الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وذلك أني وجدتهم يعنون بتلك العبارة: يسنده إلى من فوقه، وذلك أحد رواة الخبر.
مثل: ما حدث به موسى بن مسلم الحِزامي، قال سمعت عكرمة يرفع الحديث فيما أرى إلى ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من ترك الحيَّات مخافة طلبهن فليس منا، ما سالمنا هن منذ حاربناهنَّ "(1).
فإن قلت: إنما تبين أن قوله: (يرفع الحديث) ليس عن النبي صلى الله عليه وسلم، بقرينة ذكر ابن عباس، فإن خلا من القرينة، فينبغي أن يكون له حكم المرسل.
قلت: لما استخدموا العبارة المذكورة في مجرد الارتقاء بإسناد الخبر إلى درجة أعلى في الإسناد، وصحَّ أن تكون تلك الدرجة هي الصحابي هنا، مع عدم وجود تنصيص منهم يُفسر مرادهم ويحصره فيما عرفناه بالاصطلاح في معنى المرفوع، فإن احتمال إرادة كونه عن أي قائل أو غافل فوق الراوي قائل تلك العبارة ودون النبي صلى الله عليه وسلم: احتمال قوي.
إلا أن نقف على ذلك الخبر من وجه معتبر مرفوعاً صراحة من قبل الراوي إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وليس من هذا قول أهل العلم المتأخرين اختصاراً في نقل الأحاديث من كتب الرواية (مرفوعاً) مثلاً، فإنا قد علمنا أنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في سياقه في مصدره من كتب الحديث المسندة، وإن كان تحاشي ذلك خاصة في الأحاديث الثابتة أولى، كما تقدم التنبيه عليه.
المسألة الثالثة: قول الصحابي: (قال: قال)
دون ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، هل هو مرفوع؟
هذه صورة نادرة الورود في روايات الحديث.
(1) أخرجه أبو داود في " سننه "(رقم: 5250) وإسنادُه جيد.
مثالها: ما حدث به أسود بن عامر شاذان قال: أخبرنا شعبة، قال: أخبرني إدريس الأوديُّ، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال: " لا يصلي أحدكم وهو يجد الخبَث "(1).
فتحرير هذه المسألة: أن هذه الصورة بمجردها لا تفيد رفع الحديث، بل هو موقوف من هذا الوجه، وهذا المثال المذكور مما اختلف فيه على شعبة أصلاً رفعاً ووقفاً، ولا يكاد يوجد لهذه المسألة مثال يسلم من علة، وعليه فيحول ذلك دون القول: إن هذه الصيغة تفيد الرفع.
وما ذكر عن محمد بن سيرين بخصوص ذلك مِن تركه رفع الحديث أحياناً وهو عنده مرفوع، فهو أمر غير مطرد على التحقيق.
وبيانه: أن الحافظ دعلجا السِّجزيَّ، قال: حدثنا موسى بن هارون بحديث حماد بن زيد، عن أيوب، عن محمد، عن أبي هريرة، قال: قال: " الملائكة تصلي على أحدكم مادام في مصلاه "، قال موسى: إذا قال حماد بن زيد والبصريون: (قال: قال) فهو مرفوع.
قال الخطيب: قلت للبرقانيَّ: أحسب أن موسى عنى بهذا القول أحاديث ابن سيرين خاصة؟ قال: كذا تحسب. (2).
قلت فهذا المثال لايصلح أن تُبْنى عليه قاعدة، وقول موسى بن هارون الحمَّال غير صحيح الإطْلاق، وما حسبه الخطيب من كون ذلك هناك محصوراً فيما يرويه ابن سيرين خاصة عن أبي هريرة صواب، ما لم تكن هناك قرينة في سياق الخبر تجعله على أصل الوقف.
وواقع الأمر أن ابن سيرين حدث عن أبي هريرة بأحاديث لم يكن يذكر فيها الرفع الصريح إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهي محفوظة من حديث أبي هريرة
(1) أخرجه الخطيب في " الكفاية "(ص: 588) وإسناده صحيح.
(2)
الكفاية (ص: 589).
مرفوعاً، أحياناً يوجد ذلك من رواية ابن سيرين نفسه عن أبي هريرة، يكون حدَّث به عنه لا يذكر الرفع، وتارةً يذكره، كما يكون مرفوعاً من رواية غير ابن سيرين عن أبي هريرة.
وهذا ما جاءت به الطرق للحديث المذكور، فإنه رواه من البصريين: أيوب السخستاني (1)، وهشام بن حسان (2) وعمران بن مسلم القصير (3)، جميعاً عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم به.
واستدل الخطيب لما حسب بقول ابن سيرين: " كل شيء حدثت عن أبي هريرة فهو مرفوع "
…
(4).
وصح عن محمد بن سيرين: أنه كان إذا حدث عن أبي هريرة، فقيل له: عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: " كل حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم "(5).
قال الطَّحاوي: " وإنما كان يفعل ذلك؛ لأن أبا هريرة لم يكن يحدثهم إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم "(6).
وفي هذا عن ابن سيرين فائدة خاصة، وهي أن الخبر إذا جاء عنه عن أبي هريرة مرفوعاً وموقوفاً، فإن ذلك لا يعد من الاختلاف القادح في صحة الرفع، بل الحكم بالرفع متعين.
(1) أخرجه عبد الرزاق في " المصنف "(1/ 580 رقم: 2210) ومُسلم في " صحيحه "(1/ 459).
(2)
أخرجه أبو نعيم في " الحلية "(8/ 138 رقم: 11631).
(3)
أخرجه عبد الله بن أحمد في " زوائد الزهد "(ص: 21) وابن عدي في " الكامل "(6/ 169).
(4)
أخرجه يعقوب بن سفيان في " المعرفة والتاريخ "(3/ 22) ومن طريقه: الخطيب في " الكفاية "(ص: 589) وإسناده صحيح.
(5)
أخرجه الطحاوي في " شرح معاني الآثار "(1/ 20) وإسناده جيد.
(6)
شرح معاني الآثار (1/ 20).
المسألة الرابعة: ما لا يقال مثله بمجرد الاجتهاد، فالأصل أن يكون مرفوعاً حكماً.
وذلك كتحديث الصحابي بما لا سبيل إلا معرفته إلا عن طريق الوحي، مع ضميمةِ أن لا يكون الصحابي يحدث بالإسرائيليَّات فيما يمكن أن يكون من أخبار أهل الكتاب مثل: ما يتصل بأخبار السابقين وبدء الخلق ومستقبل الزمان، ومن أشهر من عرف من الصحابة بالتحديث عن أهل الكتاب: عبد الله بن عمرو بن العاص، وأبو هريرة، وربَّما وقع لغيرهما، خُصوصا من نزل الشام من الصحابة.
ولما كان قد يعسر تبيُّن إن كان الصَّحابي حمل الرواية عن أهل الكتاب، أو كان بتوقيف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أجل أنه ليس لدينا ما يقطع في هذا، إنما هو قائم على المظنة، فالتحري يوجب أن يرد في سياق الخبر قرينة غير ما تقدم تدل على ضعف احتمال أن يكون من أخبار أهل الكتاب.
وذلك كقول أبي سعيد الخدريُّ " من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء الله له من النور ما بينه وبين العتيق "(1).
فأبو سعيد ليس معروفاً بالتحديث بالإسرائيليَّات، وحدث بشيء هو مما اختُصت به هذه الأمة، وهو فضل قراءة سورة الكهف، وهي مما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم، وذكر البيت العتيق وليس لأهل الكتاب فيه شأن.
(1) حديث صحيح. أخرجه سعيد بن منصور في " سننه " _ كما في " تفسير ابن كثير "(4/ 364) _ ومن طريقه: البيهقي في " الشعب "(2/ 474 رقم: 2444). وكذا الدارمي (رقم: 3410) عن أبي النعمان عارم بن الفضل، كلاهما عن هُشيم بن بشير، قال: حدثنا أبو هاشم، عن أبي مِجلز، عن قيس بن عُباد، عن أبي سعيد، به.
قلت: وإسناده صحيح، واختلف فيه رفعاً ووقفاً، والصواب موقوف من جهة الإسناد، وكذلك رجَّح وقْفه النسائي والبيهقي، وشرحت علَّته في " الأجوبة المرضية "(السؤال الخامس).
ومما يجب أن يحتاط فيه من هذه الصورة.
ما يقوله الصحابي من إثبات تحليل أو تحريم، فمن الناس من يدعي أن له حكم الرفع، وهذا خطأ، فإن الصحابة كانوا يُفتون الناس في الحلال والحرام، وكما وسع من بعدهم من العلماء أن يحلوا ويحرموا باجتهادهم فيما لا نص فيه، فعلماء الصحابة هم سادة المجتهدين لهذه الأمة، وقد سبقوا إلى أن قالوا باجتهادهم فأحلوا وحرموا، واختلفوا في المسائل بسبب ذلك.
المسألة الخامسة: قول الصحابي (أمرنا بكذا .. نهينا عن كذا .. كنا نؤمر بكذا .. كنا ننهى بكذا .. كنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نفعل كذا .. كنا نقول ورسول الله صلى الله عليه وسلم فينا .. من السنة كذا) وشبه ذلك، فهو حديث مسند مرفوع حكما في قول أكثر أهل العلم، وهو الصواب (1).
وذلك بناء على أن حال ما يحكيه الصحابي من ذلك إنما كان لبيان شرائع الدين، والتبليغ عن النبي صلى الله عليه وسلم، خصوصا ولا يكاد يوجد الشيء من ذلك لا شاهد له من النصوص المسندة صراحة إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الخطيب: " والدليل عليه: أن الصحابي إذا قال: أمرنا بكذا، فإنما يقصد الاحتجاج لإثبات شرع وتحليل وتحريم وحكم يجب كونه مشروعا (2).
مثاله: ماحدث به مصعب بن سعد بن أبي وقاص، قال: صليت إلى جنب أبي، فلما ركعت شبكت أصابعي، وجعلتهما بين ركبتي، فضرب يدي، فلما صلى قال: قد كنا نفعل هذا، ثم أمرنا أن نرفع إلى الركب (3).
(1) انظر: معرفة علوم الحديث، للحاكم (ص: 22)، والكفاية، للخطيب (ص: 591 _ 595).
(2)
الكفاية (ص: 592).
(3)
متفق عليه: أخرجه البخاري (رقم: 757) ومسلم ٌ (رقم: 535).
وذهب بعض أهل العلم، كابن حزم، إلى أن هذه الصورة ليست مسنداً مرفوعاً (1).
واعترض بعضهم باحتمال أن يكون الآمر الناهي من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا ضعيف، فإن الصحابة فيما دل عليه الاستقراء لم يكونوا يستعملون ذلك في أمر أو نهي أوسنة أحد إلا النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الشافعي وقد ذكر حديثا عن ابن عباس والضحاك بن قيس فيه: (كذا وكذا سنة): " وابن عباس والضحاك بن قيس رجلان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، لا يقولان: (السنة) إلا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إن شاء الله "، وقال:" وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يقولون بالسنة والحق إلا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إن شاء الله تعالى "(2).
قلت: وقول الشافعي: (إن شاء الله)، من أجل مظنة أن يقول الصحابي الشيء من ذلك بمحض اجتهاده، وليس بمنزلة المرفوع الصحيح.
وأما قصة حنظلة السَّدوسيِّ قال: سمعت أنس بن مالك يقول: كان يؤمر بالسوط فتقطع ثمرته
…
(3)، ثم يدق بين حجرين، ثم يضرب به. فقلت لأنس: في زمان من كان هذا؟ قال: في زمان عمر بن الخطاب. فهذا خبر لا يصح رواية، فلا يتعقب بمثله (4).
وإذا حكى الصحابي أمرا شائعا، ونسبه إلى عامة الصحابة، كأن
(1) الأحكام في أصول الأحكام (2/ 72).
(2)
الأم (1/ 271).
(3)
ثمرته: هو العُقدة التي تكون في طَرفه، فتُقطع، ويُدق السوط بين حجرين ليلين ليَكون أيسر على من يُضرب به.
(4)
أخرجه ابن أبي شيبة (10/ 50 _ 51) وابنُ عبد البر في " التمهيد "(5/ 334)، وعلته حَنظلة فإنه ضعيف الحديث.
يقول: (كانوا يفعلون كذا) ولا يذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم ولا ما يدل على إرادة زمانه صلى الله عليه وسلم، ليس فيه إلا إضافة ذلك إلى الصحابة، فهذا موقوف (1).
وذلك كقول أبي سعيد الخدري: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قعدوا يتحدثون كان حديثهم الفقه، إلا أن يأمروا رجلاً فيقرأ عليهم سورة، أو يقرأ رجلٌ سورة من القرآن (2).
المسألة السادسة: الصحابيُّ إذا حدث عن شيء ممَّا كان منهم على حياة النبي صلى الله عليه وسلم، لكن ليس فيه اطِّلاعُهُ صلى الله عليه وسلم ولا إقراره، فهذا ممَّا اختلفوا فيه:
هو موقوف، في قول الحاكم (3). قصة
وهذا مثل ما جاء في قصة عمرو بن سلِمة الجرمي، حين حدَّث عن أبيه قال: جئتكم والله من عند النبي صلى الله عليه وسلم حقاً، فقال:" صلُّوا صلاة كذا في حين كذا، وصلُّوا صلاة كذا في حين كذا، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم، وليؤمكم أكثركم قرآناً "، قال عمرو: فنظروا فلم يكن أكثر قرآناً مني، لما كنت أتلقَّى من الرٌّكبان، فقدَّموني بين أيديهم وأنا ابن ست أو سبع سنين، وكانت عليَّ بردة، كنت إذا سجدت تقلَّصت عني، فقالت
(1) انظر: الكفاية، للخطيب (ص: 595).
(2)
أثرٌ صحيح. أخرجه ابنُ سعد في " الطبقات "(2/ 374) أخبرنا أبو داود الطيالسي.
والحاكم (1/ 94 رقم: 322) _ وعنه البيهقي في " المدخل "(رقم: 419) _ من طريق عبد الرحمن بن مهدي، كلاهما عن شعبة، عن علي بن الحَكم، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد، به.
وقال الحاكم: " حديث صحيح على شرط مسلم ".
قلت: إسناده صحيح.
ورواه عفان بن مسلم عن شعبة، به مختصراً، ولم يذكر أبا سعيد، أخرجه الخطيب في " الفقيه والمتفقه " (رقم: 948) و " الجامع لأخلاق الراوي "(رقم: 1207). وهو بذكْر أبي سعيد أصح.
(3)
معرفة علوم الحديث (ص: 19).