الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الخامس:
كيف يعرف الضبط
؟
جرى نقاد المحدثين على تمييز ضبط الراوي بطرق ترجع إلى ما يأتي:
1 _
عرض رواياته على روايات غيره لتبين قد موافقته أو مخالفته أو تفرده.
ويتم ذلك بالمقارنة بين حديث الراوي وأحاديث الثقات المعروفة، وأحاديث المجروحين المنكرة، ويعتبر حاله في الإتقان بقدر ما وافق فيه الثقات، وحاله في الجرح بحسب ما تفرد به، أو خالف فيه الثقات، أو وافق المجروحين.
وهذا طريق تمييز أكثر النقلة.
قال الشافعي: " يعتبر على أهل الحديث بأن إذا اشتركوا في الحديث عن الرجل بأن يستدل على حفظ أحدهم بموافقة أهل الحفظ، وعلى خلاف حفظه بخلاف أهل الحفظ له "(1).
(1) الرسالة (الفقرة: 1047).
وكان الاستثبات بعرض حديث الراوي على حديث غيره، أو طلب الموافق له إذا أتى بما يستغرب من العلم، قديم منذ عهد الصحابة، وذلك لتبين حفظ ذلك الراوي للحديث من عدمه.
ومن شائع أمثلته:
1 _
قصة أبي بكر في توريث الجدة، فعن قبيصة بن ذؤيب، قال:
جاءت الجدة إلى أبي بكر الصديق تسأله ميراثها، فقال لها أبو بكر: مالك في كتاب الله شيء، وما علمت لك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً، فارجعي حتى أسأل الناس. فسأل الناس، فقال المغيرة بن شعبة: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس، فقال أبو بكر: هل معك غيرك؟ فقام محمد بن مسلمة الأنصاري فقال مثل ما قال المغيرة، فأنفذه لها أبو بكر الصديق (1).
2 _
وقصة عمر مع أبي موسى في الاستئذان، فعن أبي سعيد الخدري، قال:
كنت جالساً بالمدينة في مجلس الأنصار، فأتانا أبو موسى فزعاً أو مذعوراً، قلنا: ما شأنك؟ قال: إن عمر أرسل إلي أن آتيه، فأتيت بابه فسلمت ثلاثاً، فلم يرد علي، فرجعت، فقال ما منعك أن تأتينا؟ فقلت: إني أتيتك، فسلمت على بابك ثلاثاً، فلم يردوا علي، فرجعت، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع "، فقال عمر: أقم عليه البينة وإلا أوجعتك. فقال أبي بن كعب: لا يقوم معه إلا أصغر
(1) حديث صحيح في قول الترمذي وغيره، وهو الراجح عندي.
أخرجه مالك (رقم: 1461)، ومن طريقه: أبو داود (رقم: 2894) والترمذي (رقم: 2101) والنسائي في " الكبرى "(رقم: 6346) وابن ماجة (رقم: 2724) وأحمد في " المسند " وابنه عبد الله في " زوائده "(29/ 499 رقم: 17980) وغيرهم.
وتكلمت عنه في " علل الحديث ".
القوم. قال أبو سعيد: قلت أنا أصغر القوم، قال: فاذهب به. قال أبو سعيد: فقمت معه فذهبت إلى عمر، فشهدت (1).
3 _
وقصة عائشة في حديث حدث به عبد الله بن عمرو، فعن عروة بن الزبير، قال:
قالت لي عائشة: يا ابن أختي، بلغني أن عبد الله بن عمرو مار بنا إلى الحج، فالقه فسائله، فإنه قد حمل عن النبي صلى الله عليه وسلم علماً كثيراً.
قال: فلقيته فساءلته عن أشياء يذكرها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عروة: فكان فيما ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله لا ينتزع العلم من الناس انتزاعاً، ولكن يقبض العلماء فيرفع العلم معهم، ويبقي في الناس رءوسا ًجهالاً يفتونهم بغير علم، فيضلون ويضلون ".
قال عروة فلما حدثت عائشة بذلك أعظمت ذلك وأنكرته، قالت: أحدثك أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول هذا؟
قال عروة: حتى إذا كان قابل قالت له: إن ابن عمر قد قدم فالقه، ثم فاتحه حتى تسأله عن الحديث الذي ذكره لك في العلم.
قال: فلقيته، فساءلته، فذكره لي نحو ما حدثني به في مرته الأولى.
(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (17/ 74 رقم: 11029) والحُميدي (رقم: 734) والبُخاري (رقم: 5891) ومُسلم (3/ 1694) وأبو داود (رقم: 5180) وأبو يعلى (2/ 269 رقم: 981) والبزَّار (8/ 13 رقم: 2981) وأبو نُعيم في " المستخرج على البخاري " _ (كما في " الفتح " 11/ 29) _ والبيهقي في " الكبرى "(8/ 339) من رواية سُفيان بن عُيينة، قال: حدثنا _ والله _ يزيد بن خُصيْفةَ، عن بسر بن سعيد قال: سمعت أبا سعيد الخدري يقول، به.
ولهذا الحديث طرق أخرى، وقد قال عمر في رواية عند مسلم وغيره من حديث أبي موسى الأشْعري نفسه:" سبحان الله ! إنما سمعت شيئاً فأحببت أن أتثبت ".
قال عروة: فلما أخبرتها بذلك، قالت: ما أحسبه إلا قد صدق، أراه لم يزد فيه شيئاً ولم ينقص (1).
وفي هذه الآثار وما في معناها دليل على أن التيقظ والتثبت لقبول الحديث، والتحري لأحوال نقلته بدأ منذ بدأت الرواية في عهد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا المنهج في المقابلة لحديث الراوي بحديث غيره، ليتبين منها قدر ما يشهد له وما لا يشهد له، أو ما يخالفه ويناقضه، هو القاعدة العظمى لتمييز الحفاظ الثقات من غيرهم، وازداد ظهور ذلك كلما تأخر الزمن بعد الصحابة، بسبب طول الإسناد وتشعبه المقتضى كثرة الناقلين، مما تزداد معه مظنة الخطأ والوهم، مع ضعف الوازع عند كثير من الناس، مما ظهر معه الكذابون الذين كانوا يتعمدون وضع الحديث: متناً أو إسناداً، أو جميعاً.
قال الذهبي: " اعلم أن أكثر المتكلم فيهم ما ضعفهم الحفاظ إلا لمخالفتهم الأثبات "(2).
وأقول: ولتفردهم عن المعروفين بما لا يعرف من رواية الثقات عنهم.
ومن مثاله الموضح له:
قوله يحيى بن معين: " قال لي إسماعيل بن علية يوماً: كيف حديثي؟
(1) حديث صحيح. مُتفق عليه، أخرجه البُخاري (رقم: 6877) ومسلم (4/ 2059) والبيهقي في " المدخل "(رقم: 852) والسياق للأخيرين، من طريق عبد الله بن وهب، حدثني أبو شريح، أن أبا الأسود حدثه، عن عروة، به. أبو شريح هو عبد الرحمن بن شريح، وأبو الأسود هو محمد بن عبد الرحمن بن نوفل. ووقع ذكر القصة كذلك باختصار في بعض طُرق الحديث من رواية هِشام بن عُروة عن أبيه. أخرجه كذلك مسلم (4/ 2058) وفي " التمييز " له (رقم: 12)، والحديث مرويٌّ دون هذه القصة في أكثر الأصول.
(2)
الموقظة (ص: 52).
قال: أنت مستقيم الحديث، قال: فقال لي: وكيف علمتم ذاك؟ قلت له: عارضنا بها أحاديث الناس، فرأيناها مستقيمة، قال: فقال: الحمد لله " (1).
وقال يحي بن معين: " ربما عارض بأحاديث يحيى بن يمان أحاديث الناس، فما خالف فيها الناس ضربت عليه، وقد ذكرت لوكيع شيئاً من حديثه عن سفيان، فقال وكيع: ليس هذا سفيان الذي سمعنا نحن منه "(2).
وكما قال مسلم بن الحجاج: " من تراه يعمد لمثل الزهري في جلالته وكثرة أصحابه الحفاظ المتقنين لحديثه وحديث غيره، أو لمثل هشام بن عروة، وحديثهما عند أهل العلم مبسوط مشترك، قد نقل أصحابهما عنهما حديثهما على الاتفاق منهم في أكثره، فيروي عنهما أو عن أحدهما العدد من الحديث مما لا يعرفه أحد من أصحابهما، وليس ممن قد شاركهم في الصحيح مما عندهم، فغير جائز قبول حديث هذا الضرب من الناس "(3).
ومن أجل ذلك كانوا يكتبون حديث الراوي على وجوه المختلفة ليتبينوا موضع الموافقة من موضع المخالفة، وليحكم عليه بحسب ما يظهر من ذلك.
قال يحيى بن معين: " لو نكتب الحديث من ثلاثين وجهاً ما عقلناه "(4).
وقال ابن حبان: " الإنصاف في النقلة في الأخبار: استعمال الاعتبار فيما رووا "(5).
(1) معرفة الرجال، رواية: ابن مُحرز (2/ 39).
(2)
تاريخ يحيى بن معين (3/ 319).
(3)
مُقدمة صحيح مسلم (ص: 7).
(4)
تاريخ يحيى بن مَعين (النص: 4330)، ومن طريقه: ابن حِبان في " المجروحين "(1/ 33)، والحاكم في " المدخل إلى الإكليل " (ص: 32)، والخطيب في " الجامع " (رقم: 1639) وفي " تاريخ يحيى ": (الشيء) بدل الحديث.
(5)
الإحسان (1/ 154).
وبين ذلك بالمثال التالي فقال:
" كأنا جئنا إلى حماد بن سلمة، فرأيناه روى خبراً عن أيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، لم نجد ذلك الخبر عند غيره من أصحاب أيوب، فالذي يلزمنا فيه التوقف عن جرحه والاعتبار بما روى غيره من أقرانه:
فيجب أن نبدأ فننظر هذا الخبر: هل رواه أصحاب حماد عنه؟ أو رجل واحد منهم وحده؟
فإن وجد أصحابه قد رووه، علم أن هذا قد حدث به حماد.
وإن وجد ذلك من رواية ضعيف عنه ألزق ذلك بذلك الراوي دونه.
فمتى صح أنه روى عن أيوب ما لم يتابع عليه يجب أن يتوقف فيه، ولا يلزق به الوهن، بل ينظر:
هل روى أحد هذا الخبر من الثقات عن ابن سيرين غير أيوب؟
فإن وجد ذلك علم أن الخبر له أصل يرجع إليه.
وإن لم يوجد ما وصفنا نظر حينئذ: هل روى أحد هذا الخبر عن أبي هريرة غير ابن سيرين من الثقات؟
فإن وجد ذلك علم أن الخبر له أصل.
وإن لم يوجد ما قلنا، نظر: هل روى أحد هذا الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم غير أبي هريرة؟
فإن وجد ذلك صح أن الخبر له أصل.
ومتى عدم ذلك والخبر نفسه يخالف الأصول الثلاثة (1) علم أن الخبر موضوع لا شك فيه، وأن ناقله الذي تفرد به هو الذي وضعه.
(1) الأشبه أنه أراد: الكتاب والسنة الثابتة والإجماع.
هذا الحكم الاعتبار بين النقلة في الروايات " (1).
ومن أمثلة تقريب ما بينه ابن حبان، قول يحيى بن معين:" نظرنا في حديث الواقدي، فوجدنا حديثه عن المدنيين عن شيوخ مجهولين أحاديث مناكير، فقلنا: يحتمل أن تكون تلك الأحاديث المناكير منه، ويحتمل أن تكون منهم، ثم نظرنا إلى حديثه عن ابن أبي ذئب ومعمر، فإنه يضبط حديثهم، فوجدناه قد حدث عنهما بالمناكير، فعلمنا أنه منه، فتركنا حديثه "(2).
ومن مثال جرح الراوي في حفظه بظهور النكارة فيما روى من أجل مجيئه بمتن منكر لا يعرف إلا به، بإسناد نظيف لا يحتمل مثله:
ما رواه أبو الحسن علي بن إبراهيم بن الهيثم البلدي، قال: حدثني أبي، حدثنا آدم بن أبي إياس العسقلاني، حدثنا ليث بن سعد، عن نافع، عن ابن عمر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا تضربوا أولادكم على بكائهم، فبكاء الصبي أربعة أشهر شهادة أن لا إله إلا الله، وأربعة أشهر الصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم ، وأربعة أشهر دعاء لوالديه ".
قال الخطيب: " هذا الحديث منكر جداً، ورجال إسناده كلهم مشهورون بالثقة، سوى أبي الحسن البلدي "(3).
ومثال وهم الراوي وضعف ضبطه بروايته ما يخالف المحفوظ:
ما رواه يحيى بن عبيد الله عن أبيه (4)، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" من حلف على يمين، فرأى غيرها خيراً منها، فأتى الذي هو خير، فهو كفارته "(5).
(1) الإحسان (1/ 155).
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل "(4/ 1 / 21) بإسناد صحيح.
(3)
تاريخ بغداد (11/ 238).
(4)
هو عبيد الله بن عبد الله بن مَوْهب.
(5)
أخرجه مسلم في " التمييز "(رقم: 82) والبيهقي في " الكبرى "(10/ 34).
فهذا تفرد به يحيى عن أبيه.
والمحفوظ: ما رواه أبو حازم الأشجعي عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها، فليأتها، وليكفر عن يمينه "(1).
ووافقه أبو صالح السمان عن أبي هريرة. وكذلك وافق أبا هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم على ما في رواية أبي حازم: أبو موسى الأشعري، وعدي بن حاتم، وعبد الرحمن بن سمرة، وعبد الله بن عمرو بن العاص في الرواية المحفوظة عنه، وأبو الدرداء، وغيرهم.
قال مسلم بعد ذكر رواية يحيى: " فلو لم يكن مما يبين فساد هذه الرواية إلا ما ذكرنا قبل (يعني رواية أبي حازم وأبي صالح) لكفى ذلك فكيف ومعه حديث أبي موسى وعدي بن حاتم وأبي الدرداء وغيرهم؟ بمثل هذه الرواية وأشباهها ترك أهل الحديث حديث يحيى بن عبيد الله، لا يعتدون به "(2).
وقال أبو داود السجستاني: " الأحاديث كلها عن النبي صلى الله عليه وسلم: (وليكفر عن يمينه) إلا فيما لا يعبأ به. قلت لأحمد: روى يحيى بن سعيد عن يحيى بن عبيد الله؟ فقال: تركه بعد ذلك، وكان أهلاً لذلك، قال أحمد: أحاديثه مناكير، وأبوه لا يعرف "(3).
وقلة حديث الراوي مع تفرده بما لا يرويه غيره من المعروفين، يدل على لينه؛ لأن قلة الحديث لا تساعد في تبين إتقان الراوي من عدمه بعرضه على روايات غيره، وتفرده بما لم يعتن بنقله الحفاظ غيره شبهة، فتكون علامة على لينه لا على حفظه.
(1) أخرجه مسلم في " صحيحه "(3/ 1271 _ 1272) و " التمييز "(رقم: 81) والبيهقي في " الكبرى "(10/ 32).
(2)
التمييز (ص: 206).
(3)
سنن أبي داود (عقب رقم: 3274).
2 _
عرض ما يحدث به الراوي حفظاً على ما في كتبه.
وذلك من أجل ما تقدم من كون الكتاب المتقن حاكماً على مجرد الحفظ ، فهو إما شاهد له دال
على إتقانه، وإما كاشف لسوء حفظه، تارة مطلقاً كما تقدم مثاله، وتارة للدلالة على خطئه في الحديث المعين.
قال البخاري: " يروى عن سفيان عن عاصم بن كليب عن عبد الرحمن بن الأسود عن علقمة، قال: قال ابن مسعود: ألا أصلي بكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فصلى، ولم يرفع يديه إلا مرة، وقال أحمد بن حنبل: عن يحيى بن آدم: نظرت في كتاب عبد الله بن إدريس عن عاصم بن كليب، ليس فيه: ثم لم يعد ".
قال البخاري: " فهذا أصح؛ لأن الكتاب أحفظ عند أهل العلم؛ لأن الرجل ربما حدث بشيء ثم يرجع إلى الكتاب فيكون كما في الكتاب "(1).
3 _
اختبار حفظ الراوي بقلب الأحاديث عليه ، أو تركيبها له.
عن حماد بن سلمة، قال: كنت أقلب على ثابت البناني حديثه، وكانوا يقولون: القصاص لا يحفظون (2)، وكنت أقول لحديث أنس: كيف حدثك عبد الرحمن بن أبي ليلى؟ فيقول: لا، إنما حدثناه أنس. وأقول لحديث عبد الرحمن بن أبي ليلى: كيف حدثك أنس؟ فيقول: لا، إنما حدثناه عبد الرحمن بن أبي ليلى " (3).
قلت: وهذا مثال الحافظ المتقن.
وعن عمرو بن علي، قال: سمعت يحيى بن سعيد يقول: " كنا عند شيخ من أهل مكة أنا وحفص بن غياث، فإذا أبو شيخ جارية بن هرم يكتب
(1) رفع اليدين في الصلاة، للبُخاري (ص: 79 _ 82).
(2)
يعني وأن ثابتاً كان يعد من القصَّاص، وهم الوعاظ.
(3)
أخرجه الخطيب في " الجامع لأخلاق الراوي "(رقم: 154) بإسناد صحيح.
عنه، فجعل حفص يضع له الحديث ويقول: حدثتك عائشة بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين بكذا وكذا، فيقول: حدثتني عائشة بنت طلحة عن عائشة بكذا وكذا، فيقول له حفص بن غياث: وحدثك القاسم بن محمد عن عائشة بكذا، فيقول: حدثني القاسم بن محمد عن عائشة بكذا، فيقول: حدثك سعيد بن جبير عن ابن عباس بمثله، فيقول: حدثني سعيد بن جبير عن ابن عباس. فلما فرغ ضرب حفص بيده إلى ألواح جارية فمحاها، فقال جارية: تحسدونني؟ فقال له حفص: لا، ولكن هذا يكذب ".
قال عمرو بن علي: فقلت ليحيى: من الرجل؟ فلم يسمه، فقلت له يوماً: يا أبا سعيد لعل عندي عن هذا الشيخ ولا أعرفه، قال:" هو موسى بن دينار "(1).
قلت: وهذا مثال للمغفل الذي لا يدري الحديث ولا الإسناد، أو يعني ما يقول فيعتمد الكذب.
4 _
مجيء قرينة في سياق الرواية تكشف سوء حفظ الراوي.
كقول البخاري مثلاً في (ذوَّاد بن علبة الحارثي): " يخالف في حديثه "(2)، استدل له بقوله: حدثنا ابن الأصبهاني، قال: حدثنا المحاربي، عن ليث، عن مجاهد، قال لي أبو هريرة: يا فارسي، أشكم درد (3).
(1) أخرجه ابن حبان في " المجروحين "(1/ 69) وابن عدي في " الكامل "(2/ 433 _ 434) والعقيلي في " الضعفاء "(4/ 156) والحاكم في " المدخل إلى الإكليل "(ص: 66) وإسناده صحيح.
ومعنى القصة كذلك ذكره ابن المديني عن يحيى القطان أخرجه ابن عدي (8/ 60) بإسناد صحيح.
(2)
هذه عبارة " التاريخ الأوسط "(2/ 185)، وعبارة " التاريخ الكبير " (2/ 1 / 264) و " الضعفاء " (الترجمة: 112): " يُخالف في بعض حديثه ".
(3)
كلمتان فارسيتان: (إشكم) أو (شْكم) البطن، و (درْد) ألم (وانظر: السامي في الأسامي للميداني، ص: 216).
قال ابن الأصبهاني: " ورفعه ذوَّاد (1)، وليس له أصل، أبو هريرة لم يكن فارسياً إنما مجاهد فارسي "(2).
وتبعه على ذلك العقيلي، وقال:" الموقوف أولى "(3)، وكذلك قال ابن الجوزي:" وهو أصح " يعني الموقوف (4).
ومن أجل قلة حديثه، ومجيئه بمثل هذه المخالفات ضعفه الجمهور، فقال يحيى بن معين:" ضعيف، ولا يكتب حديثه "(5)، وقال أبو حاتم
(1) أخرجه أحمد (15/ 28 _ 29، 131 رقم: 9066، 9240) من طريقين عن ذواد بن عُلبة، عن ليث، عن مُجاهد، عن أبي هريرة، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يُهجَّر، قال: فصليت، ثم جئت فجلست إليه، فقال:" يا أبا هريرة، اشكنْب درْد؟ "، قال: قلت: لا، يا رسول الله، قال:" صلِّ، فإن الصلاة شِفاء ".
وأخرجه ابن ماجة وصاحبه أبو الحسن القطان في " زوائده "(رقم: 3458) والعقيلي في " الضعفاء "(2/ 48) وابن عدي (4/ 22) وأبو الشيخ في " أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم "(رقم: 805) وابن الجوزي في " العلل المتناهية "(رقم: 269 _ 272) من طُرق أخرى عن ذوَّاد، عن ليث، به مرفوعاً.
قال ابن عدي: " ثم وجدناه عن الصلت بن الحجاج عن الليث مرفوعاً أيضاً كما رفعه ذوَّاد بن علبة .. وأظن أن بعض الضعفاء أيضاً قد رواه عن ليثٍ فرفعه، وأظنه معلَّى بن هلال ".
قلت: أسنده ابن عدي في ترجمة (الصلت)(5/ 130) وأبو الشيخ في " أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم "(رقم: 806)، وابن الجوزي في " العلل " (رقم: 273) والصلت ضعيف منكر الحديث، قال ابن الجوزي:" لعله أخذه من ذوَّاد ".
(2)
التاريخ الأوسط (رقم: 1409) ومن طريقه: العُقيلي في " الضعفاء "(2/ 48) وابن عدي (4/ 23) وابن الجوزي في " العلل "(رقم: 275).
وابن الأصبهاني هو: محمد بن سعيد بن سليمان، كان من الثقات الحفاظ، والمحاربي شيخه هو: عبد الرحمن بن محمد.
(3)
كما أسنده العقيلي (2/ 48) ومن طريقه: ابن الجوزي في " العلل " من طريق عبد الرحمن بن صالح، قال: حدثنا شريك، عن ليث، بإسناده موقوفاً. وكذلك ابن عدي (4/ 23) من طريق عبد السلام بن حرب، عن ليث، بإسناده موقوفاً.
(4)
العلل (1/ 172).
(5)
أخرجه ابن عدي (4/ 12) من رواية ابن أبي مريم عن يحيى، وإسناده صحيح، وفي رواية عثمان الدارمي (النص: 323): " ضعيف "، وفي رواية الدوري (النص: 1761) وجعفر بن أبان (كما في " المجروحين " 1/ 296): " ليس بشيء ".
الرازي: " ليس بالمتين، يكتب حديثه "(1)، وذكره أبو زرعة في " الضعفاء "(2)، وقال النسائي مرة:" ليس بالقوي "، ومرة:" ليس بثقة "(3)، وقال ابن حبان:" منكر الحديث جداً، يروي عن الثقات ما لا أصل له، وعن الضعفاء ما لا يعرف "(4).
فإن قلت: لم لم يحمل الخطأ فيه على ليث بن أبي سليم، فإنه كان مضطرب الحديث ليس بالقوي؟
قلت: قد رواه ليث من وجه صحيح إليه بما لا يحمل معه الوهم في رفعه، والإسناد إن قطع الطريق فيه دون الراوي الضعيف، وذلك بعلة دونه، فلا يجوز أن يكون الحمل بعدها عليه، إلا أن تكون العلة غير مسقطة، فيكون التعليل بضعف ذلك الراوي زائداً في ضعف الحديث.
تنبيه:
هذه الطرق ربما عرف بها أيضاً كذب الكذابين، ولكشفهم طرق تزيد على هذا ذكرتها في (الحديث الموضوع)، ولم أذكرها هنا؛ من أجل أن الكذب فسق يقدح في العدالة، لا في الحفظ، وهذا المقام إنما هو لبيان ما كان يتبعه النقاد لتمييز حفظ الراوي أو لينه.
* * *
(1) الجرح والتعديل (1/ 2 / 453).
(2)
رواية البرذعي (2/ 615).
(3)
نقله المزي في " تهذيب الكمال "(8/ 521).
(4)
المجروحين (1/ 296).