الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السادس:
مسائل تتصل بالجرح بسوء الحفظ
المسألة الأولى: الراوي قد يكون لين الحديث من جهة عدم ظهور إتقانه لقلة حديثه، أو لمجيء حديثه على غير سياق روايات الثقات، وإن لم يكن أتى بمنكر.
مثل (عبد الصمد بن حبيب العوذي)، كان قليل الحديث، قال البخاري وأبو حاتم الرازي:" لين الحديث، ضعفه أحمد "(1)، زاد أبو حاتم:" يكتب حديثه، ليس بالمتروك ".
ومثل (إبراهيم بن يوسف بن أبي إسحاق السبيعي)، ضعفه الأكثرون، لكن جاء ضعفه من جهة لين فيه لا أنه روى منكراً، ولذا قال ابن عدي:" ليس هو بمنكر الحديث، يكتب حديثه "(2)، وقال أبو حاتم قبله:" يكتب حديثه، وهو حسن الحديث "(3).
المسألة الثانية: الإغراب عن الثقات.
نعت الراوي برواية الغرائب سبب للجرح، إذا كان مثله لا يحتمل
(1) التاريخ الكبير (3/ 2 / 106)، الجرح والتعديل (3/ 1 / 51).
(2)
الكامل (1/ 385).
(3)
الجرح والتعديل (1/ 1 / 148).
مثلها، كراو لم يرو إلا بضعة أحاديث، فيغرب بأكثرها، وذلك إسناداً أو متناً أو جميعاً، فهذا يشعر بلين حديثه، وإن لم يصل ما تفرد به إلى حد النكارة.
أما الثقة المكثر إذا أغرب ببعض حديثه عن شيخ عرف بالعناية به، فهو من علامة تميزه وإتقانه.
لذا فحين تكلم في (حرملة بن يحيى التجيبي المصري) من أجل ما أغرب به عن عبد الله بن وهب رد ذلك ابن عدي، فقال:" قد تبحرت حديث حرملة وفتشته الكثير، فلم أجد في حديثه ما يجب أن يضعف من أجله، ورجل توارى ابن وهب عندهم ويكون عنده حديثه كله، فليس ببعيد أن يغرب على غيره من أصحاب ابن وهب كتباً ونسخاً "(1).
والإغراب مما تميل إليه النفوس بطبعها، لكن من عرفوا بالإتقان كانوا يتقون الإغراب إلا بمحفوظ، بخلاف من كان همه تكثير الرواية، فهذا لا يبالي بما حدث ولا عمن حدث، حتى ربما لحقته التهمة بسبب ذلك، كما كان الشأن في حق (الهيثم بن عدي) ، و (محمد بن عمر الواقدي) وشبههما.
كما قال أبو يوسف القاضي: " من تتبع غريب الحديث كُذِّب "(2).
(1) الكامل (3/ 409).
(2)
أثرٌ صحيح. أخرجه الرامهرمزي في " المحدث الفاصل "(ص: 562) وابنُ عدي (1/ 111) والخطيب في " الكفاية "(ص: 225) بإسناد جيد. ولفظ ابن عدي: " من طلب الدين بالكلام تزندق، ومن طلب غريب الحديث كُذِّب، ومن طلب المالَ بالكيمياء أفْلس ". قلت: ولو ضبطْتَ قوله: (كُذب)(كَذب) لجاز. وأخرجه الخطيب في " الجامع "(رقم: 1481) بإسناده إلى أبي يوسف عن أبي حنيفة، به، لكنه ضعيف. وروى مُحمد بن جابر اليمامي عن الأعمش، عن إبراهيم النخعي قال:" كانُوا يَكرهون غريب الحديث، والكلام ". أخرجه الرامهرمزي في " المحدث الفاصل "(ص: 565) والخطيب في " الكفاية "(ص: 224). ابنُ جابر ليس بالقوي في الحديث. لكن في معناه عن إبراهيم قال: " كانوا يكرهون إذا اجتمعوا أن يُخرج الرجل أحسن حديثه، أو أحسنَ ماعنده " أخرجه الرامهرمزي (ص: 561) والخطيب في " الجامع "(رقم: 1295) وإسناده صَحيح. وكانوا يعنون بذلك الغريب؛ لأنه تستحسنه النفوس.
وقال ابن حبان: " صناعة الحديث صناعة من لم يقنع بيسير ما سمع عن كثير ما فاته "، قال:" وكل من حدث عن كل من سمع في الأيام وبكل ما عنده، عرض نفسه للقدح والملام، ولست أعلم للمحدث إذا لم يحسن صناعة الحديث خصلة خيراً له من أن ينظر إلى كل حديث يقال له: إن هذا غريب ليس عند غيرك، أن يضرب عليه من كتابه ولا يحدث به؛ لئلا يكون ممن يتفرد دائماً، لو أراد الحاسد أن يقدح فيه تهيأ له، ولا يسمعه أن يروي إلا عن شيخ ثقة بحديث صحيح، يكون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنقل العدل عن العدل موصولاً "(1).
والناقد إذا روى الراوي الذي لا يحتمل الإغراب لعدم شهرته بالحفظ، أو لقلة ما روى، جاء عن الراوي المشهور بغير المعروف من حديثه من رواية الثقات، كان ذلك شبهة للقدح فيه، وتقوى حتى تثبت على ذلك الراوي بحسب نوع ما تفرد به وقدره، ويقع هذا في شأن راو قليل الحديث أصلاً غير مشهور ربه.
ومن أمثلة هؤلاء: (سعيد بن زربي)، ذكر العقيلي حديثاً من روايته عن ثابت عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" لقد أوتي أبو موسى مزماراً من مزامير آل داود "، قال العقيلي:" ولا يتابع عليه من حديث ثابت، وقد روي هذا بإسناد جيد ثابت من غير هذا الوجه "(2).
وكقول ابن حبان في (محمد بن عبيد الله (3) العصري): " منكر الحديث جداً، يروي عن ثابت ما لا يتابع عليه كأنه ثابت آخر، لا يجوز الاحتجاج به، ولا الاعتبار بما يرويه إلا عند الوفاق للاستئناس به "(4).
(1) المجروحين، لابن حبان (3/ 93).
(2)
الضعفاء، للعُقيلي (2/ 107).
(3)
هكذا وقع (عبيد الله) مصغَّراً في بعض محال ترجمته، و (عبد الله) مكبَّراً في بعض آخر، والأول أشْبه بالصواب.
(4)
المجروحين (2/ 282).
فأمثال هذا أو ذاك ممن لم يرو إلا القليل، ومع ذلك يتفرد بما لا يعرف عن الثقات، فهذا يعود عليه تفرده ذلك بالجرح لا بالمحمدة.
المسألة الثالثة: الإصرار على الخطأ.
يراد به أن يبين للراوي أنه أخطأ، فيصر أنه مصيب، ولا يرجع إذا بين له، وهذا جعله بعض النقاد قادحاً فيمن عرف منه مطلقاً، وبعضهم يذكره قادحاً لكن لا يطلقه، ولذلك فقد ذكر به بعض من استقر عند الأكثرين توثيقهم.
والتحرير لهذه المسألة: أن القدح في الراوي إنما هو من جهة خطئه لا من جهة إصراره على ما يحسب نفسه مصيباً فيه.
قال حمزة السهمي: سألته (يعني الدارقطني) عمن يكون كثير الخطأ؟ قال: " إن نبهوه عليه ورجع عنه فلا يسقط، وإن لم يرجع سقط "(1).
ومن أمثلته في الضعفاء (سفيان بن وكيع) "
قيل لأبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة: لم رويت عن أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، وتركت سفيان بن وكيع؟ فقال:" لأن أحمد بن عبد الرحمن لما أنكروا عليه تلك الأحاديث رجع عنها عن آخرها، إلا حديث مالك عن الزهري عن أنس: (إذا حضر العشاء)، فإنه ذكر أنه وجده في درج من كتب عمه في قرطاس، وأما سفيان بن وكيع، فإن وراقه أدخل عليه أحاديث، فرواها، وكلمناه فيها فلم يرجع عنها، فاستخرت الله وتركت الرواية عنه "(2).
و (المسيب بن واضح)، قال أبو حاتم الرازي:" صدوق، كان يخطئ كثيراً، فإذا قيل له لم يقبل "(3).
(1) سؤالات السهمي (النص: 1).
(2)
أخرجه الخطيب في " الجامع "(رقم: 1120) وإسناده صحيح.
(3)
الجرح والتعديل (4/ 1 / 294).
ومن أمثلته في الثقات: (محمد بن عبيد الطنافسي)، قال أحمد بن حنبل:" كان يخطئ، ولا يرجع عن خطئه "(1).
و (محمد بن غالب تمتام) فقد ذكر الدارقطني من أوهامه أنه حدث محمد بن جعفر الوركاني، عن حماد بن يحيى الأبح، عن ابن عون، عن ابن سيرين، عن عمران بن حصين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" شيبتني هود وأخواتها "، قال الدارقطني:" فأنكروا عليه موسى بن هارون وعبيدة، فأخرج أصله وجاء إلى إسماعيل بن إسحاق القاضي، فأوقفه عليه، فقال: ربما وقع على الناس الخطأ في الحداثة، ولو تركته لم يضرك، فقال: أنا لا أرجع عما في أصل كتابي "، ثم بين الدارقطني كيف دخله الوهم، ووثقه وأثنى عليه (2).
قلت: وهذا من أمثلته الثقات، كان إصراره حين أصر من أجل ما اعتقده من ضبطه.
المسألة الرابعة: جرح الراوي مقارنة بغيره، من الجرح النسبي، ولا ينافي أصل الثقة، إلا أن تكون المقارنة بين ضعيفين.
الناقد ربما ضعف الراوي في بعض الشيوخ، ولم يعن مطلقاً، وإنما عند المقارنة بمن هو أتقن منه عن ذلك الشيخ، كالشأن في تضعيف بعض أصحاب الزهري مقارنة بالمتقنين.
قال يعقوب بن شيبة: سمعت يحيى بن معين يقول: " كان جعفر بن برقان أمياً "، فقلت له: جعفر بن برقان كان أمياً؟ قال: " نعم "، قلت: كيف روايته؟ فقال: " كان ثقة صدوقاً، وما أصح رواياته عن ميمون بن مهران وأصحابه! "، فقلت له: أما روايته عن الزهري ليست مستقيمة؟ قال: " نعم "، وجعل يضعف روايته عن الزهري (3).
(1) الجرح والتعديل (4/ 1 / 10).
(2)
سؤالات السلمي (النص: 312).
(3)
الكامل، لابن عدي (2/ 372).
هكذا ظاهر قول ابن معين أن حديثه عن الزهري ضعيف مطلقاً، لكن قال ابن عدي:" إنما قيل ضعيف في الزهري؛ لأن غيره عن الزهري أثبت منه، أصحاب الزهري المعروفين: مالك، وابن عيينة، ويونس، وشعيب، وعقيل، ومعمر، فإنما أرادوا أن هؤلاء أخص بالزهري، وهم أثبت من جعفر بن برقان؛ لأن جعفراً ضعيف في الزهري لا غير "(1).
قلت: وهذا التفسير معتضد بهذه المحاورة بين عثمان الدارمي وشيخه يحيى بن معين، قال عثمان: سألت يحيى بن معين عن أصحاب الزهري:
قلت له: معمر أحب إليك في الزهري أو مالك؟ فقال: " مالك ".
قلت: فيونس أحب إليك وعقيل، أم مالك؟ فقال:" مالك ".
قلت: فابن عيينة أحب إليك، أم معمر؟ فقال:" معمر ".
قلت: فإن بعض الناس يقولون: سفيان بن عيينة أثبت الناس في الزهري؟ فقال: " إنما يقول ذاك من سمع منه، وأي شيء كان سفيان! إنما كان غليماً أيام الزهري ".
قلت: فشعيب _ أعني ابن أبي حمزة _؟ فقال: " هو ثقة مثل يونس وعقيل "، " شعيب بن أبي حمزة كتب عن الزهري إملاء للسطان، وكان كاتباً ".
قلت: فالزبيدي؟ قال: " هو مثلهم ".
قلت: فإبراهيم بن سعد أحب إليك أو ليث؟ فقال: " كلاهما ثقتان ".
قلت: فمعمر أحب إليك أو صالح بن كيسان؟ فقال: " معمر أحب إلي، وصالح ثقة ".
(1) الكامل (2/ 373 _ 374). يونس هوَ ابن يزيد الأيلي، وشُعيبٌ هوَ ابنُ أبي حَمزة، وعُقيلٌ هوَ ابنُ خالد الأيْلي، ومَعْمرٌ هوَ ابنُ راشد.
قلت: فالماجشوني _ أعني عبد العزيز _؟ قال: " ليس به بأس ".
قلت: فصالح بن أبي الأخضر؟ فقال: "ليس بشيء في الزهري ".
قلت: فمحمد بن أبي حفصة؟ قال: " صويلح، ليس بقوي ".
قلت: فابن جريج؟ فقال: " ليس بشيء في الزهري ".
فجعفر بن برقان؟ فقال: " ضعيف في الزهري ".
قلت: فمحمد بن إسحاق؟ فقال: " ليس به بأس، وهو ضعيف الحديث عن الزهري ".
قلت له: عبد الرحمن بن إسحاق الذي يروي عن الزهري؟ فقال: " صالح ".
وسألته عن سفيان بن حسين؟ فقال: " ثقة، وهو ضعيف الحديث عن الزهري ".
قلت له: فمعمر أحب إليك أو يونس؟ فقال: " معمر ".
قلت: فيونس أحب إليك أو عقيل؟ فقال: " يونس ثقة، وعقيل ثقة نبيل الحديث عن الزهري ".
وسألته عن الأوزاعي: ما حاله في الزهري؟ فقال: " ثقة ".
قلت له: أين يقع من يونس؟ فقال: يونس أسند عن الزهري، والأوزاعي ثقة، ما أقل ما روى الأوزاعي عن الزهري! ".
قلت: فزياد بن سعيد، أي شيء حاله في الزهري؟ فقال:" ثقة ".
قلت: فما حال سليمان بن موسى في الزهري؟ فقال: " ثقة ".
قلت: فعبد الله بن عبد الرحمن الجمحي، كيف حديثه عن ابن شهاب؟ فقال:" لا أعرفه ".
قلت: فعنبسة بن مهران عن الزهري، من عنبسة، يروي عنه يحيى بن المتوكل؟ فقال:" لا أعرفه ".
قلت: فعمر بن عثمان الذي يروي عن أبيه عن ابن شهاب، ما حالهما؟ فقال:" ما أعرفهما ".
قلت: فابن أبي ذئب، ما حاله في الزهري؟ فقال:" ابن أبي ذئب ثقة ".
وسألته عن أخي الزهري، ما حاله؟ فقال:" ضعيف "(1).
وقال أبو بكر الأثرم: سمعت أبا عبد الله (يعني أحمد بن حنبل) وذكر يونس بن أبي إسحاق، فضعف حديثه، وقال:" حديث إسرائيل أحب إلي منه "(2).
قلت: فهذا تضعيف ليونس مقارنة بابنه إسرائيل عن أبي إسحاق خاصة، وليس ضعفاً مطلقاً، فلا يصح القول: يونس ضعيف عند أحمد مثلاً.
وهكذا حين قيل لأحمد: غندر وحفص بن غياث؟ قال: " غندر أحب إلي من حفص، حفص كان مخلطاً " وضعف أمره (3).
قلت: فالتحقيق في الجرح الوارد على هذه الصفة أنه تليين للراوي بالمقارنة بمن ذكر معه، ولا يصلح اقتطاع لفظ الجرح في ذلك الراوي عما اقترن به، بل الشأن عند إطلاق القول في أكثر هؤلاء المضعفين مقارنة بمن هو فوقهم في بعض الشيوخ أنهم ثقات عند الإطلاق.
فإن قلت: ما فائدة هذا الجرح؟
(1) ساق هذه المحاورة عثمان الدارمي في " تاريخه "(41 _ 48) وحذفت ما أورده عثمان في ثناياها عن غير يحيى، وما ليس من موضوع أصحاب الزهري.
(2)
تهذيب الكمال، للمزي (32/ 491).
(3)
مسائل أحمد، رواية ابن هانئ (2/ 208).
قلت: الترجيح عند الاختلاف.
وأما المقارنة بين الضعفاء فتدل على التفاوت بينهم في الضعف خفة وشدة، وقد تساعد في تقدير درجة الراوي في حفظه.
سئل يحيى بن معين عن المثنى بن الصباح؟ فقال: " ضعيف الحديث، هو أقوى من طلحة بن عمرو "(1).
قلت: المثنى يعتبر به، وطلحة متروك، لكن هذه المقارنة تنبئ بتدني رتبة المثنى حتى صار يقارن بطلحة، وإن كان أقوى منه، على حد قول القائل:
ألم تر أن السيف ينقص قدره
…
إذا قيل إن السيف أمضى من العصا؟
وقال أبو عبيد الآجري: سألت أبا داود عن جويبر والكلبي؟ فقدم جويبراً، وقال:" جويبرٌ على ضعفه، والكلبي متهم "(2).
قلت: هما متروكان، وكأن أبا داود يقول: لو كان في أحد منهما خير، ففي جويْبر.
وقال الدارقطني: " مُجالد بن سعيد الكوفي ليس بثقة، يزيد بن أبي زياد أرجح منه، ومجالدٌ لا يُعتبر به "(3).
قلت: بالغ الدارقطني في شأن مجالد، لكن المقارنة له بيزيد، ويزيد يعتبر به تجعل إمكان الاعتبار بمجالد وارداً.
وقال البرقاني: سألته عن عدي بن الفضل؟ قال: " يترك "، ثم قال:" وأبو جزي نصر بن طريف أسوأ حالاً منه "(4).
قلت: كأنه يقول: إن كان عدي متروكاً، فما بالك بأبي جزي؟
(1) سؤالات ابن الجُنيد (النص: 141).
(2)
سؤالات الآجري لأبي داود السجستاني (النص: 227).
(3)
سؤالات البرقاني (النص: 484).
(4)
سؤالات البرقاني (النص: 518).