الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
" ما كان حديثه بذاك، وما أكتب حديثه إلا للاعتبار والاستدلال، إنما قد أكتب حديث الرجل كأني أستدل به مع غيره يشده، لا أنه حجة إذا نفرد "(1).
فهذه العلة التي كانوا يكتبون لأجلها أحاديث المجروحين، موجودة كذلك فيما يخرج من الحديث في الكتب التي لا تشترط الصحة، دون بيان في أكثرها لعلة الحديث ولا لضعف أو وهاء راويه.
والمفترض أن لا يرد الإنسان من هذه الموارد إلا وهو يفهم ويميز ما يقبل وما لا يقبل.
والمراد أن يعلم هنا أن هذا ليس من أسباب الطعن المعتبرة على أحد من الرواة.
الصورة السادسة: الجرح والتدليس
.
التدليس جرح نسبي يقدح فيما حدث به الراوي مدلساً، أو مترجحاً فيه مظنة التدليس، على ما ستعلمه في مبحث (الحديث المدلس) من ألقاب (الحديث المردود).
ولا يكون وصف الراوي به مما يقدح في عدالته بمجرده، كما لا يكون منافياً لثقته، لأسباب بينتها في المبحث المشار إليه.
لذلك تجد أكثر من واقعه كانوا من الثقات المعروفين.
ولو جعلنا التدليس قادحاً، فإنه سيكون قادحاً في العدالة؛ لما فيه من معنى الغش، ولكن التأويل عند من فعله حال دون الجرح به.
ومن النقاد من جعل الإكثار من التدليس، وفحش ما يأتي به الراوي المدلس من المنكرات مما يكون قد سمعه من كذاب أو مجهول فدلسه،
(1) شرح علل الترمذي، لابن رجب الحنبلي (1/ 91).
ملحقاً الضرر بذلك المدلس، فيجعل علة جرحه عنده تلك المنكرات التي رواها.
كما جرح بقية بن الوليد عند طائفة من العلماء بذلك، حتى أسقط بعضهم عامة حديثه.
وكما قال محمد بن عبد الله بن نمير في (أبي جناب يحيى بن أبي حية الكلبي): " صدوق، كان صاحب تدليس، أفسد حديثه بالتدليس، كان يحدث بما لم يسمع "(1).
قلت: وهذا وافقه فيه كثيرون، لكن أبو جناب، في تتبعي، وجدت عامة ما يفسرون به ضعفه هو التدليس، ووصفه بالصدق جماعة من النقاد، والقول فيه ما قاله أبو نعيم الفضل بن دكين وقد أدركه وروى عنه:" ما كان به بأس، إلا أنه كان يدلس، وما سمعت منه شيئاً إلا شيئاً قال فيه: حدثنا "(2)، وقال أبو زرعة الرازي:" صدوق، غير أنه كان يدلس "(3).
وأدخل ابن عدي جماعة من الرواة في " الكامل " ليس فيهم قادح سوى التدليس، ولم يورد آخرين عرفوا به، وكأنه حين رأى أولئك الذين أو دعهم كتابه قد جرحهم بعض من تقدمه تبعهم في ذكرهم في المجروحين.
ومن أمثلتهم (ميمون بن موسى المرئي البصري) يروي عن الحسن البصري، وقد روى عنه يحيى القطان وغيره، لم يجرح بشيء غير التدليس مع قلة حديثه، وخشية أن يظن رد حديثه مطلقاً قال ابن عدي:" إذا قال: حدثنا، فهو صدوق؛ لأنه كان متهماً في التدليس "(4).
والوقوف على تحرير هذا السبب من الجرح في الموصوف به، يدفع
(1) الجرح والتعديل (4/ 2 / 138).
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل "(4/ 2 / 138) وإسناده صحيح.
(3)
الجرح والتعديل (4/ 2 / 139).
(4)
الكامل (8/ 162).
التهمة عن بعض الرواة ممن اختلف فيهم، يعود الجرح فيهم إلى هذا السبب، فإذا تبين لم يصلح معه رد قول المعدل في حال بيان هذا الراوي سماعه للخبر.
وليس من ذلك ما علل به ابن حبان مجيء الموضوعات في روايات الحسن بن عمارة، إذ حمله على مجرد التدليس، وأن شعبة طعن عليه لأنه لم يتبين ذلك، حيث قال ابن حبان:" كان بلية الحسن بن عمارة أنه كان يدلس عن الثقات ما وضع عليهم الضعفاء، كان يسمع من موسى بن مطير، وأبي العطوف، وأبان بن أبي عياش، وأضرابهم، ثم يسقط أسماءهم ويرويها عن مشايخهم الثقات، فلما رأى شعبة تلك الأحاديث الموضوعة التي يرويها عن أقوام ثقات أنكرها عليه، وأطلق عليه الجرح، ولم يعلم أن بينه وبينهم هؤلاء الكذابين، فكان الحسن بن عمارة هو الجاني على نفسه بتدليس عن هؤلاء وإسقاطهم من الأخبار، حتى التزق الموضوعات به "(1).
فهذا الذي أعاد إليه ابن حبان جرح شعبة للحسن وأن شعبة لم يتفطن له، غير صحيح، إلا أن يكون الحسن بن عمارة كان يقول في تلك الأحاديث المدلسة (سمعت)، كما يوجد بعض ذلك فيما أثر عن شعبة أنه طعن على الحسن بسببه.
والتحقيق أن عبارات النقاد في ابن عمارة لم تبن على ما ذكره ابن حبان، فإنه يوجد في الموصوفين بالثقة من كان يدلس المتهمين ويعنعن عن شيوخهم، ولم يطعن عليه بمثل ما طعن على ابن عمارة وفيهم من روى عنه شعبة نفسه، وإنما قام الطعن على ابن عمار على وهائه في نفسه من جهته، وقد قال علي بن المديني:" ما أحتاج إلى شعبة فيه، أمر الحسن بن عمارة أبين من ذلك "، قيل: أكان يغلط؟ فقال: كان يغلط؟! أي شيء يغلط؟ " وذهب إلى أنه كان يضع الحديث (2).
(1) المجروحين (1/ 229).
(2)
أخرجه الخطيب في " تاريخه "(7/ 349) وإسناده صحيح.