الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث:
تحرير عود ما يسلب الضبط
إلى سوء حفظ الراوي
يقع سلب الضبط عن الراوي بسبب سوء حفظه، سلباً كلياً أو جزئياً.
وهذا في الجملة قسمان:
أولهما: فساد الضبط إلى حد أن يكون الراوي متروك الحديث، وقد يكون علامة عند بعض النقاد على سوء الظن به، واتهامه بالكذب بما ينتقل به القدح إلى عدالته.
وثانيهما: اختلال الضبط جزئياً، فيثبت على الراوي الوهم في بعض ما يرويه، فإن كثر رجح به إلى جانب الرد دون القدح في أصل عدالته وصدقه، فيبقيه في إطار من يعتبر به عند الموافقة، وربما نزل به عن درجة المتقنين، دون النزول به عن درجة القبول، لكنه يكون في مرتبة دنيا منه.
وهذا قد يتميز منه أن سلب الضبط وقع للراوي في حال دون حال، وتميز ذلك من أمره، فهو مجروح به في الحال المتميز، عدل مقبول فيما سواه، كمن ضبط عن بعض الشيوخ دون آخرين، وكالمختلط فيما حدث به بعد اختلاطه وقبله.
وسوء الحفظ لا ينافي الصدق في الأصل.
ومراجعة إلى الغفلة وضعف تيقظ الراوي.
وتارة تكون الغفلة طبعاً فيه، وتارة عارضة لعدم الاعتناء بالمحفوظ، وتأثير عوارض أخرى عليه، كالاشتغال بالعبادة دون العلم، أو ترك بثه في أهله، أو الانشغال بالدنيا، أو تقدم السن، أو لغير ذلك.
وكثير من ذلك في المنسوبين للصلاح والتعبد، حتى ربما حدثوا بالموضوع والكذب، يجري على ألسنتهم دون تعمد، وربما كان أحدهم سمع بعض الحديث، فيحمل إسناد هذا على حديث هذا، وحديث هذا على إسناد هذا، ويحدث على التوهم عن الرجل بما ليس من حديثه، وربما ألصق كلاماً حسناً بإسناد معروف، ليس ذلك الإسناد من ذلك الكلام في شيء، وربما أدخل عليه ما ليس من حديثه وهو لا يعلم فيحدث به على أنه من حديثه، وهكذا.
لذا كان أبو الزناد عبد الله بن ذكوان يقول: " أدركت بالمدينة مئة، كلهم مأمون، ما يؤخذ عنهم الحديث، يقال: ليس من أهله "(1).
وكذلك قال مالك بن أنس: " لقد أدركت في هذا البلد _ يعني المدينة _ مشيخة، لهم فضل وصلاح وعبادة، يحدثون، ما سمعت من أحد منهم حديثاً قط "، قيل له: ولم يا أبا عبد الله؟ قال: " لم يكونوا يعرفون ما يحدثون ".
وعن حماد بن زيد: أن فرقداً (يعني السبخي) ذكر عند أيوب (يعني السختياني)، فقال:" لم يكن صاحب حديث، وكان متقشفاً، لا يقيد علماً، ذاك لون، والبصر بالعلم لون آخر ".
(1) هذا الأثر والآثار الثلاثة التالية كلُّها صحيحة، تقدم تخريجها في (المبحث الرابع) من مباحث (التعديل) عند بيان (معنى الضبط).
وقال عمرو الناقد: سأل رجل وكيعاً (يعني ابن الجراح)، قال: يا أبا سفيان، تعرف حديث سعيد بن عبيد الطائي عن الشعبي في رجل حج عن غيره، ثم حج عن نفسه؟ فقال:" من يرويه؟ "، قلت: وهب بن إسماعيل، قال:" ذاك رجل صالح، وللحديث رجال ".
وكان يحيى بن سعيد القطان يقول: " ما رأيت الكذب في أحد، أكثر منه فيمن ينسب إلى الخير ". وفي لفظ: " لم نر الصالحين في شيء أكذب منهم في الحديث "(1).
قال الإمام مسلم: " يجري الكذب على لسانهم، ولا يتعمدون الكذب "(2).
وعلل يحيى القطان نفسه مرة بعلة أخرى غير ما قاله مسلم، فقال:" لأنهم يكتبون عن كل من يلقون، لا تمييز لهم فيه "(3).
قلت: يعني يحيى أنهم يحدثون بالكذب الواقع من غير جهتهم، وكلا العلتين صحيحتان.
وكان يحيى القطان يقول كذلك: " رب صالح لو لم يحدث كان خيراً له، إنما هو أمانة، إنما هو تأدية، الأمانة في الذهب والفضة أيسر منه في الحديث "(4).
ومن أمثلته:
(ثابت بن محمد الزاهد)، قال ابن عدي: " هو ممن لا يتعمد
(1) أخرجه مسلم في " مقدمته "(1/ 17) وعبد الله بن أحمد في " العلل ومعرفة الرجال "(النص: 2988 _ 2990) والعُقيلي في " الضعفاء "(1/ 14) وابنُ عدي في " الكامل "(1/ 246) وابنُ حِبان في " المجروحين "(1/ 67) والحاكم في " المدخل إلى الإكليل "(ص: 54) والخطيب في " الجامع لأخلاق الراوي "(رقم: 167، 1607) وابنُ عبد البر في " التمهيد "(1/ 52) وإسناده صحيح.
(2)
مقدمة صحيح مُسلم (1/ 18).
(3)
أخرجه الخليلي في " الإرشاد "(1/ 171 _ 172) وإسناده جيد.
(4)
أخرجه الجوزجاني في " أحوال الرجال "(ص: 37) وإسناده صحيح.
الكذب، ولعله يخطئ، وفي أحاديثه ما يشتبه عليه فيرويه حسب ما يستحسنه، والزهاد والصالحون كثيراً ما يشتبه عليهم فيروونا على حسن نياتهم " (1).
و (رواد بن الجراح)، قال ابن عدي:" كان شيخاً صالحاً، وفي حديث الصالحين بعض النكرة "(2).
و (سلم بن ميمون الخواص)، قال ابن عدي:" روى عن جماعة ثقات ما لا يتابعه الثقات عليه: أسانيدها ومتونها "، ثم فسر فقال:" هو في عداد المتصوفة الكبار، وليس الحديث من عمله، ولعله كان يقصد أن يصيب فيخطئ في الإسناد والمتن؛ لأنه لم يكن من عمله "(3).
و (زكريا بن يحيى الوقار)، قال ابن عدي:" سمعت مشايخ أهل مصر يثنون عليه في باب العبادة والاجتهاد والفضل، وله حديث كثير، بعضها مستقيمة، وبعضها ما ذكرت وغير ما ذكرت موضوعات، وكان يتهم الوقار بوضعها؛ لأنه يروي عن قوم ثقات أحاديث موضوعات، والصالحون قد رسموا بهذا الرسم أن يرووا في فضائل الأعمال أحاديث موضوعة بواطيل، ويتهم جماعة منهم بوضعها "(4).
ومثال من كانت الغفلة طبعه، حتى ربما حدث بالكذب وهو لا يدري: ذاك الواسطي الذي أخبر بقصته الحافظ يزيد بن هارون، قال: " كان بواسط رجل يروي عن أنس بن مالك أحرفاً، ثم قيل: إنه أخرج كتاباً عن أنس، فأتيناه فقلنا له: هل عندك سوى تلك الأحرف؟ فقال: نعم، عندي كتاب عن أنس، فقلنا: أخرجه إلينا، فأخرجه إلينا، فنظرنا فيه، فإذا هي
(1) الكامل (2/ 301).
(2)
الكامل (4/ 120).
(3)
الكامل (4/ 350، 351).
(4)
الكامل (4/ 176).
أحاديثك شريك بن عبد الله النخعي، فجعل يقول: حدثنا أنس بن مالك، فقلنا له: هذه أحاديث شريك، فقال: صدقتم، حدثنا أنس بن مالك عن شريك "، قال: " فأفسد علينا تلك الأحرف التي سمعناها منه، وقمنا عنه " (1).
قلت: فهذا الشيخ إنما أتي من غفلته وجهله، فأين شريك من أنس، فأنس صحابي توفي سنة (92)، وشريك من أتباع التابعين ولد سنة (95) ، فكيف روى أنس عن شريك؟!
ومن هؤلاء (محاضر بن المورع)، قال أبو سعيد أحمد بن داود الحداد الواسطي (وكان ثقة):" محاضراً لا يحسن أن يصدق، فكيف يحسن أن يكذب! كنا نوقفه على الخطأ في كتابه، فإذا بلغ الموضوع أخطأ "(2).
وقال أحمد بن حنبل: " سمعت منه أحاديث، لم يكن من أصحاب الحديث، كان مغفلاً جداً "(3).
ومنهم: (عبد الله بن صالح كاتب الليث بن سعد)، قال أبو حاتم الرازي:" الأحاديث التي أخرجها أبو صالح في آخره عمره التي أنكروا عليه نرى أن هذا مما افتعل خالد بن نجيح، وكان أبو صالح يصحبه، وكان سليم الناحية، وكان خالد بن نجيح يفتعل الحديث ويضعفه في كتب الناس، ولم يكن وزن أبي صالح وزن الكذب، كان رجلاً صالحاً "(4).
ومنهم (سفيان بن وكيع بن الجراح)، قال أبو حاتم الرازي: " دخلت
(1) أخرجه ابنُ حبان في " المجروحين "(1/ 70 _ 71) بإسناد جيد، ونحوه في " المدخل إلى الإكليل " للحاكم (ص: 60).
(2)
سؤالات الآجري لأبي داود (النص: 126).
(3)
العلل ومعرفة الرجال (النص: 4110).
(4)
الجرح والتعديل (2/ 2 / 87).
الكوفة، فحضرني أصحاب الحديث، وقد تعلقوا بوراق سفيان بن وكيع، فقالوا: أفسدت علينا شيخنا وابن شيخنا، قال: فبعثت إلى سفيان بتلك الأحاديث التي أدخلها عليه وراقة يرجع عنها، فلم يرجع عنها، فتركته " (1).
وهذه الحال قد تبلغ بإنسان حد الترك لحديثه في نظر بعض الأئمة، وذلك بحسب أثر ذلك على ما روى، كما قال أبو بكر بن أبي شيبة في (مصعب بن سلام التميمي):" تركنا حديثه، وذلك أنه جعل يملي علينا عن شعبة أحاديث: حدثنا شعبة، حدثنا شعبة، فذهبت إلى وكيع فألقيتها عليه، قال: من حدثك بهذا؟ فقلت: شيخ ههنا، قال: هذه الأحاديث كلها حدثنا بها الحسن بن عمارة، فإذا الشيخ قد نسخ حديث الحسن بن عمارة في حديث شعبة "(2).
وهذا ذكر يحيى بن معين أنه قد رجع عنه (3)، لكنه ينبئ أن بعض النقلة لم يكن يميز، وهذا الرجل له حديث حسن من روايته عن غير شعبة إذ هو صدوق في الأصل، وما وقع منه من قلب فيما ذكروه من روايته عن شعبة أو الزبرقان السراج فإنه لا يسقطه جملة، إنما تبين أن ما حدث به عن غيرهما فيه المحفوظ، على أنه لا ينبغي أن يحتج به لذاته، بل يكتب حديثه للاعتبار.
ومن هؤلاء من لم يكن يفهم ما الحديث، فكان يؤتى من جهله:
قال أبو حاتم الرازي في (عقيل الجعدي): " منكر الحديث، ذاهب، ويشبه أن يكون أعرابياً، إذ روى عن الحسن البصري، قال: دخلت على سلمان الفارسي، فلا يحتاج أن يسأل عنه "(4).
(1) أخرجه الحاكم في " المدخل إلى الإكليل "(ص: 67) ومن طريقه: الخطيب في " الكفاية "(ص: 237)، ومعناه في " الجرح والتعديل "(2/ 1 / 231 _ 232).
(2)
معرفة الرجال، رواية ابن مُحرز (2/ 213).
(3)
انظر: سؤالات ابن الجنيد (النص: 253).
(4)
الجرح والتعديل (3/ 1 / 219).