلم إلا خيراً "(2).
فلو كانت العبارة دالة بمفردها على التعديل لما احتاج عبد الله ليسأل أباه عن حاله في الحديث.
ومثلها أيضاً عبارة (مشهور) إذا وصف بها الراوي مجردة، كقول يحيى بن معين في (مغيرة بن حذف العبسي):" مشهور "(3).
17 _
قولهم: (يكتب حديثه).
تأتي على ثلاثة أحوال:
الأولى: مفردة.
فهي عندئذ مشعرة بضعف الراوي لذاته، وصلاحية حديثه للاعتبار، على أدنى الدرجات.
قال أبو حاتم الرازي في (الوليد بن كثير بن سنان المزني): " شيخ يكتب حديثه "(4)، فقال الذهبي:" قول أبي حاتم هذا ليس بصيغة توثيق، ولا هو بصيغة إهدار "(5).
(1) الجرح والتعديل (1/ 2 / 195).
(2)
العلل ومعرفة الرجال (النص: 4593).
(3)
الجرح والتعديل (4/ 1 / 220).
(4)
الجرح والتعديل (4/ 2 / 14).
(5)
ميزان الاعتدال (4/ 345).
والثانية: مضافة إلى لفظ تعديل، كإضافتها إلى (حسن الحديث) أو (صدوق)، فيكون المراد وجوب التحري لإثبات سلامة ما رواه من الخطأ والوهم وإثبات كونه محفوظاًَ، كما بينته في (حسن الحديث).
ومن مثاله: قول أبي حاتم الرازي في (إبراهيم بن يوسف بن إسحاق بن أبي إسحاق السبيعي): " يكتب حديثه، وهو حسن الحديث "(1).
وأورد ابن عدي عن يحيى بن معين قوله في (إبراهيم بن هارون الصنعاني ": " ليس به بأس، يكتب حديثه "، فقال: " معناه: أنه في جملة الضعفاء الذين يكتب حديثهم، ولم أر لإبراهيم هذا عندي إلا الشيء اليسير، فلم أذكره ههنا " (2).
قلت: وهذا منه مؤكد أنه لم يأت بمنكر، وإلا سارع لذكره، لكنه ليس في محل من يحتج به، لعدم ظهور ذلك لقلة حديثه.
والثالثة: أن تضاف إلى عبارة تجريح.
فمقتضى العبارة أن ذلك التجريح لا يبلغ بالراوي درجة من لا يعتبر به، فهو في عداد من يصلح حديثه في المتابعات والشواهد.
كقول أبي حاتم الرازي في (إسماعيل بن مسلم المكي): " ضعيف الحديث، ليس بمتروك، يكتب حديثه "(3).
ويشبه هذه العبارة قولهم: (يخرج حديثه)، كما قال الدارقطني في (عبد الملك بن أبي زهير الطائفي):" شيخ مقل، ليس بالمشهور، يخرج حديثه "(4).
(1) الجرح والتعديل (1/ 1 / 148).
(2)
الكامل (1/ 394).
(3)
الجرح والتعديل (1/ 1 / 199).
(4)
سؤالات البرقاني (النص: 303).
لا ينبغي أن تتجاوز هذه العبارة الدلالة على أن الراوي يكتب حديثه للاعتبار، حتى يرتفع أمره بوصف تعديل يصير معه إلى الاحتجاج.
18 _
قولهم: (يعتبر به).
ظاهرة الدلالة على المراد بها، وهو صلاحية الراوي أو الحديث في المتابعات والشواهد، دون الاحتجاج، وتأتي مضافة إلى غيرها من ألفاظ التليين أو التضعيف، كما تأتي مفردة.
والدرا قطني يستعملها كثيراً مفردة.
كما قالها في (أيوب أبي العلاء القصاب)، و (أسيد بن أبي أسيد)، و (أشعث بن سوار)، و (بكر بن عمرو المعافري) وغيرهم (1).
وبين المراد بها في غير ترجمة:
فمن ذلك قوله في (سعيد بن زياد الشيباني): " لا يحتج به، ولكن يعتبر به "(2).
وقوله في (عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد): " لا يحتج به، يعتبر به "(3).
وقوله في (محمد بن إسحاق بن يسار) وأبيه: " لا يحتج بهما، وإنما يعتبر بهما "(4).
19 _
قولهم: (لا يحتج به).
عبارة إنما يتبادر من لفظها أنها جرح، مع أنها قد تطلق على راو صالح الأمر يعتبر بحديثه في المتابعات والشواهد، ولا يحتج به.
(1) انظر: سؤالات البرقاني (النص: 17، 37، 41، 43، 44، 54، 57).
(2)
سؤالات البرقاني (النص: 188).
(3)
سؤالات البرقاني (النص: 317).
(4)
سؤالات البرقاني (النص: 422).
وهي جرح مبهم، فإذا لم يوجد تفسير مؤثر لسببها، فالأصل: أن لا عبرة بها إذا عارضت التعديل من أهله، إلا مراعاة معنى استثنائي يأتي التنبيه عليه.
قال الضياء المقدسي في (شريح بن النعمان الصائدي) بعد أن ذكر قول أبي إسحاق السبيعي فيه: " وكان رجل صدق ": " وقال أبو حاتم: لا يحتج به، وكذا عادة أبي حاتم يقول في غير واحد ممن روى له أصحاب الصحيح: لا يحتج به، ولا يبين الجرح، فلا نقبل إلا ببيان الجرح "(1).
وكذلك قال أبو الحسن ابن القطان الفاسي راداً قول أبي حاتم في (بهز بن حكيم): " وقول أبي حاتم: لا يحتج به، لا ينبغي أن يقبل منه إلا بحجة "(2).
كما قال رداً لقول أبي حاتم في (أيوب أبي العلاء): " وقول أبي حاتم فيه: لا يحتج به، لا يلتفت إليه إذا لم يفسره، كسائر الجرح المجمل "(3).
قلت: لكن بين أبو حاتم مراده باستعمال هذه العبارة، بما يزيح عنه بعض الإجمال، فإنه قال:" إبراهيم بن مهاجر ليس بقوي، هو وحصين بن عبد الرحمن، وعطاء بن السائب، قريب بعضهم من بعض، محلهم عندنا الصدق، يكتب حديثهم ولا يحتج بحديثهم "، قال ابنه عبد الرحمن: قلت لأبي: ما معنى: لا يحتج بحديثهم؟ قال: " كانوا قوماً لا يحفظون، فيحدثون بما لا يحفظون فيغلطون، ترى في حديثهم اضطراباً ما شئت "(4).
قلت: فهذا البيان يورد شبهة في حديث من وصف بها، فإن عارضها التعديل، فمع قولنا:(هي جرح مجمل)، إلا هذا البيان من أبي حاتم
(1) الأحاديث المختارة (2/ 114).
(2)
بيان الوهم والإيهام (5/ 566).
(3)
بيان الوهم والإيهام (5/ 402).
(4)
الجرح والتعديل (1/ 1 / 133).
يوجب تحوطاً في الاحتجاج بحديث من وصف بها حتى تزول الشبهة، وذلك يتحقق سلامة حديثه المعين من الخطأ، شأن ما يشترط لقبول حديث (الصدوق)، أو بتفرده بإطلاقها دون سائر النقاد، وقد عرف بالتشدد.
وفي معناها قولهم في الراوي: (ليس بحجة).
20 _
قولهم: (ليس بذاك).
وقعت في كلامهم بكثرة، وهي صيغة جرح، تتبعتها فوجدتها قد اطردت في تليين الراوي الموصوف بها، لكنها درجات متفاوتة في التليين:
فأطلقت على من دون الثقة.
وأطلقت على الصدوق الذي يعد حديثه المحفوظ من قبيل الحديث الحسن.
كما قالها يحيى بن معين في (عمرو بن شعيب)(1)، وهو معروف بحسن حديثه، بل في رواية الدوري عن يحيى بن معين نفسه قوله فيه:" ثقة "(2)، وقالها في (العلاء بن عبد الرحمن)(3)، وهو صدوق جيد الحديث، احتج به مسلم في " صحيحه ".
وكما قال أبو زرعة الرازي في (الحكم بن فصيل (4) الواسطي): " شيخ، ليس بذاك "(5)، وهو صدوق لا بأس به، حسن الحديث، قال يحيى بن معين:" ليس به بأس "(6)، وفي رواية:" ثقة "(7).
(1) نقله عنه ابنُ أبي حاتم في " الجرح والتعديل "(3/ 1 / 239).
(2)
تاريخه (النص: 874).
(3)
نقله ابنُ أبي حاتم في " الجرح والتعديل "(3/ 1 / 357).
(4)
هكَذا صَوابه بفتح الفاء والصاد المهملة، انظر: الإكمال، لابن ماكولا (7/ 66).
(5)
الجرح والتعديل (1/ 2 / 127).
(6)
أخرجه ابنُ أبي حاتم في " الجرح والتعديل "(1/ 2 / 127)، وكذلك نحوه في " سؤالات ابن الجنيد " (النص: 801).
(7)
تاريخ يحيى بن معين (النص: 4852).
وقال أبو داود: " ثقة "(1)، وذكره ابن حبان في " الثقات "(2).
وأطلقت على من يعتبر به ممن لم يتبين إتقانه لقلة حديثه.
كما قال يحيى بن معين في (خالد بن الفزر): " ليس بذاك "(3)، وهو شيخ ليس بالمشهور، لم يرو عنه غير الحسن بن صالح، وقال أبو حاتم:" شيخ ".
وأطلقت على من ليس بقوي في حديثه، يعتبر به ولا يحتج به.
كما في ترجمة (إبراهيم بن رستم المروزي)، إذ سأل ابن أبي حاتم أباه قال: قلت: ما حاله في الحديث؟ قال " ليس بذاك، محله الصدق "(4)، والرجل ليس بالقوي في الحديث لوهمه وخطئه.
وكما قال يحيى بن معين في (جعفر بن ميمون الأنماطي): " ليس بذاك "(5)، والرجل صالح الحديث، لكنه لا يبلغ الاحتجاج للينه، وابن معين نفسه قال مرة:" صالح "، وقال أخرى:" ليس بثقة "(6)، فكأنه يقول: لم يبلغ مبلغ الثقات.
وأطلقت على الضعيف المعروف بالضعف، ممن الأصل فيه الصدق فيعتبر بحديثه.
كما قال يحيى بن معين ومحمد بن عبد الله بن نمير في (عثمان بن سعد الكاتب): " ليس بذاك "(7)، وهو لين الحديث، سيىء الحفظ، شرح
(1) سؤالات الآجري (النص: 129، 180).
(2)
الثقات (8/ 193).
(3)
نقله ابنُ أبي حاتم في " الجرح والتعديل "(1/ 2 / 346)، وفيه قولُ أبي حاتم التالي كذلك.
(4)
الجرح والتعديل (1/ 1 / 99).
(5)
تاريخ يحيى بن مَعين (النص: 3726، 4149).
(6)
انظر: تاريخ يحيى بن مَعين (النص: 3726، 4149).
(7)
تاريخ يحيى بن معين (النص: 3599) والجرح والتعديل (3/ 1 / 153).
أمره ابن حبان فقال: " كان ممن لا يميز شيخه من شيخ غيره، ويحدث بما لا يدري، ويجيب فيما يسأل، فلا يجوز الاحتجاج به "(1).
وكما قال يحيى بن معين في (روح بن أسلم أبي حاتم الباهلي): " ليس بذاك، لم يكن من أهل الكذب "، كأنه يرد قول عفان بن مسلم:" كذاب "، وعفان مع إتقانه لا يعد في مبرزي النقاد، وفسر العبارة فيه أبو حاتم الرازي فقال:" لين الحديث، يتكلم فيه "(2)، فكأنه يشير إلى قول عفان ممرضاً، وأن الرجل لا ينزل حاله عن مجرد الضعف للين حديثه، ولذا أطلق تضعيفه طائفة، ولم يجاوزوا.
وكما قال أحمد بن حنبل في (سلم بن سالم البلخي الزاهد): " ليس بذاك في الحديث " قال عبد الله بن أحمد: " كأنه ضعفه "(3).
قلت: وهو كذلك ضعيف الحديث عند أكثرهم، وعلته من جهة ما روى من المنكر، وكأنه لغفلة الصالحين، وشدد بعض النقاد القول فيه حتى أشار إلى أنه يكذب، لكنه لا يبلغ ذلك، بل هو ضعيف، يبقى في حد الاعتبار.
ولا تعني السقوط بأي اعتبار، فإن وجدتها وصف بها من هو متروك أو متهم، فذلك ممن قالها لعدم اطلاعه على سبب شدة الجرح في ذلك الراوي.
وحيث وقع استعمالها فيما يتردد في الدرجات المتفاوتة احتجاجاً واعتباراً، فلا يصح عدها سبباً لرد حديث الموصوف بها، حتى يحدد معناها بغيرها.
(1) المجروحين (2/ 96).
(2)
الأقوال الثلاثة في " الجرح والتعديل "(1/ 2 / 499).
(3)
العلل ومعرفة الرجال (النص: 5434).
وتجد في كلامهم يذكرون تلك العبارة مضافة إلى لفظة مفسرة، وهي عندئذ بحسبها، فيقولون:(ليس بذاك الثقة)، و (ليس بذاك المعروف)، و (ليس بذاك المشهور) ، و (ليس بذاك القوي)، وهذه عبارات متكررة في كلامهم، سوى الأولى منها فهي نادرة.
21 _
قولهم: (ليس بالقوي).
عبارة تليين، يكتب حديث الموصوف بها، ويعتبر به.
قال الذهبي: " هذا النسائي قد قال في عدة: ليس بالقوي، ويخرج لهم في كتابه، قال: قولنا: (ليس بالقوي) ليس بجرح مفسد "(1).
وعليه قال الذهبي أيضاً في تفسير قول أبي حاتم: (ليس بالقوي): " لم يبلغ درجة القوي الثبت "(2).
قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سألته (يعني أباه) عن هشام بن حجير؟ فقال: " ليس هو بالقوي "، قلت: هو ضعيف؟ قال: " ليس هو بذاك "(3).
وقال عبد الله بن أحمد: سألت أبي عن فرقد السَّبخيِّ؟ فقال: " ليس هو بقويِّ في الحديث "، قلت: هو ضعيف؟ قال: " ليس هو بذاك "(4).
وقال علي بن المديني في (الفرج بن فضالة): " هو وسط، وليس بالقوي "(5).
وقال في (سليمان بن قَرْمٍ): " لم يكن بالقوي، وهو صالح "(6)،
(1) الموقظة (ص: 82).
(2)
الموقظة (ص: 83).
(3)
(4)
العلل ومعرفة الرجال (النص: 751).
(5)
سؤالات ابن أبي شيبة (النص: 234).
(6)
سؤالات ابن أبي شيبة (النص: 247).
ونحوُها في (كثير بن زيد)(1)، و (هشام بن سعد)(2) و (منكدر بن محمد بن المنكدر "
…
(3).
وقال في محمد بن عبد الله بن مسلم ابن أخي الزُّهريِّ: " ضعيفٌ، ليس بالقوي، ونحن نكتب حديثه "(4). */*
وفي (أبي خلف موسى بن خلف): " ليس بالقوي، يعتبر به "(5).
وقال الدارقطني في (شبل بن العلاء بن عبد الرحمن): " ليس بالقوي، ويُخرَّج حديثه "
…
(6).
قلت: عامة استعمالهم لهذه العبارة لا يخرج في دلالته عما ذكرت، فهي عبارة جرح خفيف، تجعل الراوي في مرتبة (صالح الحديث) لغيره، و (لا يحتج به) لذاته.
وقد تدل بالنظر إليها مقرونة بعبارات سائر النقاد في الراوي الذي قيلت فيه على أنه في منزلة من هو دون الثقة وفوق الضعيف، فتليينه بهذه العبارة من جهة عدم بلوغه درجة أهل الإتقان، وكذلك الصدوق، وتارة تدل سائر العبارات على أن الرجل ضعيف الحفظ، فيوصف بالضعف مع صحة الاعتبار بحديثه، لكن لا تفيد شدة الضعف لذاتها.
وقد يراد بها لمعنى غير الحديث، لكن لا يأتي ذلك إلا مبيناً في نفس لفظ الجرح، مثل قول الدارقطني وقد سئل عن (أبي العباس أحمد بن محمد بن سعيد ابن عقدة):" حافظ محدث، ولم يكن في الدين بالقوي، ولا أزيد على هذا "(7).
(1) سؤالات ابن أبي شيبة (النص: 97).
(2)
سؤالات ابن أبي شيبة (النص: 109).
(3)
سؤالات ابن أبي شيبة (النص: 178).
(4)
سؤالات ابن أبي شيبة (النص: 150).
(5)
سؤالات ابن أبي شيبة (النص: 501).
(6)
سؤالات البرقاني (النص: 223).
(7)
سؤالات السُّلمي (النص: 41).
واعلم أن مما يلتحق بهذه اللفظة في المعنى: قولهم: (ليس بالمتين) على معنى قولهم: (ليس بالقوي) بتفصيله.
22 _
قولهم: (إلى الضعف ما هو).
عبارة تليين شائعة، لكنها قليلة الاستعمال في كلامهم، والتليين فيها لم أجده إلا من جهة سوء الحفظ.
كقول أحمد بن حنبل في (عاصم بن عبيد الله بن عاصم العمري): " حديثه وحديث ابن عقيل إلى الضعف ما هو "(1).
وقالها يحيى بن معين في (بشر بن حرب الندبي)(2).
ويَبَيِّنُها قول أبي حاتم الرازي في (الصلت بن دينار الأزدي): " ليِّنُ الحديث، إلى الضعف ما هو، مضطرب الحديث، يكتب حديثه "(3).
وهؤلاء الرواة جميعاً عرفوا بسوءِ الحفظ، وحديثهم يعتَبَر به، ولا يحتج به، وبعضهم أرفع من بعض، وعبد الله بن محمد بن عقيل من أحسنهم حالاً، وقد يحسن حديثه مع لينه.
وشذَّت عبارة يعقوب بن شيبة في (عبد الكريم بن مالك الجزَريِّ)، حيث قال:" إلى الضعف ما هو، وهو صدوق ثقة "(4).
قلت: وابن شيبة يجمع بين ألفاظ لا تأتي على استقامة مصطلحاتهم، فتنبَّه، وكأنه يعني هنا أن الجَزريَّ يُتردَّدُ فيه بين أن يكون صدوقاً أو ثقة، إذ في حفظه ما يميل به إلى الضعف عن درجة الثقات، وليس المراد الضعف الذي ينزل بالراوي عن درجة الاحتجاج، بل إن الجزريَّ ممن يحتج بحديثه.
(1) أخرجه ابنُ عساكر في " تاريخه "(25/ 266) بإسناد جيد.
(2)
الكامل، لابن عدي (2/ 158).
(3)
الجرح والتعديل (2/ 1 / 438).
(4)
أخرجه ابنُ عساكر في " تاريخه "(36/ 466) بإسناد جيد.
23 _
قولهم: (تَعرف وتُنْكر).
عبارة جرح في التَّحقيق، تتَّصل بحديث الراوي لا بشخصه، والمعنى: تارة هكذا وتارة هكذا، يأتي بالحديث مرة على الوجه، ومرة على غير ذلك، أي: لم يكن يتقن حديثه.
ولذا كان الناقد ربما قالها في الراوي، وقرنها بالتَّعبير بالحركة إشارةًَ إلى عدم استقرار حال الراوي وثباته فيما يؤديه.
كما قال علي بن المديني: سألت يحيى بن سعيد (يعني القطان) عن (الربيع بن حبيب)؟ فقال: " تَعْرف وتُنْكر " وقال بيده (1).
قلت: وهو قد روى عن الربيع هذا، وهو صدوق جيد الحديث.
وكما قال ابن أبي حاتم الرازي في (الحسين بن زيد بن عليٍّ الهاشميِّ): قلت: لأبي: ما تقول فيه؟ فحرك يده وقبلها، يعني تعرف وتنكر (2).
وفسر القول فيه ابن عدي فقال: " أرجو أنه لا بأس به، إلا أني وجدت في بعض حديثه النكرة "(3).
وكذلك قال ابن أبي حاتم في (زيد بن عوف القطعي) المقلب بـ (فهد): قيل لأبي: ما تقول فيه؟ فقال: " تَعْرف وتُنْكر " وحرك يده (4).
قلت: وقد وجدت هذا اللفظ وقع في كلام يحيى القطان، وعبد الرحمن بن مهدي والبخاري وأبي حاتم الرازي، وغيرهم، وليس بالكثير، وقيل في رواة درجاتهم متفاوتَةٌ في اللين والضَّعف، وفيهم من
(1) أخرجه ابنُ أبي حاتم في " الجرح والتعديل "(1/ 2 / 457) وإسناده صحيح.
(2)
الجرح والتعديل (1/ 2 / 53).
(3)
الكامل (3/ 218).
(4)
الجرح والتعديل (1/ 2 / 570).
الراجح قبوله، وفيهم من الراجح ضعفه، لذا فهي عبارة تليين مجملة في قدر اللين في الراوي، فتُحرَّرُ فيمن قيلت فيه بحسب دلالة سائر أقوال النقاد فيه الراوي، أو بتأمُّل حديثه وروايته.
24 _
قولهم: (سيئ الحفظ).
عبارة صريحة التعلُّق بحديث الراوي، وليست كثير الورود في كلام المتقدِّمين مطلقة دون وصف آخر، وإنما كان أكثر ما ترد عنهم مقرونة بوصف آخر كالقول:(صدوق سيئ الحفظ)، و (سيئ الحفظ كثير الوهم)، أو (كثير الغلط)، أو (كثير الخطأ)، وما معناها، أو (مضطرب الحديث)، وغير ذلك، وإنما جاءت مطلقة في الراوي بعد الراوي، وقعت في كلام أحمد بن حنبل، وأبي حاتم الرازي، وأبي بكر البزار، والدر قطني، وكثر استعمالها بإطلاق كلام المتأخرين.
ويندر أن تجدها تستعمل فيمن بلغ به سوء الحفظ إلى حدِّ الترك.
كما وقع فيما حكاه عمرو بن علي الفلَاّسُ عن يحيى بن سعيد القطان في (عيسى بن أبي عيسى الحَنَّاط)، وهو متروك الحديث، قال:" كان سيئ الحفظ "(1).
وكما قال عمرو بن علي في (عبيدة بن معتب الضبي): " سيئ الحفظ، متروك الحديث "(2).
قلت: وهو متروك عند جماعة من النقاد، ضعيف لا يبلغ الترك عند آخرين.
وقالوا في جماعة: (سيئ الحفظ جداً)، ولا تعني السقوط.
(1) الكامل، لابن عدي (6/ 436).
(2)
الجرح والتعديل (3/ 1 / 94).
والتحقيق: أن الضعف العائد إلى سوء الحفظ قد يبلغ صاحبه حد الترك، كما بينته في (تفسير الجرح)، لكن يندُرُ ذلك في الرواة الذين قيلت فيهم هذه العبارة، بل أكثرهم يعتبر بحديثه، ولا يكادُ يقبل حديث من رجح له هذا الوصف لذاته وإن كان منعوتاً بالصدق.
25 _
قولهم: (فيه نظر).
شاع استعمال هذه العبارة عن البخاريِّ، واستعملها غيره من المتقدمين بقلَّة، كأبي حاتم الرازي وابن عديِّ وأبي أحمد الحاكم وغيرهم، وأكثر من استمالها من المتأخرين أبو المحاسن محمد بن علي الحسيني صاحب " الإكمال في ذكر من له رواية في مسند أحمد ".
وقد قال الذهبي في تفسيره هذه اللفظة: " قلَّ أن يكون عند البخاري رجل فيه نظر، إلا وهو متهم "(1)، وقال في موضع آخر:" لا يقول هذا إلا فيمن يتهمه غالباً "(2).
قلت: لكن المتَتَبَّع لاستعمال البخاري له لا يجد ما أطلقه الذهبي صواباً، بل إنك تجده قالها في المجروحين على اختلاف درجاتهم، كما قالها في بعض المجهولين الذين لم يتبيَّن أمرهم لقلة ما رَوَوا، بل قالها في رواة هم عند غيره في موضع القبول.
فقالها في (عبد الحكيم بن منصور الخزاعي)(3)، وهو متروك متهم.
وقالها في (حريث بن أبي مطر الحنَّاط)(4)، وهو منكر الحديث.
(1) ميزان الاعتدال (3/ 52).
(2)
ميزان الاعتدال (2/ 416)، وقالَ في " الموقظة " (ص: 83): " هوَ عندَه أسوأ حالاً من الضعيف ".
(3)
التاريخ الكبير (3/ 2 / 125).
(4)
التاريخ الكبير (2/ 1 / 71).
وقالها في (عمرو بن دينار قَهْرَمانِ آل الزبير)(1)، وهو ضعيف الحديث.
وقالها في (علي بن مسعدة الباهلي)(2)، وهو صالح الحديث يعتبر به.
وقالها في (جميل بن عامر)(3)، وهذا ذكره ابن عدي وقال:" يعرف بحديث أو حديثين "(4).
كما قالها في (سعيد بن خالد الخُزاعيِّ)(5)، وقال ابن عدي:" هذا الذي ذكره البخاري إنما يشير إلى حديث واحد، يرويه عنه عبد الملك الجُدِّيُّ، وهو يعرف به، ولا يعرف له غيره "(6).
وفي (شعيب بن ميمون) يروي عن حصين بن عبد الرحمن وغيرِهِ (7)، وذكر ابن عدي أن الرجل له حديث واحد (8)، وقال أبو حاتم الرازي:" مجهول "(9).
وقالها في (حُيَيِّ بن عبد الله المعافِريَّ)(10)، وهو حسنُ الحديث لا بأس به.
وقالها في (حبيب بن سالم مولى النعمان بن بشير)(11)، وقد احتج به
(1) التاريخ الكبير (3/ 2 / 329).
(2)
التاريخ الكبير (3/ 2 / 294 _ 295).
(3)
التاريخ الكبير (1/ 2 / 216).
(4)
الكامل (2/ 428).
(5)
التاريخ الكبير (2/ 1 / 469).
(6)
الكامل (4/ 432).
(7)
التاريخ الكبير (2/ 2 / 222).
(8)
الكامل (5/ 5).
(9)
الجرح والتعديل (2/ 1 / 352).
(10)
التاريخ الكبير (2/ 1 / 76).
(11)
التاريخ الكبير (1/ 2 / 318).
مسلم في " صحيحه " في موضع واحد (1)، وهو صدوق حسن الحديث، وثقه أبو حاتم الرازي وأبو داود السجستاني وابن حبان (2).
وأكثر الذين قال فيهم البخاري تلك العبارة هم ممن يكتب حديثه ويعتبر به، وفيهم جماعة كانوا قليلي الحديث، غير مشهورين به، لا يَصِلون إلى حدِّ السُّقُوط، خلافاً لما قاله الذهبي.
ومما يبين مراد البخاري بقوله هذا، ما ذكره الترمذي عنه من قوله في (حكيم بن جبير):" لنا فيه نظر "، قال الترمذي:" ولم يعزم فيه على شيء "(3).
فهذا يدل على أن هذه العبارة من البخاري فيمن هو في موضع تأمُّل وتوقُّف عنده، فهي عبارة احتراز عن قبول حديث الراوي والاحتجاج به، أو الاعتبار به، ولكونِها توقفاً عن القبول، فهي في جملة ألفاظ الجرح، وإن لم يقصد البخاري إلحاق الجرح بمن أطلقها عليه.
وأكثر ما يقال: هي من عبارات الجرح المجملة، يبحث عن تفسيرها في كلام سائر النقاد في ذلك الراوي.
وإذا عرف هذا في دلالة هذا اللفظ، تبين المراد بقوله أيضاً:(في حديثه نظر)، فالمعنى فيه غير خارج عما ذكرت من توقف البخاري في قبول حديث ذلك الراوي، أو إسناده، تارة بسببه، وتارة من جهة علة دونه في الإسناد، لا يقضى معها بقبول خبره، أو بالدلالة على أمره في إدخاله في جملة رواة العلم.
ومثال ما كان مورد النظر بسببه، قول البخاري في (إسماعيل بن
(1) صحيح مُسلم (الحديث رقم: 878).
(2)
الجرح والتعديل (1/ 2 / 102)، سؤالات الآجري (النص: 42، 381)، الثقات، لابن حِبان (4/ 138).
(3)
العلل الكبير (2/ 969).
إبراهيم بن مهاجر البجلي): " في حديثه نظر "(1)، وهو معروف بالضَّعْف.
وما كان النظر من جهة الإسناد الذي رواه، قوله في (إسماعيل بن إياس بن عفيف الكندي):" في حديثه نظر "(2).
إذ حديثه هذا الذي يشير إليه البخاري رواه محمد بن إسحاق، قال: حدثني يحيى بن أبي الأشعث الكندي، قال: حدثني إسماعيل بن إياس بن عفيف، عن أبيه، عن جده عفيف، في قصة.
وابن الأشعث فيه مجهول، وإياس أبو إسماعيل قال فيه البخاري أيضاً:" فيه نظر "(3) ولم يرو عنه غير ابنه (4).
وما نسبه الذهبي إلى البخاري أنه قال: " إذا قلت: فلان في حديثه نظر، فهو واه متهم "(5)، فهذا لم أقف عليه مسنداً إلى البخاري في شيء، ولا يدل عليه ما وقفنا عليه من استعمال البخاري.
وأما قول البخاري: (في إسناده نَظَر) فتوقُّفٌ منه في ثبوت إسناد معَّين جاء من رواية المذكور، إذ أكثر ما أتت هذه العبارة في كلامه، عقبَ حديث أو أثر يذكره في ترجمة الراوي، فالهاء في قوله (إسناده) لا تعود على الراوي، إنما تعود على الرواية المذكورة.
ومن أدل علامة عليه، قوله في ترجمة (أبي الجوزاء أوس بن عبد الله الربعي): قال لنا مسددٌ: عن جعفر بن سليمان، عن عمرو بن مالك النُّكري، عن أبي الجوزاء، قال: أقمت مع ابن عباس وعائشة اثنتي عشرة سنة، ليس من القرآن آية إلا سألتْهُم عنها. قال البخاري:" في إسناده نظر "(6).
(1) التاريخ الكبير (1/ 1 / 342).
(2)
التاريخ الكبير (1/ 1 / 345).
(3)
التاريخ الكبير (1/ 1 / 441).
(4)
وبيَّنتُ الحديث وعلته في تحقيقي لكتاب " المفاريد " لأبي يعلى الموصلي (رقم: 59).
(5)
سير أعلام النبلاء (12/ 441).
(6)
التاريخ الكبير (1/ 2 / 16 _ 17).
قلت: فهذا ليس حُكماً على أبي الجوزاء، فإنه ثقة معروف، وإنما هو توقُّفٌ من البخاري في إثبات هذا الخبر عنه، والمفيد اتِّصال ما بينه وبين ابن عباس وعائشة، وربما من أجل كونه من رواية جعفر بن سليمان الضبعي، وهو عند البخاري " يخالف في بعض حديثه "(1).
قلت: وعلى هذا الذي بيَّنْت عن استعمال البخاري يقع استعمال غيره، إلا أن تقوم قرينةٌ على إرادة معنى مخصوص.
وذلك كاستعمال ابن عبد البرِّ لعبارة: " فيه نظر "(2)، ففسرها العلائي بقوله:" أي في صحبته "(3).
وقال السُّليمانيُّ (4) في (محمد بن المغيرة بن سنان الضبي فقيه الحنفية بهَمَذانَ): " فيه نظر "، فقال الذهبي:" يشير إلى أنه صاحب رأي "(5).
26 _
قولهم: (ضعيف) أو: (ضعيف الحديث).
هي صيغة جرح بلا تردُد، لكن هل هي مفسرة أو مجملة؟
التحقيق: أنها مجملة، فإذا عارضها تعديل معتبر لم يعتد بها حتى يبين وجهها.
(1) التاريخ الكبير (2/ 1 / 192).
(2)
الاستيعاب (6/ 328 _ هامش الإصابة).
(3)
جامع التحصيل (ص: 262).
(4)
هوَ الحافُظ الناقد أبو الفضْل أحمد بن علي البيكنْدي (المتوفى سنة: 404) قال الذهبي: " رأيتُ للسليماني كتاباً فيه حط على كبار، فلا يُسمع منه ما شذَّ فيه "(سير أعلام النبلاء 17/ 202).
(5)
سير أعلام النبلاء (13/ 384).
ثم إن التضعيف بها قد يراد به الضعف اليسير، كثقة أو صدوق إذا قورن بمن هو فوقه قيل فيه:" ضعيف الحديث ".
وقد تطلق على الراوي ويراد بها أنه دون من يحتج بحديثه، لسوء حفظه مثلاً، ولكن يعتبر به.
قال أبو حاتم الرازي في (عُبيد بن واقد أبي عبَّاد القَيْسيَّ): " ضعيف الحديث، يكتب حديثه "(1).
وقال الدارقطني في (قابوس بن أبي ظَبْيَان): " ضعيف، ولكن لا يترك "(2).
وقد تطلق على المجروح الشديد الضعف الذي لا يكاد يكتب حديثه، كقول أبي حاتم الرازي في (حمزة بن نجيح أبي عُمارة):" ضعيف الحديث "، فقال ابنه: يكتب حديثه؟ قال: " زاحفاً "(3).
وعلى شديد الضعف الذي يبلغ حديثه الترك، وإن كان غير مُتَّهم، كقولِ عبد الرحمن بن أبي حاتم: سألت أبا زرعة عن أبي قتادة الحرَّاني، قلت: ضعيف الحديث؟ قال: " نعم، لا يحدث عنه " ولم يقرأ علينا حديثه (4).
وقال علي بن المديني في (الوليد بن محمد الموقَّريِّ): " ضعيف، ليس بشيء، وكان قد روى عن الزهري، ولا نروي عنه شيئاً "(5).
وقال أبو حاتم الرازي في (رَوْحِ بن مسافر أبي بشر): " ضعيف الحديث، لا يكتب حديثه "(6).
(1) الجرح والتعديل (3/ 1 / 5).
(2)
سؤالات البرقاني (النص: 418).
(3)
الجرح والتعديل (1/ 2 / 216).
(4)
الجرح والتعديل (2/ 2 / 192).
(5)
سؤالات ابن أبي شيبة (النص: 151).
(6)
الجرح والتعديل (1/ 2 / 496).
ومن هذا استعمال يحيى بن معين لها، حيث قال:" وإذا قلت لك: (هو ضعيف) فليس هو بثقة، ولا يكتب حديثه "(1).
ومن هذا قولهم: (ضعيف جداً)، وهي دالة بلفظها على معناها.
كما تطلق على الراوي المتَّهم بالكذب، فإذا وجدت ذلك فلا تقل: هو جرح يسير.
ويطلب تعيين مرتبة ذلك الضعف بالنظر في القرائن.
ومن هذا قول ابن عدي في " كامله " في كثير من الرواة: " هو في جملة الضعفاء "، فربما قالها فيمن يعتبر به، وربما قالها في متروك.
27 _
قولهم: (مضطرب الحديث).
شرحت في تفسير (الحديث المضطرب) أنَّ إحدى صورتي الاضطراب هي الاختلاف على الراوي، حيث يأتي الحديث عنه على وجوه، تدل على لينه وسوء حفظه.
وذلك كقول أحمد بن حنبل في (خُصَيفِ بن عبد الرحمن): " شديد الاضطراب في المسند "(2)، لذلك وصفه في موضع آخر بقوله:" ليس بقوي في الحديث "(3).
28 _
قولهم: (يخالف الثقات).
عبارة جرح مجملةٌ، إذا عارضت التعديل فإنها تثير شُبهة إمكان الشُّذوذ، وربما أيضاً التفرد.
وابن حبان يقول في مواضع فيمن يوردهم في " الثقات ": " يخالف "، " ربَّما خالف " فهي عبارة لا تعني الجرح المسقط، والثقة قد يخالف،
(1) تقدَّم سياقه بتَمامه وتَخريجه في الكلام على عبارة (لا بأس به).
(2)
العلل (النص: 4926).
(3)
العلل (النص: 3187).
فتكون روايته شاذَّة إذا كانت المخالفة لمن هو أتقن منه، وإنما يكون مجرَّد المخالفة قادحاً مؤثِّراً في الراوي إذا كان قليل الحديث.
29 _
قولهم: (لا يتابع على حديثه).
قال ابن القطان الفاسيُّ: " يُمسُّ بهذا من لا يعرف بالثقة، فأما من عرف بها فانفراده لا يضره، إلا أن يكثر ذلك منه "(1).
قلت: والأمر كما قال، وأكثر من استعمل هذه العبارة من المتقدِّمين البخاري، وإذا قالها في راو فإنه يعني تفرده بما لا يعرف إلا من طريقه، وفي الغالب هو حديثٌ معيَّنٌ ليس لذلك الراوي سواه، ولذا فهذه اللفظة إذا قالها البخاري في راو فهو تضعيف؛ لأنها غالباً إمَّا في مجهول أو مُقلِّ، ومن كان بهذه المنزلة ولا يروي إلا حديثاً واحد يتفرد به، فلا يحتج به.
وتبعه على استعمالها العقيلي، وأطلقها على جماعة من الرواة هم بهذه المثابة.
لكنه ذكر بعض الثقات أيضاً، وقال فيهم مثل ذلك، وربما أورد الحديث مما يعنيه أن ذلك الراوي لم يتابع عليه.
فقالها مثلاً في سعد بن طارق الأشجعي، وسلام بن سليمان أبي المنذر، وعقبة بن خالد السَّكونيِّ، ويحيى بن عثمان الحربي (2)، وغيرهم، وهؤلاء ثقات، والتفرد لا يضر في قبول ما رووا.
وقال في (عبد الله بن خَيرانَ البغدادي)(3): " لا يتابع على حديثه "، فتعقَّبه الخطيب فقال:" قد اعتبرت من رواياته أحاديث كثيرة، فوجدتها مستقيمة تدل على ثقته "(4).
(1) بيان الوهم والإيهام (5/ 363).
(2)
انظر: الضعفاء (2/ 119، 160، و 3/ 355، و 4/ 420).
(3)
الضعفاء (2/ 245).
(4)
تاريخ بغداد (9/ 451).
فمثل هذا من العُقيلي يتثبَّت فيه، ولا يُسلَّم ابتداء كسبب في رد حديث الموصوف به.
30 _
قولهم: (روى مناكير) أو: (روى أحاديث منكرة).
جرح، لكن لا يلزم منه جرح ذات الراوي الذي وصف بها، حتى لا يكون في الإسناد من يحمل عليه سواه، أو كان ذلك الراوي لم يعدل أصلاً.
والراوي يأتي بالمنكرات من الروايات والمأخذُ فيها عليه سواه من رجال الإسناد، سبب شائع من أسباب الطعن عليه، كما بينته في (تفسير الجرح)، ويناله من قدر الضعف بحسب ما روى من المنكرات بالنظر إلى سائر مرويَّاته.
قال حرب بن إسماعيل الكِرمانيُّ: قلت لأحمد بن حنبل: قيس بن الربيع، أيُّ شيء ضعَّفه؟ قال:" روى أحاديث منكرة "(1).
ولمعنى النكارة هنا ولما سيأتي مما يتصل بهذا اللَّفظ انظر تفسير (الحديث المنكر).
31 _
قولهم: (منكر الحديث).
هذا الوصف صريح في حق الراوي باعتبار حديثه، لا أمْر آخر.
وهي من ألفاظ الجرح الموجبة ضعفه عند الناقد.
وقدر الجرح بهذه العبارة في التحقيق متفاوت، بين الضعف الذي يبقي للراوي شيئاً من الاعتبار، والشديد الذي يبلغ به إلى حد التهمة، فهي لفظةٌ مفسَّرةُ باعتبار، مجملة باعتبار.
(1) الجرح والتعديل (3/ 2 / 98).
ويفسَّرُ ذلك في حقِّ الراوي المعين بالقرائن المصاحبة للوصف، أو بدلالة أقاويل سائر النقاد فيه.
ومما يبين تلك الدرجات الأمثلة التالية:
1 _
قول أبي حاتم الرَّازيِّ في (سعيد بن الفضل بن ثابت البصريِّ): " ليس بالقوي، منكر الحديث "(1)، وقوله في (سليمان بن عطاء الحرَّانيِّ):" منكر الحديث، يكتب حديثه "(2)، وقوله في (عبد الله بن جعفر بن نجيح المدينيِّ):" منكر الحديث جداً، ضعيف الحديث، يحدث عن الثقات بالمناكير، يكتب حديث ولا يحتج به "(3).
وقول أبي زرعة الرازي في (سلامة بن روح الأيْليِّ): " ضعيف منكر الحديث "، فقال له ابن أبي حاتم: يُكتب حديثه؟ قال: " نعم، يكتب على الاعتبار "(4).
فاقترانُ وصف (منكر الحديث) بتليين الراوي، أو بكتابة حديثه، دليلٌ على أنه ليس بمطروح الحديث، بل يعتبر به.
وشبيهٌ به في المعنى ما يقع في عبارات ابن حِبان، كقوله في (عبد الله بن نافع المدني مولى ابن عمر):" منكر الحديث، كان ممن يخطئ ولا يعلم، لا يجوز الاحتجاج بأخباره التي لم يوافق فيه الثقات، ولا الاعتبار منها بما خالف الأثبات "(5).
فهذا يجعله في مرتبة من يعتبر به في المتابعات والشواهد.
(1) الجرح والتعديل (2/ 1 / 55).
(2)
الجرح والتعديل (2/ 1 / 133).
(3)
الجرح والتعديل (2/ 2 / 23).
(4)
الجرح والتعديل (2/ 1 / 302).
(5)
المجروحين (2/ 20).
وجدير أن تلاحظ هنا أنَّ من يعتبر به ممن هذا نعته، فإنما هو الاعتبار بغير المنكر من روايته؛ لأن المنكر كما بينت في (القسم الثاني) من هذا الكتاب لا يعتبر به.
2 _
وسئل أحمد بن حنبل عن (عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقيِّ)، قيل له: يروى عن الإفريقيِّ؟ قال: " لا، هو منكر الحديث "(1)، وقال أبو زرعة في (محمد بن عبد الله بن نمران):" منكر الحديث، لا يكتب حديثه "(2)، وقال أبو حاتم الرازي في (مسلمة بن علي الخُشَنيِّ):" ضعيف الحديث، لا يشتغل به "، فقال له ابنه: هو متروك الحديث؟ قال: " هو في حد الترك، منكر الحديث "(3).
فهذه الأمثلة دلت على أن (منكر الحديث) يكون في منزلة المتروك الذي لا يعتبر به.
3 _
وقال يحيى بن معين في (محمد بن سعيد الشامي المصلوب): " منكر الحديث "(4).
فهذا رجل معروف بالكذب ووضع الحديث، ووصفه يحيى بكونه (منكر الحديث).
وعلمنا كون هذا الاستعمال هنا أريد به المتروك الكذاب بدلالة المعروف عن النقاد في شأنه.
إذاً استعمالهم لهذه اللفظة يجب أن يراعى فيه درجة الجرح بها، ولا
(1) العلل ومعرفة الرجال، رواية المرُّوذي (النص: 204).
(2)
سؤالات البرذعي (2/ 336).
(3)
الجرح والتعديل (4/ 1 / 268).
(4)
تاريخه (النص: 5110)، واعلم أن يحيى بنَ معينٍ على كثرةِ كلامه في النقلة فإنه من أقلِّهم استعمالاً لعبارة (مُنكر الحديث).
يصح أن تحمل على الشديد المسقط لذاتها، إلا أن يُعدم في الراوي من الأوصاف سِواها.
وهذا الذي ذكرت في بيان معنى هذه العبارة هو الذي يجري عليه الاصطلاح لعامة النقاد، ومنهم البخاري في التحقيق.
تفسير قول البخاري في الراوي: " منكر الحديث ":
حكى أبو الحسن القطان عن البخاري أنه قال في كتابه " الأوسط ": " كل من قلت فيه: منكر الحديث؛ فلا تحل الرواية عنه "(1).
هذا النص عن البخاري وجدت من يذكره يعزوه لابن القطان، ولم أجد له ذكراً فيما في أيدينا من مصنَّفَات البخاري، ولما فيه من الشِّدَّة ألحق في رأي بعض متأخري المحدثين بأسوأ مراتب التجريح.
والذي وجدته بالتتبُّع أن استعمال البخاري لهذه اللفظة لا يختلف عن استعمال من سبقه أو لحقه من علماء الحديث، فهو إنما يقول ذلك في حقِّ من غلبت النكارة على حديثه، أو استحكمت من جميعه، وربما حكم عليه غيره بمثل حُكمه، وربَّما وصف بكونه (متروك الحديث)، وربما اتُّهم بالكذب، وربما وصف بمجرد الضعف، وربما قال ذلك البخاري في الراوي المجهول الذي لم يرو إلا الحديث الواحد المنكر.
وهذه أمثلة متفاوتة من الرواة لذلك:
قال البخاري في (إسحاق بن نجيح الملطي): " منكر الحديث "، وهذا رجل معروف بالكذب ووضع الحديث عندهم، ومثله ممن لا تحل الراوية عنه إلَاّ للبيان.
وقالها في (ثابت بن زهير أبي زهير)، وهكذا جاءت عبارات غيره
(1) بيان الوهم والإيهام، لابن القطان (2/ 264، و 3/ 377).
على الموافقة لما قال لفظاً أو معنى ، وقال ابن عدي:" كل أحاديثه تُخالفُ الثقات في أسانيدها ومتونها "(1)، ومنهم من قال:" متروك الحديث ".
وقالها في (جُميع بن ثُوب الرَّحبيِّ)، وقال ابن عدي:" عامَّةُ أحاديثه مناكير، كما ذكره البخاري "(2).
قلت: وهذا من ابن عدي تفسير ظاهر لمراد البخاري بهذه اللفظة، والتي تؤكد ما ذكرته آنفاً أنَّه مراد أئمة الشأن.
وقالها البخاري في (إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة)، ولم يقله غير ممن سبقه، بل قال أحمد بن حنبل:" ثقة "، وقال ابن معين:" صالح "، لكن وافقه عليه من أقرانه أبو حاتم الرازي، وفسَّره فقال:" شيخ ليس بقوي، يكتب حديثه، ولا يُحتج به، منكر الحديث "(3)، فكأنه يقول: له أحاديث مناكير، ولم يغلب ذلك على حديثه إلى درجة أنه صار لا تحل الراوية عنه.
وهذا ابن عدي يقول بعدما حرَّر مروياته: " له غير ما ذكرته من الأحاديث، ولم أجد له أوحش من هذه الأحاديث، وهو صالح في باب الرواية، كما حكي عن يحيى بن معين، ويكتب حديثه مع ضعفه "(4).
قلت: وكان البخاري قال مرة: " عنده مناكير "(5)، وهذه أظهر في أمره من الإطلاق المتقدِّم، لكن دل هذا على أن تلك العبارة من البخاري لا تعني دائماً أن يكون الراوي الموصوف بذلك ينزَّل منزلة المتروك الساقط، والذي هو مقتضى عبارة:" لا تحل الرواية عنه ".
(1) الكامل (2/ 298).
(2)
الكامل (2/ 417).
(3)
الجرح والتعديل (1/ 1 / 83 _ 84).
(4)
الكامل (1/ 383).
(5)
التاريخ الأوسط (2/ 135).
وقالها البخاري في (عبد الله بن خالد بن سلمة المخزومي)، وكذلك قال أبو حاتم الرازي (1)، وفسر أمره ابن عدي، فقال:" ليس به من الحديث إلا اليسير، ولعله لا يروي عنه غير محمد بن عقبة "(2).
ومن بابه (عبد الله بن المؤمل المخزومي)، قال أبو داود:" منكر الحديث "(3)، وكان قليل الحديث، كما بين ذلك ابن حبان فقال:" قليل الحديث، منكر الرواية، لا يجوز الاحتجاج بخبره إذا انفرد؛ لأنه لم يتبين عندنا عدالته فيقبل ما انفرد به، وذاك أنه قليل الحديث، لم يتهيأ اعتبار حديثه بحديث غيره لقلته، فيحكم له بالعدالة أو الجرح، ولا يتهيأ إطلاق العدالة على من ليس نعرفه بها يقيناً فيقبل ما انفرد به، فعسى نحل الحرام ونحرم الحرام برواية من ليس بعدل، أو نقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل اعتماداً منها على رواية من ليس بعدل عندناً، كما لا يتهيأ إطلاق الجرح على من ليس يستحقه "(4).
قلت: وفي هذا بقاء على أصل استعمال هذه اللفظة فيمن لم يرو إلا المنكر أو غلب ذلك على حديثه، فهذا وإن لم يرو إلا اليسير، لكن جميعُ ذلك منكر، فصح أن يكون (منكر الحديث)، وهذا جرح له بالنظر إلى مروياته دون حاله.
ويستثنى من دلالة الاصطلاح في استعمال (منكر الحديث) صورة تحتاج إلى تيقظ، وهي:
ما وقع من استعمال بعض المتقدمين هذا الوصف يريد به أن الراوي يتفرد ويُغْرب.
(1) الجرح والتعديل (2/ 2 / 45).
(2)
الكامل (5/ 367).
(3)
تهذيب الكمال، للمزي (16/ 190).
(4)
المجروحين (2/ 28).
وعلى هذا حمل بعض الأئمة قول يحيى بن سعيد القطان في (قيس بن أبي حازم): " منكر الحديث " وذكر له أحاديث مناكير (1).
كما قال يعقوب بن شيبة: " الذين أطْرَوْه يحملون هذه الأحاديث عنه على أنها عندهم غير مناكير، وقالوا: هي غرائب "(2).
ولذا قال ابن حجر: " ومراد القطان بالمنكر: الفرد المطلق "(3).
وهو استعمال أحمد بن حنبل أيضاً في طائفةٍ من الثقات، لم يكن مرادُهُ يعدو التفرد، مثل: محمد بن حنبل أيضاً في طائفة من الثقات، لم يكن مراده يَعدو التفرد، مثل: محمد بن إبراهيم التيمي، وزيد بن أبي أنيسة، وعمرو بن الحارث، والحسين بن واقد، وخالد بن مخلد.
ومما يُؤيِّد هذا قول أحمد بن حنبل في (الحسين بن الحسن الأشقر): " منكر الحديث، وكان صدوقاً "(4).
فوصفه بالصدق مع كونه عنده منكر الحديث.
32 _
قولهم: (روى أحاديث معضلةً) أو: (يروي المعضَلاتِ).
جاء استعمالُ (المعضلِ) في كلام السلف بمعنى: الحديث المنكر، أو شديد النكارة، أو الموضوع، وقع ذلك في مواضع عدة في كلام الجوز جاني، وابن عدي، وابن حبان، كما وقع بِنْدرة في كلام آخرين، كالبخاري (5)، وأبي حاتم الرازي (6)، والعقيلي (7).
(1) تاريخ دمشق، لابن عساكر (49/ 464).
(2)
تاريخ دمشق (49/ 462).
(3)
تهذيب التهذيب (3/ 445).
(4)
مسائل ابن هانئ النيْسابوري (2/ 243).
(5)
كقوله في ترجمة (عُمر بن غِياث): " مُعضل الحديث "(التاريخ الأوسط 2/ 186) هامشاً، ونقله ابنُ عدي في " الكامل "(6/ 117).
(6)
في ترجمة (عِمران بن وَهب) في " الجرح والتعديل "(3/ 1 / 306)، و (عُفير بن مَعدان) في " علل الحديث "(2/ 173).
(7)
كقوله في ترجمة (عُمر بن يزيد الشيباني): " مَجهولٌ بالنقل، جاءَ عن شُعبة بحديث مُعضلٍ "(الضعفاء 3/ 195).
ومن عبارتهم فيه:
قال الجوزجاني في (ضبارة بن عبد الله بن مالك الحضرمي): " روى عن ذُويد عن الزهري حديثاً معضلاً عن أبي قتادة "، يعني منكراً، وهذا رجل مجهول.
وقال ابن عدي في (الحسن بن زيد بن الحسن الهاشمي): " يروي عن أبيه، وعكرمة أحاديث معضلة "(1)، أراد منكرة.
وبمعناه قوله في (حصين بن عمر الأحمسيِّ): " عامة أحاديثه معاضيل ينفرد عن كل من يروي عنه "(2).
وقال ابن حبان في (عمر بن محمد بن صهبان الأسلمي): " كان ممن يروي عن الثقات المعضلات التي إذا سمعها من الحديث صناعته لم يشك أنها معمولة، يجب التنكُّب عن روايته في الكتب "(3).
ولابن حبان في هذا الاستعمال نظائر أخرى معروفة.
ومنه قوله في (سلام بن أبي خُبْزة العطار): " كثير الخطأ، معضل الأخبار، يروي عن الثقات المقلوبات، لا يجوز الاحتجاج به "(4).
وجميع هذا لا يعنون به (المعضل) بمعناه الاصطلاحي الذي شاع استعماله عند المتأخرين، وكان يُذْكر عند المتقدمين نادراً، كما بيَّنته في (ألقاب الحديث).
33 _
قولهم: (أستخير الله فيه).
عرفت هذه العبارة عن ابن حبَّان، ولا تكاد تراها لغيره، ووجدتها من
(1) الكامل (3/ 172). ونحوه في ترجمة (الحسَن بن علي النخعي) وكانَ ابنُ عدي قد كذَّبه (الكامل 3/ 213).
(2)
الكامل (3/ 301).
(3)
المجروحين (2/ 81 _ 82).
(4)
المجروحين (1/ 340).
كلام عبد الرحمن بن مهدي، لكنِّي لم أجدها عنه بإسناد يصحُّ، ولو صحَّ عنه فهو نادر قليل.
وظاهرها: تردُّدُ الناقد في الراوي: يُلْحق بالثقات أو الضعفاء، والترجيح بحسب ما يتبين من كلام سائر النقاد والنظر في حديث الراوي.
34 _
قولهم: (ليس بشيء).
تكثر في كلام يحيى بن معين، ويقولها غيره.
قال الحاكم: " قول يحيى بن معين: (ليس بشيء)، هذا يقوله ابن معين إذا ذكر له الشيخ من الرواة يقل حديثه، ربما قال فيه: ليس بشيء، يعني لم يسند من الحديث ما يشتغل به "(1).
قلت: ومن مثاله قول يحيى بن معين في (حنظلة بن عبد الرحمن التيمي): " ليس بشيء "، وقال مرَّة:" لم يكن به بأس إن شاء الله "(2)، وفي رواية:" ضعيف، يكتب حديثه "(3)، فترددت فيه عبارته في معنى متقارب، والسبب فيه ما قال ابن عدي:" لم أر له من الحديث إلا القليل، إلا أن الثوري قد حدث عنه بشيء يسير، ولم يتبين لي ضعفه؛ لقلة حديثه "(4).
قلت: أراد الضعف المسقط.
ولم يبد لي صحة ما قاله الحاكم في أكثر من أطلق عليهم ابن معين هذه العبارة، وهو قد أطلقها على عدد كثير من الراوة، وجدت أكثرهم من المعروفين بالرواية، لكنهم من الضعفاء والمتروكين والمتهمين، ومثاله منتشر جداً في الروايات عن ابن معين.
(1) نقله ابن حجر في " تهذيب التهذيب "(3/ 461).
(2)
تاريخ يحيى بن مَعين (النص: 2844، 3430).
(3)
الكامل، لابن عدي (3/ 343).
(4)
الكامل (3/ 343).
نعم، يوجد في بعضهم من يمكن وصفه بقلة الرواية على ضعفه، لكن لا يصح أن يحمل عليه مراد يحيى؛ لأنه الأقل مقارنة بالصنف الآخر.
والصواب أن عبارة يحيى هذه: عبارة جرح مجملة في تحديد قدر الجرح وسببه، ولا تخرج عن نفس مراد غيره من النقاد على ما يأتي ذكره عن المنذري.
ومما يدل على ذلك:
ما حكاه الآجري، قال: قلت لأبي داود: العوَّام بن حمزة حدث عنه يحيى القطان، قال عباس عن يحيى بن معين: إنه ليس بشيء، قال:" ما نعرف له حديثاً منكراً "(1).
وحين نقل عثمان الدارمي عن ابن معين قوله في (سليمان بن داود الخولاني): " ليس بشيء "، قال عثمان:" أرجو أنه ليس كما قال يحيى، وقد روى يحيى بن حمزة أحاديث حساناً كلها مستقيمة "(2).
وقال المنذري: " أما قولهم: (فلان ليس بشيء)، ويقولون مرَّة: (حديثه ليس بشيء)، فهذا ينظر فيه: فإن كان الذي قيل فيه هذا قد وثَّقه غير هذا القائل، واحتج به، فيحتمل أن يكون قوله محمولاً على أنه ليس حديثه بشيء يحتج به، بل يكون حديثه عنده يكتب للاعتبار وللاستشهاد وغير ذلك. وإن كان الذي قيل فيه ذلك مشهوراً بالضعف، ولم يوجد من الأئمة من يحسن أمره، فيكون محمولاً على أن حديثه ليس بشيء يحتجُّ به، ولا يعتبر به ولا يستشهد به، ويلتحق هذا بالمتروك "(3).
قلت: فهذا يؤكد أن هذه العبارة من قبيل الجرح المجمل.
(1) سؤالات الآجري (النص: 355)، وعِبارة ابنِ معين في رواية عباس الدوري (النص: 4244): " ليسَ حديثه بشيء ".
(2)
تاريخ الدارمي (النص: 386).
(3)
جوابُ المنذري عن أسئلة في الجرح والتعديل (ص: 86).
نعم، ربما دل على شدة ضعف الموصوف بها أيضاً عند الناقد اقترانها بما يدل على ذلك، مثل قول علي بن المديني في (أبي بكر الدَّاهريِّ):" ليس بشيء، لا يكتب حديثه "(1)، فعبارة (لا يكتب حديثه) لا تقال إلا في شديد الضعف، ومن يعود ضعفه في الأصل إلى روايته.
وقال يحيى بن معين في (عمر بن موسى الوجيهيِّ): " ليس بشيء "، وفي موضع آخر:" كذَّابٌ، ليس بشيء "(2)، وقال فيه داود السجستاني:" ليس بشيء، يروي عن قتادة وسماك مناكير "(3)، قلت: وهو معروف بكذبه ونكارة حديثه.
وقال يحيى بن معين في (معلى بن زياد القُردوسيِّ): " ليس بشيء، ولا يكتب حديثه "، فتعقبه ابن عدي بقوله:" لا أرى بروايته بأساً، ولا أدري من أين قال ابن معين: لا يكتب حديثه، وهو عند ي لا بأس به "(4).
فتأمَّل استدراك ابن عدي، فلم يتعقب يحيى في قوله:(ليس بشيء)، إنما في قوله:(لا يكتب حديثه)، فدل على أن (ليس بشيء) وحدها عندهم لم تكن تدل على تفسير قدر الجرح لذاتها، ويمكن حملها على أدنى الجرح عندما يتبين من حال الراوي أنه لا يتجاوز ذلك.
ويلتحق بها قولهم: (لا يساوي شيئاً)، وإن كانت قليلة الاستعمال، فقد تتبعها فوجدتها كذلك.
(1) سؤالات ابن أبي شيبة (النص: 205)، واسمُ الداهري عبْد الله بن حكيم.
(2)
سؤالات ابن الجنيد (النص: 272، 535).
(3)
سؤالات الآجري (النص: 152).
(4)
الكامل (8/ 98) وفيه (8/ 97) نقل قوْل ابنِ معين من رواية ابن أبي مَريم عنهُ بإسناد صحيح. وهذا الرجل يَبدو أن الرواية فيه عن ابن مَعين قد تناقضت، فقد روى عنه إسحاق بنُ منصور قوله فيه:" ثقة "(الجرح والتعديل 4/ 1 / 331)، وهوَ الصواب فيه، وقد وثَّقه كذلك أبو حاتم الرازي وغيره. ورُبما قالَ يحيى تلك العبارة في رواية ابن أبي مريم في (مُعلَّى) آخر، والله أعلم.
35 _
قولهم: (لا شيء).
عبارة كثيرة الاستعمال، وهي من ألفاظ التجريح المجملة.
ومن أكثر النقاد استعمالاً لها: يحيى بن معين، كما وقعت في كلام غيره بقلَّة، كسفيان بن عيينة وأحمد بن حنبل والبخاري وأبي زرعة الرازي وغيرهم.
ولم أجدها خارجة عن دلالة قولهم: (ليس بشيء)، فأكثر من قيلت فيهم الضعفاء، ومراتبهم في الضعف تتفاوت بين خفته كاللِّين، وشدَّته كالتُّهمة بالكذب.
وفسرها ابن أبي حاتم الرازي في استعمال ابن معين، فنقل عن إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين في (خالد بن أيوب البصري) قال:" لا شيء "، قال:" يعني ليس بثقة "(1).
وقيلت في الراوي المقلِّ الذي لم يتبين حفظه وإتقانه لقلِّة حديثه، كما قالها مثلاً يحيى بن معين في (هبيرة بن حدير العدوي)(2)، وقالها الدارقطني في (الهجنَّع بن قيس)(3).
36 _
قولهم: (لا يعتبر به).
صريحة في ترك حديث الموصوف بها، لكن لا تكاد تجدها لسابق غير الدارقطني.
فمن ذلك قوله: " لا يعتبر به " في (مسلم بن يسار أبي عثمان الطُّنبذيِّ)(4)، و (يزيد بن صليح الحمصي)(5).
(1) الجرح والتعديل (1/ 2 / 321).
(2)
الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم (4/ 2 / 110).
(3)
سؤالات البرقاني (النص: 527).
(4)
سؤالات البرقاني (النص: 492).
(5)
سؤالات البرقاني (النص: 549).
وينبغي أن يكون من بابها: " لا يعتبر بحديثه " من جهة واقع الاستعمال، لكنها نادرة في كلامهم، وجدتها من قول الجوزجاني في (عبد الغفار بن الحسن أبي الرَّمليِّ)، قال:" لا يعتبر بحديثه "(1).
قلت: لكن أبا حازم هذا صدوق في التحقيق، قال أبو حاتم الرازي:" كوفي، وقع إلى الشام، لا بأس به "(2)، وذكره ابن حبان في " الثقات "(3)، ولا عبرة بقول الأزدي:" كذاب "(4)، فالأزدي ليس ممن يعتمد عليه في هذا الشأن؛ لكونه مجروحاً في نفسه.
37 _
قولهم: (ليس بثقة).
هي عبارة جرح، قلَّ أن تجدها مقولة في راو إلا وهو شديد الضعف: متروك الحديث، أو متهم بالكذب، أو كذَّاب معروف، خصوصاً في كلام يحيى بن معين والنسائي وقد أكثر منها.
لكن ليس ذلك بإطلاق، فقد وقعت منهم في جماعات من الرواة الضعفاء، أو ممن في حفظهم بعض اللِّين، وإنما تبيَّن ذلك بدراسة أحوال أولئك الرواة ممن قيلت فيهم هذه الكلمة.
مثل ما قال بشر بن عمر: سألت مالك بن أنس عن محمد بن عبد الرحمن الذي يروي عن سعيد بن المسيب؟ فقال: " ليس بثقة "، وسألته عن صالح مولى التوأمة؟ فقال:" ليس بثقة "، وسألته عن أبي الحويرث؟ فقال:" ليس بثقة "، وسألته عن شعبة الذي روى عنه ابن أبي ذئب؟ فقال:
(1) الكامل، لابن عدي (7/ 20)، وتصحَّفت (يُعتبر) في " الميزان "(2/ 639) وغيره إلى (يغتر)، فتأمل!
(2)
الجرح والتعديل (3/ 1 / 54).
(3)
الثقات، لابن حبان (8/ 421).
(4)
ميزان الاعتدال (2/ 639).
" ليس بثقة "، وسألته عن حرام بن عثمان؟ فقال:" ليس بثقة "، وسألت مالكاً عن هؤلاء الخمسة؟ فقال:" ليسوا بثقة في حديثهم "(1).
قلت: وليس في هؤلاء من يبلغ الترك سوى حرام بن عثمان، بل هم بين صدوق، أو صالح يعبتر به.
وتعقب ابن القطان الفاسي قول مالك ذلك في (شعبة مولى ابن عباس) فقال: " إن مالكاً لم يضعفه، وإنما شحَّ عليه بلفظة: ثقة، وقد كانوا لا يطلقونها إلى على العدل الضابط .. وربما قالوا: (ليس بثقة) للضعيف أو المتروك، فإذاً هو لفظ يتفسَّر مراد مطلقه بحسب حال من قيل فيه ذلك "(2).
وقال الخطيب بعد أن ذكر نماذج من ألفاظ بعض النقاد في الجرح بفعل بعض المباحات أو مواقعة بعض المكروهات، أو فعل ما يختلف في تحريمه، قال:" وكذلك قول الجارح: (إن فلاناً ليس بثقة)، يحتمل أن يكون لمثل هذا المعنى، فيجب أن يفسَّر سببه "(3).
قلت: ويصدق هذا أن يحيى بن معين عن (يونس بن خباب)؟ فقال: " ليس بثقة، كان يشتم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومن شتم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فليس بثقة "(4).
قلت: فأعاد ابن معين هذه اللفظة حين فسرها هنا إلى معنى غير الحديث.
فحيث قام الاحتمال في دلالتها على الضعف المسقط أو غير
(1) أخرجه مسلم في " مقدمة صحيحه "(ص: 26) وإسناده صحيح، ومحمد بن عبد الرحمن هو ابن لبيبة، وأبو الحويرث اسمه عبد الرحمن بن معاوية، وشعبة هو ابن دينار مولى ابن عباس.
(2)
بيان الوهم والإيهام الواقعين في كتاب الأحكام (5/ 325).
(3)
الكفاية (ص: 183).
(4)
سؤالات ابن الجنيد (النص: 559).
المسقط، بل الجرح المعتبر أو غير المعتبر، فإنه لا يصح عدها من قبيل الجرح الشديد بمجرد إطلاقها.
وعليه: فهي لا حقة بألفاظ الجرح المجملة، لا يعتد بها مجردة حتى تفسَّر.
نعم، رد ابن حجر تأويل ابن القطان المتقدم بقوله:" هذا التأويل غير شائع، بل لفظة (ليس بثقة) في الاصطلاح يوجب الضعف الشديد "(1).
قلت: وابن حجر مسبوق إلى اعتبار هذا المعنى، فحين قال الجوزجاني في (سعيد بن كثير بن عفير):" فيه غير لون من البدع، وكان مخلطاً غير ثقة "(2)، تعقبه ابن عدي بقوله:" هذا الذي قال: فيه غير لون من البدع، فلم ينسب ابن عفير المصري إلى بدع، والذي ذكر أنه غير ثقة، فلم ينسبه أحد إلى الكذب "(3).
قلت: فدل هذا على أن ابن عدي من قبل كان يحملها عنهم على الضعف الشديد الذي يبلغ بالراوي حد الكذب، وذلك فيما يبدو من خلال ما وجده عنهم في أكثر استعمالهم كما ذكرت أولاً.
38 _
قولهم: (متروك الحديث).
جرح بليغ، مفسِّر في لفظه، ظاهر في أنه من جهة حديث الراوي وما أتى به من المنكرات التي غلبت عليه، فاستحق بذلك هذا الوصف.
وتقدم في (تفسير الجرح) وفي (المبحث الأول) من هذا الفصل ما بينه ابن أبي حاتم عن أهل الحديث أن من يقولون فيه ذلك، فهو ساقط الحديث، لا يعتبر به.
(1) تهذيب التهذيب (2/ 170 _ 171).
(2)
أحوال الرجال (النص: 277).
(3)
الكامل (4/ 471).
وفي معناها قولهم: (ذاهب الحديث)، و (ساقط الحديث)، و (واهي الحديث).
فإذا لم تضف للفظ (الحديث)، كقولهم:(متروك) و (ذاهبٌ) و (ساقط) و (واه)، فأغلب ما استعملت له هو ذات المعنى بالإضافة، لكن قد يراد به غير ذلك، فتفطن، وابحث عن وجهه في كلمات سائر النقاد، فلن تعدم وجهه إن شاء الله.
39 _
قولهم: (تركه فلان).
هذه صيغة جرح، ولا تلازم بينها وبين صيغة (متروك) أو (متروك الحديث)؛ فقد يراد بها ذلك، وقد يراد بها أن الناقد ترك ذلك الراوي لمجرد ضعفه عنده.
ومن أبرز النُّقُّاد الذين يجدر بك أن تلاحظ طريقتهم في ذلك: الإمامان يحيى بن سعيد القطان، وصاحبه عبد الرحمن بن مهدي، وأكثر من نقل عنهما الحافظان: عمرو بن على الفلاس، ومحمد بن المثنى الزمن.
فقد كان علماء هذا الفن والمصنِّفُون فيه يزنون النقلة من خلال ما بلغهم من اختيار هذين الإمامين، في موضع اتفاقهما وافتراقهما.
وطريقة يحيى معروفة عندهم بالتشدد، وطريقة ابن مهدي بالاعتدال، فإن اتفقا على ترك الراوي، فلا يكاد جرحه يندمل، وإذا اتفقا على الرواية عنه فقد جاز القنطرة، وإذا افترقا، فقبله ابن مهدي وتركه يحيى فعندئذ يغلب الاعتدال، فيكون رأي ابن مهدي أرجح عند النقاد، أو قبله يحيى وتركه ابن مهدي رجح القبول بطريقة الأولى، لكن حال اختلافهما لا يعني أن يكون القبول فيه بمعنى الاحتجاج، كما لا يكون الترك بمعنى السقوط، بل ربما كان الراوي في موضع من يكتب حديث للاعتبار.
فمن أمثلة من اتفقا على الرواية عنهم: واصل بن عبد الرحمن أبو حرة البصري (1)، وعبد الله بن عثمان بن خثيم (2)، ويونس بن أبي إسحاق السبيعي (3)، وما من هؤلاء إلا مقبول الحديث، فثلاثتهم من أهل الصدق.
ومن أمثلة من اتفقا على ترك الرواية عنهم، وهي كثيرة: أشعث بن سوار (4)، ورباح بن أبي معروف (5)، ومحمد بن راشد المكحولي (6)، والمثنى بن الصباح (7)، ومسلم بن كيسان الأعور (8)، وهؤلاء لم يبلغ حديثهم الترك عند سائر الأئمة، بل هم موصوفون بالصدق في الجملة، لكن لا يحتج بهم، إنما يكتب حديثهم للاعتبار، وبعضهم أضعف من بعض والأخيران أضعفهم.
والصلت بن دينار (9)، وعمرو بن عبيد المعتزلي (10)، ومحمد بن عبيد الله العرزمي (11)، وإبراهيم بن يزيد الخوزي (12)، والحسن بن دينار (13)، ونصر بن طريف أبو جزي (14)، وأبان بن أبي عياش (15)، هؤلاء متروكون، بل بعضهم معروف بوضع الحديث.
(1) الجرح والتعديل (4/ 2 / 31).
(2)
الجرح والتعديل (2/ 2 / 112) الكامل (5/ 267).
(3)
الكامل، لابن عدي (8/ 525).
(4)
الجرح والتعديل (1/ 1 / 271).
(5)
الجرح والتعديل (1/ 2 / 489) الكامل (4/ 106).
(6)
الكامل (7/ 419).
(7)
الجرح والتعديل (4/ 1 / 324) الكامل (8/ 172).
(8)
الجرح والتعديل (4/ 1 / 192).
(9)
الجرح والتعديل (2/ 1/ 438).
(10)
الجرح والتعديل (3/ 1 / 247) الكامل (2/ 35).
(11)
الجرح والتعديل (4/ 1 / 2).
(12)
الجرح والتعديل (1/ 1 / 147) الكامل (1/ 367) الضعفاء للعقيلي (1/ 70).
(13)
الجرح والتعديل (1/ 2 / 12) الكامل (3/ 116).
(14)
الكامل (8/ 274).
(15)
الجرح والتعديل (1/ 1 / 296) الضعفاء للعقيلي (1/ 40).
ومن أمثلة من افترقا فيهم فروى عنهم يحيى وتركهم ابن مهدي: قابوس بن أبي ظبيان (1)، وأبو صالح باذام مولى أم هانئ (2).
وممن روى عنهم ابن مهدي وتركهم يحيى: الحسن بن أبي جعفر (3)، وحبيب المعلم (4)، وحرب بن شداد (5)، والرَّبيع بن صبيح البصري (6)، وعمران بن داور القطان (7).
والراجح في جميع هؤلاء من روى عنهم يحيى أو ابن مهديِّ الصدق في حديثهم، وقبول رواياتهم، منهم احتجاجاً ومنهم اعتباراً، وليس يلحق واحد منهم بالمتروكين.
قال الترمذي بعد أن نقل عن ابن المديني أسماء بعض الرواة ترك الرواية عنهم يحيى القطان: " وإن كان يحيى بن سعيد القطان قد ترك الرواية عن هؤلاء، فلم يترك الرواية عنهم أنه اتهمهم بالكذب، ولكنه تركهم لحال حفظهم. . وقد حدث عن هؤلاء الذين تركهم يحيى بن سعيد القطان: عبد الله بن المبارك، ووكيع بن الجراح وعبد الرحمن بن مهدي وغيرهم من الأئمة "(8).
ونقل الليث بن عبدة عن يحيى بن معين قال: " كان ابن مهدي إذا حدث بحديث معاوية بن صالح زبره يحيى بن سعيد، وقال: أيش هذه الأحاديث؟ وكان ابن مهدي لا يبالي عمن روى، ويحيى ثقة في حديثه "(9).
(1) الجرح والتعديل (3/ 2 / 145).
(2)
العلل، لأحمد بن حنبل (النص: 4690) الكامل (2/ 255).
(3)
الجرح والتعديل (1/ 2 / 79) الكامل (3/ 133).
(4)
الجرح والتعديل (1/ 2 / 101) الكامل (3/ 321).
(5)
الكامل (3/ 332).
(6)
التاريخ الكبير، للبخاري (2/ 1 / 278 _ 279).
(7)
الكامل (6/ 162).
(8)
كتاب (العلل) في آخر " الجامع "(6/ 237).
(9)
الكامل (8/ 145).
قلت: لا يقبل من يحيى هذا الإطلاق في حق ابن مهدي.
وقد ذكرت في (صفة الناقد) ما روي عن ابن المديني قال: " إذا اجتمع يحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي على ترك رجل لم أحدث عنه، فإذا اختلفا أخذت بقول عبد الرحمن؛ لأنه أقصدهما، وكان في يحيى تشدد "(1).
وإذ قال ابن معين هذه العبارة المشعرة بتساهل ابن مهدي وأشار إلى تقديم القطان عليه، فإنه أيضاً قال في موضع آخر:" كان يحيى بن سعيد القطان لا يروي عن إسرائيل، ولا شريك، وكان يستضعف عاصماً الأحوال، وكان يروي عمن هو دونه: مجالد "(2).
وإنما كان ابن معين يتشدد، بل هو معروف بذلك، كما بينته في غير موضع.
وفي الجملة: فهذا جرح غير مفسر السبب، وربما كان مرجع التارك إلى علة لا تكون جرحاً قادحاً.
كما وقع من عبد الله بن المبارك، وكان من أئمة النقاد، وقد اعتدَّ أهل العلم بتركه فيمن ترك، وبروايته فيمن روى عنهم، كان ربما ترك الراوي فأعاد السَّبب إلى أنه اقتدى ببعض من يثق به في هذا العلم، وليس من أجل علة بينة بنى عليها تركه، كما قال عبد العزيز بن أبي رزمة (وكان ثقة): جلس ابن المبارك بالبصرة مع يحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي، وذكر قوماً من أهل الحديث، فقيل له: يا أبا عبد الرحمن، لم تركت الحسن بن دينار؟ قال:" تركه إخواننا هؤلاء "(3).
(1) أخرجه الخطيب في " تاريخه "(10/ 243) بإسناد لين.
(2)
تاريخ يحيى (النص: 2445) الجرح والتعديل (1/ 2 / 12) الكامل (2/ 128)، ومجالد هو ابن سعيد.
(3)
أخرجه أبو زرعة الدمشقي في " تاريخه "(النص: 2079) ومن طريقه: ابن عدي (3/ 116) وابن حبان في " المجروحين "(1/ 232) وإسناده صحيح.
وقال فيه ابن المبارك أيضاً: " اللهم إني لا أعلم إلا خيراً، ولكنَّ أصحابي وقفوا فوقفت "(1).
40 _
قولهم: (لم يحدث عنه فلان).
قد تساوي " تركه فلان "، فيكون لها معناها.
قال أحمد بن حنبل في (أبي الزبير محمد بن مسلم): " قد روى عنه قوم واحتملوه، روى عنه أيوب وغير واحد، إلا أن شعبة لم يحدث عنه "(2).
ولم يحدث مالك بن أنس عن جماعة من أهل المدينة، وقد قال علي بن المديني:" كلَّ مدني لم يحدث عنه مالك ففي حديثه شيء، ولا أعلم مالكاً ترك إنساناً إلا إنساناً في حديثه شيء "(3).
وقال أبو حاتم الرازي: " إذا رأيت الرجل لا يروي عنه الثوري " وأراه قال: " وشعبة، وقد أدركاه، فما ظنك به؟ "(4).
وقال عمرو بن علي الفلاس: سألت عبد الرحمن _ يعني ابن مهدي _ عن حديث (عمرو بن ثابت) فأبى أن يحدث عنه، وقال:" لو كنت محدثاً عنه، لحدثت بحديث أبيه عن سعيد بن جبير في التفسير "(5).
قال أبو حاتم الرازي في (القاسم بن محمد بن أبي شيبة): " كتبت عنه، وتركت حديثه "، وقال أبو زرعة:" كتبت عنه ولم أحدث عنه بشيء "(6).
(1) أخرجه ابن عدي (3/ 116) وإسناده صالح.
(2)
العلل ومعرفة الرجال، رواية المروذي وغيره (النص: 67).
(3)
أخرجه ابن عدي في " الكامل "(1/ 177) وإسناده صحيح.
(4)
علل الحديث (1/ 365).
(5)
الجرح والتعديل (3/ 1 / 223).
(6)
الجرح والتعديل (3/ 2 / 120).
ويراد بها أيضاً أنه لم يتهيأ له السماع منه، فلذلك لم يكتب عنه شيئاً، وليست جرحاً أصلاً.
مثاله: قال أبو الحسن الميموني لأحمد بن حنبل وقد ذكر له دخوله الرقة وسماعه من بعض أهلها: فكيف لم تكتب عن عبد الله بن جعفر (يعني الرقي)؟ فقال: " ما كان عبد الله بن جعفر تلك الأيام يذكر "، قلت: فقد أتيتها بعد ذاك، فكيف لم تكتب عنه؟ قال:" لم أكتب عنه "، قلت: تركته من علة؟ قال: " لا، ولكن لم أكتب عنه شيئاً "(1).
كذلك كقول أبي حاتم الرازي في (عبيد بن جناد الحلبي): " صدوق، لم أكتب عنه "(2).
وقول أبي زرعة الرازي في (عبد الله بن الجهم الرازي): " كان صدوقاً، رأيته ولم أكتب عنه "(3).
41 _
قولهم: (سكتوا عنه).
هي عبارة محالة، خبر من قائلها عن غيره، لا ينشئ بها شيئاً من جهته.
فهي بمنزلة قول الناقد وقد اطلع على كلام غيره من أهل الحديث: (تكلموا فيه)، أو (طعنوا عليه)، ودلَّ الاستقراء لحال من قيلت فيه أنها مساوية لإخبار الناقد عن غيره بقوله:(تركوه).
لذا فهي من عبارات الجرح المجملة، ولولا دلالة الاستقراء لكانت في جملة ما لا يصح الاعتماد عليه في جرح الرواة حتى يوقف على تفسيره.
وقد عرف استعمالها عن البخاري، وندرت جداً عن غيره، كأبي حاتم الرازي وأبي زرعة ومسلم بن الحجاج.
(1) تهذيب الكمال، للمزي (28/ 327 _ 328).
(2)
الجرح والتعديل (2/ 2 / 404).
(3)
الجرح والتعديل (2/ 2 / 27).
ولا يعاب استعمالها منهم فيمن قالوها فيه، إلا قول البخاري في (أبي حنيفة النعمان بن ثابت الإمام الفقيه):" سكتوا عنه، وعن رأيه، وعن حديثه "(1).
فهذه حكاية من البخاري عن أهل الحديث، ومن تأمَّل فاحصاً منصفاً متبرئاً من العصبية وجد هذا القول خطأ، وذلك _ بإيجاز _ من جهتين:
الأولى: دلالة الاستقراء على أن أهل الحديث قد اختلفت عباراتهم في أبي حنيفة، بين معدِّل وجارح، علماً أن الجرح عند من جرح لم يفسر بسبب حديثه، فكيف سكتوا عنه ، وفيهم من أثنى عليه وأطراه ورفع من شأنه.
والثانية: أن عبارات الجارحين وقع فيها من المبالغة والتَّهويل، وذلك بسبب الشِّقاق الذي كان بين أهل الرأي وأهل الحديث في تلك الفترة، علماً بأن كثيراً من تلك الأقاويل لا تصح نسبتها إلى من عزيت إليه.
وأبو حنيفة شغله الفقه عن الحديث، ولعله لو اشتغل به اشتغال كثير من أهل زمانه، لم يمكن مما مُكِّن فيه من الفقه، ومع ذلك فإنه قد روى وحدث، نعم، ليس بالكثير على التحقيق؛ للعلة التي ذكرنا، وهي انصرافه إلى فقه النصوص دون روايتها.
42 _
ومن عباراتهم في الجرح: قياس المجروح بالمجروح.
من مسالك نقاد النقلة أن يستدل لبيان حال الراوي بقياسه براو هو أظهر في حاله، فإذا أردت الوقوف على قدر الجرح في مراد الناقد لزمك النظر في رأيه في المقيس عليه، فإذا لم تجد له فيه نصاً مفسراً، نظرت تفسيره في كلام غيره من النُّقَّاد، ومن أمثلته:
قول أحمد بن حنبل في (مطر بن طهمان الورَّاق): " كان يحيى بن
(1) التاريخ الكبير (4/ 2 / 81).
سعيد (يعني القطان) يشبه مطر الورَّاق بابن أبي ليلى " يعني في سوء الحفظ (1).
ويبيِّن هذا قول أحمد بن حنبل في (ابن أبي ليلى): " كان سيئ الحفظ، مضطرب الحديث، وكان فقه ابن أبي ليلى أحبَّ إلينا من حديثه، حديثه فيه اضطراب "(2).
ومن مثاله أيضاً: قول أحمد في (سليمان بن داود الشَّاذ كونيِّ): " هو من نحو عبد الله بن سلمة الأفطس "، لكن هذا فسَّره أبو بكر الأثرم بقوله: يعني الكذب (3).
قلت: وليس كما قال، ولم يكن ذلك وجه المشابهة، وذلك أنك إذا عدت إلى النظر في حال (الأفطس) في رأي أحمد وغيره لم تجد أحداً اتَّهمه بالكذب، إنما كان متروكاً عند أحمد وغيره لأمر آخر، هو سوء الخلق، قال أحمد:" كان سيئ الخلق، وتركنا حديثه وتركه الناس "(4)، وكانت بينه وبين يحيى بن سعيد القطَّان خصومة، فتحدى يحيى وتكلم فيه يحيى، وعلى قاعدة ترك الكلام في الأقران إذا علم أن الشُّبهة قامت دون اعتبار ذلك الجرح، فاعتماد قول يحيى فيه محل نظر.
فالرجل لم يترك في التحقيق من أجل كذب، إلا ما يوحيه بعض قول يحيى فيه، وهو قابل للتأويل أيضاً، إنما الأمر كما قال أحمد:" كان خبيث اللسان "(5)، وقال أبو زرعة الرازي: " صدوق، ولكنه كان يتكلم
(1) العلل ومعرفة الرجال (النص: 852).
(2)
الجرح والتعديل (3/ 2 / 323).
(3)
الجرح والتعديل (2/ 1 / 115).
(4)
العلل ومعرفة الرجال (النص: 4545).
(5)
العلل ومعرفة الرجال (النص: 4546).
في عبد الواحد بن زياد ويحيى القطان " (1)، وقال أيضاً: " إنما قيل فيه من أجل لسانه " (2).
وعلى هذا فتفسير أبي بكر الأثرم لقياس أحمد للشَّاذ كونيِّ على الأفطس بأنه في الكذب، تفسير غير مسلِّم، وإنما ينبغي حمله على موضع اتفاق بين الرجلين، والذي كان في الشَّاذ كونِّي مما يشبه ما كان في الأفطس هو سوء خلق ذكر به الشَّاذ كونِّي أيضاً، أما الكذب فابن الشَّاذ كونيِّ أظهر فيه من أن يقاس بالأفطس.
وقال أبو حاتم الرازي فيه (عبد العزيز بن حصين بن الترجمان المروزي): " ليس بقوي، منكر الحديث، وهو في الضعف مثل عبد الرحمن بن زيد بن أسلم "(3).
وقد قال أبو حاتم في (ابن أسلم): " ليس بقوي في الحديث، كان في نفسه صالحاً، وفي الحديث واهياً، ضعفه علي بن المديني جداً "(4).
فعبد العزيز عند أبي حاتم واهي الحديث ضعيف جداً كذلك.
وقال أبو حاتم في (عقبة بن علقمة أبي الجنوب اليشكري): " ضعيف الحديث، وهو مثل أصبغ بن نُباتة وأبي سعيد عقيصاً متقاربين في الضعف، ولا يشتغل بهم "(5).
وقال في (أصبغ): "لين الحديث " قال ابنه: وعقيصا؟ فقال: " بابتهم، غير أن أصبغ أشبه "(6).
(1) أسئلة البرذعي لأبي زرعة (2/ 328).
(2)
أسئلة البرذعي (2/ 487).
(3)
الجرح والتعديل (2/ 2 / 380).
(4)
الجرح والتعديل (2/ 2 / 233 _ 234).
(5)
الجرح والتعديل (3/ 1 / 313).
(6)
الجرح والتعديل (1/ 1 / 320).
ولم ينقل ابنه عنه في (عقيصا) شيئاً، فإذا وازنت أمر الثلاثة في رأي أبي حاتم وجدت رأيه لم يبلغ بهم الترك وإن كان قال:" لا يشتغل بهم "، فهذه العبارة ليست صريحة في الترك، لذلك تجد عبارة أبي حاتم بين (ضعيف الحديث) و (لين الحديث)، وقوله:" أصبغ أشبه " كأنه يقول: في حديثه ما قد يعتبر به.
وحاصل هذا النوع من ألفاظ الجرح: اللِّحاق بألفاظ الجرح المجمل، حتى يوقف على معناه بالتَّتبُّع والنظر والتَّحري.
تنبيهات:
الأول: لم أذكر ألفاظ الوصف بالكذب ووضع الحديث، لظهورها واستغنائها باللفظ عن التفسير.
الثاني: وقولهم: (يسرق الحديث) فسرتها في (تفسير الجرح) بتفصيل أمثلتها، كذلك لم أذكر تفسير (مجهول)، و (لا أعرفه) وما في معناها؛ لكوني استوعبته في (تفسير الجهالة).
الثالث: سائر العبارات المحالة في صيغتها على الغير كقولهم: (فيه مقال)، و:(تكلموا فيه)، و:(ضعفوه)، و:(ضعِّف)، و:(تركوه)، و:(تُرِك)، وشبهها، أعرضت عن ذكرها، وإن كثرت عند المتأخرين، لأن إجمال القول فيها: كُلُها من الجرح الذي لا يقبل ولا يعوَّل عليه حتى يوقف على فاعل القول فيه، فإن تحقَّق وجب تمييز ما يرجع إليه من تفسير أو إجمال.