الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وتضاربت فيه مذاهب أهل الحديث، بين قبول حديث الموصوف به ورده، أو قبوله في حال ورده في حال.
وإنما دخل الإشكال على من ذهب إلى القدح بذلك أن البدعة خلل في الدين، وذلك موجب للقدح في العدالة.
قال سلام بن أبي مطيع: بلغ أيوب (يعني السختياني) أني آتي عمراً (يعني ابن عبيد)(1)، فأقبل علي يوماً، فقال:" أرأيت رجلاً لا تأمنه على دينه، كيف تأمنه على الحديث "(2).
وقال ابن حبان: " إن الداعي إلى مذهبه والذاب عنه حتى يصير إماماً فيه، وإن كان ثقة، ثم روينا عنه، جعلنا للاتباع لمذهبه طريقاً، وسوغنا للمتعلم الاعتماد عليه وعلى قوله "(3).
وتحرير القول في حديث المبتدع في بيان مذاهب علماء السلف.
مذاهب أهل العلم في رد حديث أهل البدع أو قبوله:
هي محصورة في أربعة مذاهب:
المذهب الأول: ترك حديثهم مطلقاً، أي: البدعة جرحة مسقط للعدالة.
وعليه يتنزل نصوص طائفة من الأئمة:
(1) وهوَ من رءوس القدرية.
(2)
مقدمة صحيح مسلم (1/ 23) بإسناد صحيح.
(3)
الإحسان في تقريب صحيح ابنِ حبان (1/ 160).
فعن محمد بن سيرين، قال:" كان في الزمن الأول لا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة سألوا عن الإسناد؛ لكي يأخذوا حديث أهل السنة، ويدعوا حديث أهل البدع "(1).
وعن مالك بن أنس، قال:" لقد تركت جماعة من أهل المدينة ما أخذت عنهم من العلم شيئاً، وإنهم لممن يؤخذ عنهم العلم، وكانوا أصنافاً: فمنهم من كان كذاباً في غير علمه، تركته لكذبه، ومنهم من كان جاهلاً بما عنده، فلم يكن عندي موضعاً للأخذ عنه لجهله، ومنهم من كان يدين برأي سوء "(2).
المذهب الثاني: التفريق بحسب شدة البدعة وخفتها في نفسها، وبحسب الغلو فيها أو عدمه بالنسبة إلى صاحبها.
قال أحمد بن حنبل: " احتملوا المرجئة في الحديث "(3).
وقال إبراهيم الحربي: حدثنا أحمد يوماً عن أبي قطن (يعني عمرو بن الهيثم)، فقال له رجل: إن هذا بعدما رجع من عندكم إلى البصرة تكلم
(1) أثرٌ صحيح. أخرجه مُسلم في " مُقدمة صحيحه "(1/ 15) والترمذي في (العلل) آخر كتاب " الجامع "(6/ 231) والجوزجاني في " أحوال الرجال "(ص: 35 _ 36) وعبد الله بن أحمد في " العلل "(النص: 3640) وابنُ أبي حاتم في " الجرح والتعديل "(1/ 1 / 28) والرامهرمزي في " المحدث الفاصل "(ص: 208 _ 209) والعُقيلي في " الضعفاء "(1/ 10) وابنُ عدي في " الكامل "(1/ 214) وابنُ حبان في " المجروحين "(1/ 82) والخطيب في " الكفاية "(ص: 197) من طريق إسماعيل بن زكريا الخُلقانيِّ، عن عاصم الأحوال، عن ابن سيرين، به. وإسناده جيد.
وعدَّه يحيى بن معين في " تاريخه "(النص: 2115) مما تفرد به إسماعيل. لكن أخرجه بمعناه: الخطيب في " الكفاية "(ص: 197) من طريق مُحمد بن حميد، قال: حدثنا جرير (يعني ابنَ عبد الحميد)، عن عاصم. غيرَ أن هذه متابعةٌ لا يُركن إليها ولا يُتعقب بها؛ لأنَّ ابنَ حُميد هو الرازي ضعيف جدًّا.
(2)
أخرجه ابنُ عبد البرِّ في " التمهيد "(1/ 65) بإسناد صحيح.
(3)
سؤالات أبي داود (النص: 136).
بالقدر وناظر عليه، فقال أحمد:" نحن نحدث عن القدرية، لو فتشت أهل البصرة وجدت ثلثهم قدرية "(1).
وأحمد شدد في حديث الجهمية لغلظ بدعتهم، وتوسط في القدرية، فقبل من لم يكن داعية، وسهل في المرجئة، قال ابن رجب الحنبلي:" فيخرج من هذا: أن البدع الغليظة كالتجهم يرد بها الرواية مطلقاً، والمتوسطة كالقدر إنما يرد رواية الداعي إليها، والخفيفة كالإرجاء، هل يقبل معها الرواية مطلقاً، أو يرد عن الداعية؟ على روايتين "(2).
وقال مسلم بن الحجاج: " الواجب على كل أحد عرف التمييز بين صحيح الروايات وسقيمها، وثقات الناقلين لها من المتهمين، أن لا يروي منها إلا ما عرف صحة مخارجه والستارة في ناقليه، وأن يتقي منها ما كان منها عن أهل التهم، والمعاندين من أهل البدع "(3).
المذهب الثالث: التفريق بين الداعي إلى بدعته، وغير الداعي، فيرد الأول، ويقبل الثاني.
قال الحاكم: " الداعي إلى البدعة لا يكتب عنه ولا كرامة؛ لإجماع جماعة من أئمة المسلمين على تركه "(4).
هذا منقول عن عبد الله بن المبارك، وعبد الرحمن بن مهدي، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين (5).
قال نعيم بن حماد: سمعت ابن المبارك وقيل له: تركت عمرو بن
(1) أخرجه الخطيب في " تاريخه "(12/ 200) وإسناده حَسنٌ.
(2)
شرح علل الترمذي (1/ 56)، والرواية الأولى عن أحمد في المرجئة في القبول مُطلقاً هي التي ذكرْت، وأما الثانية فتأتي في المذهب الثالث.
(3)
مُقدمة صحيح مُسلم (ص: 8).
(4)
مَعرفة علوم الحديث (ص: 16).
(5)
الكفاية، للخطيب (ص: 203 _ 205).
عبيد وتحدث عن هشام الدستوائي وسعيد وفلان، وهم كانوا في عداده، قال:" إن عمراً كان يدعو "(1).
كما روى نعيم، قال: قلت لا بن المبارك: لأي شيء تركوا عمرو بن عبيد؟ قال: " إن عمراً كان يدعو " يعني إلى القدر (2).
وقال عبد الرحمن بن مهدي: " من رأى رأياً ولم يدع إليه احتمل، ومن رأى رأياً ودعا إليه فقد استحق الترك "(3).
وقال: " ثلاثة لا يحمل عنهم: الرجل المتهم بالكذب، والرجل الكثير الوهم والغلط، ورجل صاحب الهوى يدعو إلى بدعة "(4).
وقال محمد بن عبد العزيز الأبيوردي (من أصحاب أحمد)" سألت أحمد بن حنبل: أيكتب عن المرجئ والقدري؟ قال: " نعم، يكتب عنه إذا لم يكن داعياً " (5).
وكذلك قال أبو داود السجستاني: قلت لأحمد بن حنبل: يكتب عن القدري؟ قال: " إذا لم يكن داعياً "(6).
(1) الضعفاء، للعقيلي (3/ 277) _ ومن طريقه: الخطيب في " الكفاية "(ص: 203 _ 204) _ بإسناد صالح، نُعيم صدوق في الأصل، ليس بالقوي في الحديث، لكن هذا مما يُحتمل منه، خصوصاً وقد أخذه من في ابن المبارك، لم يحتج معه إلى إسناد. وروى معناه عن ابن المبارك كذلك عليُّ بن الحسن بن شقيق. أخرجه الخطيب في " الكفاية " (ص: 203) وإسناده صحيح.
ورَوى ابنُ عدي (1/ 257) ومن طريقه: الخطيب في " الكفاية "(ص 227) عن عبد الله بن المبارك قال: " يُكتب الحديث إلا عن أربعة: غلَاّط لا يَرْجع، وكذَّاب، وصاحب هوى يدْعو إلى بدعته، ورجلٍ لا يحفظ فيُحدثُ من حفظه ".
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في " التقدمة "(ص: 273) وإسناده صالح.
(3)
أخرجه الخطيب في " الكفاية "(ص: 203) وإسناده صحيح.
(4)
أخرجه عبد الله بن أحمد في " العلل "(النص: 4947) وعنه: العُقيلي (1/ 8) وإسناده صحيح.
(5)
أخرجه الخطيب في " الكفاية "(ص: 204 _ 205).
(6)
سؤالات أبي داود لأحمد بن حنبل (النص: 135) والكفاية، للخطيب (ص: 205).
وقال أبو بكر المروذي: " كان أبو عبد الله (يعني أحمد) يحدث عن المرجئ إذا لم يكن داعية أو مخاصماً "(1).
وقال جعفر بن محمد بن أبان الحراني: قلت لأحمد بن حنبل: فنكتب عن المرجئ والقدري وغيرهما من أهل الأهواء؟ قال: " نعم، إذا لم يكن يدعو إليه ويكثر الكلام فيه، فأما إذا كان داعياً فلا "(2).
وسئل أحمد بن حنبل: عمن يكتب العلم؟ فقال: " عن الناس كلهم، إلا عن ثلاثة: صاحب هوى يدعو الناس إليه، أو كذاب، فإنه لا يكتب عنه قليل ولا كثير، أو عن رجل يغلط فيرد عليه فلا يقبل "(3).
قلت: عبارات أحمد في ذلك جاءت بالتشديد في أمر الداعية، في الكتابة عنه، وليس في تخريج حديثه مطلقاً، والفرق بين الصورتين: أنه عرف من منهج أحمد التشديد على المخالفين في الأصول، والكتابة عن أحدهم تحسين لأمره عند من لا يعرفه، وتغريد للناس به، فكان يشدد في أمر هؤلاء تنفيراً للناس عنهم، وهذا إنما يؤثر في حق الأحياء يقصد الراوي أن يحمل عن أحدهم الحديث، أما الأموات الذين لم يعرف الناس من أمرهم إلا ما خلفوه من علم أو رواية، فهؤلاء خرج أحمد من حديثهم الكثير في كتبه، من شتى طوائف أهل القبلة، وفيهم من كان غالياً، ولا يبعد أن يكون داعية.
ولذا قال إبراهيم الحربي: قيل لأحمد بن حنبل: في حديثك أسماء قوم من القدرية، فقال:" هو ذا نحن نحدث عن القدرية "(4).
وقال عباس الدوري: سمعت يحيى (يعني ابن معين) يقول: " ما كتبت
(1) العلل رواية المروذي (النص: 213).
(2)
أخرجه ابنُ حبان في " المجروحين "(1/ 82) وإسناده صحيح.
(3)
أخرجه الخطيب في " الكفاية "(ص: 228) وإسناده صحيح.
(4)
أخرجه الخطيب في " الكفاية "(ص: 206) وإسناده صحيح.
عن عباد بن صهيب "، قلت: هكذا تقول في كل داعية: لا يكتب حديثه إن كان قدرياً أو رافضياً أو غير ذلك من أهل الأهواء من هو داعية؟ قال: " لا يكتب عنهم، إلا أن يكونوا ممن يظن به ذلك ولا يدعوا إليه، كهشام الدستوائي وغيره ممن يرى القدر ولا يدعو إليه " (1).
وقال أحمد بن محمد الحضرمي: سألت يحيى بن معين عن عمرو بن عبيد؟ فقال: " لا تكتب حديثه "، فقلت له: كان يكذب؟ فقال: " كان داعية إلى دينه "، فقلت له: فلم وثقت قتادة وسعيد بن أبي عروبة وسلام بن مسكين؟ فقال: " كانوا يصدقون في حديثهم، ولم يكونوا يدعون إلى بدعة "(2).
وقال ابن حبان: " والدعاة يجب مجانبة رواياتهم على الأحوال، فمن انتحل نحلة بدعة ولم يدع إليها، وكان متقناً، كان جائز الشهادة، محتجاً بروايته "(3).
وقال: " الاحتياط ترك رواية الأئمة الداعين منهم، والاحتجاج بالرواة الثقات منهم "(4).
ويبين الحافظ الخطيب السبب في هذا المذهب، فيقول:" إنما منعوا أن يكتب عن الدعاة؛ خوفاً أن تحملهم الدعوة إلى البدعة والترغيب فيه على وضع ما يحسنها "(5).
(1) تاريخ يحيى بن معين (النص: 3581)، ومن طريقه: الخطيب في " الكفاية "(ص: 204).
(2)
الضعفاء، للعُقيلي (3/ 281)، ولم أقف على حالِ الحضرمي ولا الراوي عنه شيخ العقيلي محمد بن عبد الحميد السَّهمي، وهو إسنادٌ نقل به العقيلي طائفة من السؤالات ليحيى بن مَعين.
(3)
الثقات (6/ 284).
(4)
الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان (1/ 160).
(5)
الكفاية (ص: 205).
قلت: وهذا تعليل معتبر في حل راو لم يعرف بالصدق، أما من ثبت صدقه وعرفت أمانته، وكان يذهب إلى شيء من تلك المذاهب بتأويل، وكان ينتصر إلى مذهبه ذلك، فهذا مراد كذلك في قول هؤلاء الأئمة، لكن لا يتنزل عليه تعليل الخطيب.
والذي يتحرر من إمعان النظر في هذا المذهب أنه مذهب نظري اليوم في شأن رواة الحديث، وذلك أن أمر الدعوة إلى البدعة مما لا يمكن حصره وضبطه، والكلام في رواة الحديث فد فرغ منه، وصارت العمدة في معرفة أحوال الرواة على ما بلغنا من أخبارهم، والمتأمل يجد في تلك الأخبار وصف عدد غير قليل من الرواة بالبدعة، لكن يندر فيهم من يمكن القول: إنه كان داعية، نعم؛ وصف طائفة بالغلو، إلا أنه لا يعني بالضرورة كون الموصوف بذلك داعية إليها.
المذهب الرابع: عدم اعتبار البدعة جرحاً مسقطاً لحديث الراوي، لما تقوم عليه من التأويل، وإنما العبرة بالحفظ والإتقان والصدق، والسلامة من الفسق والكذب.
وعلى هذا في التحقيق يتنزل مذهب من ذهب من كبار الأئمة إلى أن البدعة لا تمنع قبول حديثهم، إلا من كان يستحل الكذب.
وهذا هو منقول من مذهب أبي حنيفة وصاحبه أبي يوسف وسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، والشافعي (1).
قال سفيان بن عيينة: " حدثنا عبد الملك بن أعين، وكان شيعياً، وكان عندنا رافضياً صاحب رأي "(2).
(1) انظر: الكفاية للخطيب (ص: 202 _ 203)، كشْف الأسرار عن أصول البَزدوي (3/ 26 _ 27)، وحكى الخطيب (ص: 194) عن الشافعي أنه قال: " وتُقبل شهادةُ أهْل الأهواء، إلا الخطابية من الرافضة؛ لأنهم يروْنَ الشهادة بالزور لموافقهم "، وأسند البيهقي في " السنن "(10/ 208 _ 209) معناه.
(2)
أخرجه الخطيب في " الكفاية "(ص: 151) وإسناده صحيح.
قال ابن دقيق العيد: " والذي تقرر عندنا: أنه لا تعتبر المذاهب في الرواية، إذ لا نكفر أحداً من أهل القبلة إلا بإنكار متواتر من الشريعة، فإذا اعتقدنا ذلك، وانضم إليه التقوى والورع والضبط والخوف من الله تعالى، فقد حصل معتمد الرواية "(1).
وهو قول يحيى بن سعيد القطان، وعلي بن المديني، ومحمد بن عمار الموصلي، وإليه مال الخطيب البغدادي (2).
قال علي بن المديني: قلت ليحيى (يعني القطان)" إن عبد الرحمن (يعني ابن مهدي) يقول: اترك من كان رأساً في البدعة يدعو إليها، قال: " كيف نصنع بقتادة وابن أبي رواد وعمر بن ذر؟! " وذكر قوماً، قال يحيى: " إن ترك هذا الصنف ترك ناساً كثيراً " (3).
قلت: يرد يحيى مذهب ابن مهدي، بل مقتضى قوله أن يكون من سماهم ممن يندرج تحت رأي ابن مهدي، وهو يحل الاستشكال الذي نراه: ما هو حد الداعية من غيره؟ فهذا يحيى القطان يرى قتادة ومن ذكره معه من الدعاة، وإلا لما صح له الاستدراك على ابن مهدي بذكرهم، وهم من ثقات الناس ومتقنيهم وعليهم مدار كثير من الحديث.
يقابله ما نقله محمد بن عثمان بن أبي شيبة، قال: قلت لعلي بن عبد الله المديني: يا أبا الحسن، إن يحيى بن معين ذكر لنا: أن مشايخ من البصريين كانوا يمرمون بالقدر، إلا أنهم لا يدعون إليه، ولا يأتون في حديثهم بشيء منكر، منهم: قتادة، وهشام صاحب الدستوائي، وسعيد بن
(1) الاقتراح في بيان الاصْطلاح (ص: 333 _ 334) وابنُ دقيق وإن صار إلى ترك الرواية عن المبتدع الداعية، إلا أنه جعل ذلك من أجل الإهانة له والإخماد لبدعته، وإن لم نَجد ما رَوى موجوداً من غير طريقه قبلْناه تقديماً لمصْلحة حفظ الحديث.
(2)
الكفاية (ص: 200 _ 201).
(3)
أخرجه أبو القاسم البَغوي في " الجعديات "(رقم: 1093) والعُقيلي في " الضعفاء "(ق: 1 / ب) وإسناده صحيح.
أبي عروبة، وأبو هلال، وعبد الوارث، وسلام (1)، كانوا ثقات، يكتب حديثهم، فماتوا وهم يرون القدر، ولم يرجعوا عنه، فقال لي علي، رحمه الله:" أبو زكريا كذا كان يقول عندنا، إلا أن أصحابنا ذكروا أن هشام الدستوائي رجع قبل موته، ولم يصح ذلك عندنا "(2).
قلت: ففي هذا نفي أن يكون قتادة داعية إلى بدعته، لكن فيه تثبيت أن جميع هؤلاء كانوا يذكرون بالبدعة، ويحيى اعتبر في ثقتهم أمرين: عدم الدعوة إلى البدعة، مع الحفظ والإتقان.
وهذا عبد الرحمن بن مهدي قد ترك بعض الرواة لأجل البدعة، ثم حدث عنهم قبل موته:
فقد قال ابن أخته الحافظ أبو بكر بن أبي الأسود: كان خالي عبد الرحمن بن مهدي يترك الحديث عن الحسن بن أبي جعفر الجفري وعثمان بن صهيب وغيرهما من أهل القدر؛ للمذهب، والضعف، فلما كن بأخرة حدث عنهم، وخرجهم في تصانيفه، فقلت: يا خال، أليس قد كنت أمسكت عن الرواية عن هؤلاء؟ فقال:" نعم، لكن خفت أن يخاصموني بين يدي ربي فيقولون: يا رب، سل عبد الرحمن: لم أسقط عدالتنا؟ "(3).
وقد سئل الحافظ محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي عن (علي بن غراب)، فقال:" كان صاحب حديث بصيراً به " فقيل له: أليس هو ضعيفاً؟ قال: " إنه كان يتشيع، ولست أنا بتارك الرواية عن رجل صاحب حديث يبصر الحديث بعد أن لا يكون كذوباً للتشيع أو القدر، ولست براو عن رجل لا يبصر الحديث ولا يعقله ولو كان أفضل من فتح _ يعني الموصلي _ "(4).
(1) أبو هلال اسمُه مُحمد بن سُليم الراسبي، وعبْد الوارث هوَ ابنُ سعيد، وسلَاّم هوَ ابنُ مسكين.
(2)
سؤالات ابن أبي شيبة (ص: 45 _ 46).
(3)
سؤالات السلمي للدارقطني (النص: 241) بإسناد صحيح.
(4)
أخرجه الخطيب في " الكفاية "(ص: 207) وإسناده صحيح.
وسئل الحافظ أبو عبد الله محمد بن يعقوب الأخرم عن (الفضل بن محمد الشعراني)، فقال:" صدوق في الروية، إلا أنه كان من الغالين في التشيع " قيل له: فقد حدثت عنه في " الصحيح " فقال: " لأن كتاب أستاذي ملآن من حديث الشيعة " يعني مسلم بن الحجاج (1).
وفي " صحيح البخاري " عن جمع كبير من المنسوبين إلى البدع.
فهؤلاء الأعيان قدوة الناس في هذا الفن، وممن إليهم المرجع فيه.
وقال ابن حزم: " من أقدم على ما يعتقده حلالاً، فما لم يقم عليه في تحريمه حجة، فهو معذور مأجور وإن كان مخطئاً، وأهل الأهواء معتزليهم ومرجئيهم وزيديهم وإباضيهم بهذه الصفة، إلا من أخرجه هواه عن الإسلام إلى كفر متفق على أنه كفر، أو من قامت عليه حجة من نص أو إجماع فتمادى ولم يرجع فهو فاسق "(2).
قلت: ومن أمثلة ما يتنزل عليه هذا المذهب وهم ثقات محتج بهم:
1 _
عبد الله بن أبي نجيح.
قال علي بن المديني: " أما الحديث فهو فيه ثقة، وأما الرأي فكان قدرياً معتزلياً "(3).
وقال يحيى بن معين: " كان ابن أبي نجيح من رؤساء الدعاة "(4).
2 _
خالد بن مخلد.
قال الجوزجاني: " كان شتاماً معلناً بسوء مذهبه "(5).
(1) أخرجه الخطيب في " الكفاية "(ص: 208) وإسناده صحيح.
(2)
الإحكام في أصول الأحكام (1/ 149).
(3)
سؤالات ابن أبي شيبة (النص: 99).
(4)
نقله عنه ابن أبي خيثمة في " تاريخه "(ص: 335 _ تاريخ المكيين).
(5)
أحوال الرجال (النص: 108) قلت: ولا يصحُّ أن يُقبل جرح الجوزجاني فيمن فيه تشيُّع؛ لِما اتُّهم به من النصب.
3 _
سالم بن عجلان الأفطس:
قال الجوزجاني: " كان يخاصم في الإرجاء، داعية، وهو متماسك "(1).
4 _
عبد الرحمن بن صالح الأزدي.
قال يعقوب بن يوسف المطوعي (وكان ثقة): كان عبد الرحمن بن صالح الأزدي رافضياً، وكان يغشى أحمد بن حنبل، فيقربه ويدنيه، فقيل له: يا أبا عبد الله، عبد الرحمن رافضي، فقال:" سبحان الله! رجل أحب قوما من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم نقول له: لا تحبهم؟! هو ثقة "(2).
وكان يحيى بن معين يعلم تشيعه، بل نعته بذلك، ومع فقد كتب حديثه وروى عنه، ووثقه، وكذلك وثقه غيره (3).
مع أن أبا داود السجستاني قال: " لم أر أن أكتب عنه، وضع كتاب مثالب في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم "(4).
5 _
عمران بن حطان.
قال أبو داود السجستاني: " ليس في أهل الأهواء أصح حديثاً من الخوارج " ثم ذكر عمران بن حطان، وأبا حسان الأعرج (5).
6 _
عباد بن يعقوب الرواجني.
وشأنه في الغلو في الرفض والدعوة إليه مشهور، ومن أبينه ما حكاه الثقة المتقن القاسم بن زكريا المطرز، قال:
وردت الكوفة، وكتبت عن شيوخها كلهم غير عباد بن يعقوب، فلما
(1) أحوال الرجال (النص: 327).
(2)
أخرجه الخطيب في " تاريخه "(10/ 262) وإسناده صحيح.
(3)
انظر ترجمته في: تاريخ بغداد (10/ 261 _ 263) وتهذيب الكمال (17/ 177 _ 182).
(4)
سؤالات الآجري (النص: 1922)، وعن الحافظ موسى بن هارون الحمَّال بمعنى هذا، قال:" كانَ يحدث بمثالبِ أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه "(تاريخ بغداد 10/ 263).
(5)
سؤالات الآجري (النص: 1296) ومن طريقه: الخطيب في " الكفاية "(ص: 207).
فرغت ممن سواه دخلت عليه، وكان يمتحن من يسمع منه، فقال لي: من حفر البحر؟ فقلت: الله خلق البحر، فقال: هو كذلك، ولكن من حفره، فقلت: يذكر الشيخ، فقال: حفره علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، ثم قال: من أجراه؟ فقلت: الله، مجري الأنهار، ومنبع العيون، فقال: هو كذلك، ولكن من أجرى البحر؟ فقلت: يفيدني الشيخ، فقال: أجراه الحسين بن علي، (وذكر تمام القصة)(1).
وجاء أنه كان يشتم عثمان بن عفان، رضي الله عنه، وقال ابن حبان:" كان رافضياً داعية إلى الرفض "(2).
قلت: ومع ذلك فخرج حديثه البخاري في " الصحيح "، وحكم بثقته غير واحد.
7 _
الحسين بن الحسن الأشقر.
قال ابن الجنيد عن يحيى بن معين: " كان من الشيعة المغلية الكبار "، قلت: فكيف حديثه؟ قال: " لا بأس به "، قلت: صدوق؟ قال: " نعم، كتبت عنه "(3).
قلت: فهذه المناهج لهؤلاء الأعلام من أئمة الحديث صريحة في عدم الاعتداد بالبدعة قادحاً في العدالة، ومن أجل هذا جرت ألفاظهم بالتعديل لهؤلاء الرواة مع ما عرفوا به من البدعة.
والتأويل بالبدع أوسع منه في المعاصي؛ لأن وجه المخالفة بها للشرع خفي، فإذا كنا عذرنا بالمخالفة تأويلاً في المنهيات الصريحة في الشرع كقتل المسلم، كالذي حصل بين الصحابة، فالعذر فيما كان وجه
(1) أخرجها الخطيب في " الكفاية "(ص: 209) بإسناد جيد.
(2)
المجروحين (2/ 172).
(3)
سؤالات ابن الجنيد (النص: 674) ومن طريقه: الخطيب في " الكفاية "(ص: 208).
المخالفة في خفياً أولى، وإنما تكون العبرة بالصدق والإتقان، فإذا ثبت فحديثه مقبول.
قال ابن جرير الطبري: " لو كان كل من ادعي عليه مذهب من المذاهب الرديئة ثبت عليه ما ادعي به، وسقطت عدالته وبطلت شهادته بذلك؛ للزم ترك أكثر محدثي الأمصار؛ لأنه ما منهم إلا وقد نسبه قوم إلى ما يرغب به عنه "(1).
قلت: وإنما يخرج من هذا التأصيل: من كان من الرواة طعن عليه لبدعته وحديثه جيمعاً، فهذا مجروح من أجل حديثه، وذلك مثل: جابر الجعفي، وعمرو بن عبيد البصري.
قال سفيان بن عيينة: " كان الناس يحملون عن جابر قبل أن يظهر ما أظهر، فلما أظهر ما أظهر اتهمه الناس في حديثه، وتركه بعض الناس " فقيل له: " وما أظهر؟ قال: " الإيمان بالرجعة " (2).
قلت: فكأن سفيان جعل اتهامه في حديثه من أجل بدعته، والواقع أنه لا تلازم بينهما، لجواز أن يكون صاحب بدعة صدوقاً، كما تقدمت له أمثلة، وإنما المعنى أنه بعدما ظهرت منه هذه العقيدة ظهر منه في روايته ما اتهم فيه.
وكذلك القول في عمر بن عبيد، مع ظهور الفسق وضعف التأويل في بعض ما جاء عنه، فقد تكلم بما لا يحتمل (3).
(1) هدي الساري، للحافظ ابن حجر (ص: 428).
(2)
أخرجه مُسلمٌ في " مُقدمته "(ص: 20) والعُقيلي في " الضعفاء "(1/ 194) وإسناده صحيح. وأما تفسير الرجْعة، فأحسن شيء يُبيَّن ذلك ما حكاه سُفيان بنُ عيينة نفسُه قال:" إن الرافضة تقول: إنَّ علياًّ في السحاب، فلا نَخرج مع مَن خرج من ولده حتى يُنادي مُنادٍ من السماء: اخرجوا معَ فلانٍ "، وحكى عن جابر الجُعفي في قوله تعالى {فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي} [يوسف: 80] قال: لم يجئ تأويلها. قال سُفيان: كذب. أخرجه مسلم في " مُقدمته "(ص: 21) وابنُ عدي (2/ 331) بإسناد صحيح إلى سُفيان.
(3)
انظر ترجمته، وللدارقطني جُزءُ " أخبار عَمرو بن عبيد " نَشره المستشرقون (! ).
ولا ريبة أن كثير من أهل البدع نصروا مذاهبهم برواية النكرات إسناداً ومتناً، وجماعات منهم عرفوا بوضع الحديث لأجل ذلك.
وهو المعنى الذي خافه من شدد فرد أحاديث أهل البدع.
لكن مادامت الخشية محصورة في كون صاحب البدعة قد تدفعه بدعته إلى المجيء بالمنكرات من الروايات نصرة لتلك البدعة، فالأمر إذاً عائد إلى القول في روايته، فإذاً تحرر لنا صدقه، وسلامة روايته من النكارة، فقد ذهب المحذور.
فمن قال من المتأخرين: إذا روى صاحب البدعة ما تعتضد به بدعته رد، وإن روى غير ذلك قبل.
فهذا مذهب وإن تداولته كتب علوم الحديث فليس صواباً؛ لأن قبول روايته حيث قبلناها فإنما حصل لأجل كونه بريئاً من الكذب معروفاً بالصدق والأمانة، فإذا صرنا إلى رد حديثه عند روايته ما تعتضد به بدعته فقد اتهمناه، وهذا تناقض، مع ملاحظته أن من ذهب مذهباً كان أحرص من غيره على حفظ ما يقوي مذهبه، فينبغي أن يقال: حفظ وأتقن؛ لأن داعية الإتقان متوفرة فيه، فيكون هذا مرجحاً لقبول تلك الرواية ما دام موصوفاً بالصدق.
وعلى مظنة أن تدعو البدعة إلى الكذب في الرواية من معروف بالصدق، فهذا لا ينحصر في البدعة، فإن الهوى يكون في غيرها أيضاً.
وأما إطلاق القول بتكذيب طائفة من أهل البدع على التعيين، كقول يزيد بن هارون:" لا يكتب عن الرافضة؛ فإنهم يكذبون "(1)، فهذا مما يجري على غالب من أدرك يزيد ورأى من هؤلاء، وأن يكون أراد غلاتهم، غير أن واقع الأمر أن طائفة من الرواة وصفوا من قبل بعض النقاد بالرفض، كانوا من أهل الصدق، روى الأئمة عنهم الحديث وأثنوا عليهم، كما مثلت هنا بجماعة منهم.
(1) أخرجه ابنُ أبي حاتم في " الجرح والتعديل "(1/ 1 / 28) وإسناده صحيح.