الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والحالة الثانية، وهي عمل الإمام بخلاف رواية راو حدث هو عنه بتلك الرواية وقال بخلافها.
فهذا لا يقدح به على الراوي ولا على الحديث، فمعلوم أن لترك العمل بالحديث أسباباً عدة، فقد يكون تركه لمعارض أقوى عنده، أو قياس أو احتمال نسخه، أو غير ذلك.
فهذا مالك روى عن نافع وهو الثقة الحافظ عنده، عن ابن عمر حديث البيعين بالخيار، ولم يقل به مالك؛ لأنه رأى عمل أهل المدينة على خلافه.
قال الخطيب: " إذا روى رجل عن شيخ حديثاً يقتضي حكماً من الأحكام، فلم يعمل به، لم يكن ذلك جرحاً منه للشيخ؛ لأنه يحتمل أن يكون ترك العمل بالخبر لخبر آخر يعارضه، أو عموم، أو قياس، أو لكونه منسوخاً عنده، أو لأنه يرى أن العمل بالقياس أولى منه، وإذا احتملت ذلك لم يجعله قدحاً في راويه "(1).
الصورة الخامسة: الرواية عن المجروحين والمجهولين
.
وقع هذا من نفر كثير من الثقات، بل حفاظ الناس ومتقنيهم.
قال بندار (محمد بن بشار): " ضرب عبد الرحمن بن مهدي على نيف وثمانين شيخاً عنهم الثوري "(2).
وقال عبد الرحمن بن مهدي: " اتقوا هؤلاء الشيوخ، واتقوا شيوخ أبي عامر العقدي المدنيين "(3).
وهذا الأعمش أنكروا عليه التحديث ببعض الحديث الذي يكون من
(1) الكفاية (ص: 186).
(2)
أخرجه ابنُ عدي في " الكامل "(1/ 200) بإسنادٍ صحيح.
(3)
أخرجه ابن عدي (1/ 200) بإسناد حسن.
طريق المجروحين، فيبين وجه ذلك فيقول:" كنت أحدثهم بأحاديث يقولها الرجل لأخيه في الغضب، فاتخذوها ديناً، لا والله لا أعود إليها أبداً "(1).
وكان حدث عن موسى بن طريف عن أبيه عن علي: " أنا قسيم النار "، فقيل له: لم رويت هذا؟ فقال: " إنما رويته على الاستهزاء "(2).
وذكرت في الكلام عن أصل (هل رواية الثقة عن رجل تعديل له؟ )(3) جماعة من الثقات عرفوا بالرواية عن المجهولين حتى أكثروا، ومع ذلك فلم يسقط حديثهم.
فمثل هذا لا يكون الحمل فيه على الثقة، ولا يصح أن يعد بمجرده سبباً للقدح في الراوي.
فتأمل ذلك واعلم أن كثيراً من النقلة تكلم فيهم بسبب ذلك، وهم في أنفسهم وحديثهم ثقات.
مثل: (عيسى بن موسى غنجار)، قال الحاكم:" لم يؤخذ عليه إلا كثرة روايته عن الكذابين "(4).
وقال: " يحدث عن أكثر من مئة شيخ من المجهولين لا يعرفون، بأحاديث مناكير، وربما توهم طالب هذا العلم أنه يجرح فيه، وليس كذلك "(5).
وإنما كان من حال بعض النقلة أنهم لم يعرف لحديثهم مخارج إلا من جهة روايتهم عن المجروحين، فهؤلاء لو افترضنا ثقة أحدهم في نفسه، فما هو بثقة في حديثه، وإن كان الحمل فيه على من فوقه، بل التحقيق أنه لا معنى لوصف هذا الراوي بالثقة؛ لما في ذلك من التغرير بروايته.
(1) الكامل، لابن عدي (8/ 53).
(2)
الكامل، لابن عدي (8/ 53).
(3)
في (الأصل السادس) من المبحث التاسع) من مباحث (التعديل).
(4)
سؤالات مسعود السجزي للحاكم (النص: 88).
(5)
معرفة علوم الحديث (ص: 106).
مثل (خالد بن الحسين أبي الجنيد الضرير)، قال ابن عدي:" عامة حديثه عن الضعفاء أو قوم لا يعرفون، فإذا كان سبيله هذا السبيل إذا وقع لحديثه نكرة؛ يكون البلاء منه، أو من غيره لا منه "(1).
ومثل (يحيى بن يزيد بن عبد الملك النوفلي)، فقد قال فيه أبو حاتم:" منكر الحديث، لا أدري منه أو من أبيه، لا ترى في حديثه حديثاً مستقيماً "، وقال أبو زرعة الرازي:" لا بأس به، إنما الشأن في أبيه، بلغني عن أحمد بن حنبل أنه قال: يحيى بن يزيد لا بأس به ولم يكن عنده إلا حديث أبيه، ولو كان عنده غير حديث أبيه لتبين أمره "(2).
ومنه قول الدارقطني في (محمد بن مَروان القطان): " شيخٌ من الشيعة، حاطب ليل (3)، لا يكاد يُحدث عن ثقة، متروك "(4).
فالدارقطني جرحه من جهة أنه لا يكاد يحدث عن ثقة.
وكقول ابن حبان في (مطرح بن يزيد): " لا يحتج بروايته بحال من الأحوال؛ لما روى عن الضعفاء "(5) يعني وأن عامة ما روى فهو عن عبيد الله بن زحر وعلي بن يزيد، وهما مجروحان.
ومن هذا أيضاً قوله (محمد بن عطية بن سعد العوفي): " منكر
(1) الكامل (3/ 475).
(2)
الجرح والتعديل (4/ 2 / 198).
(3)
معنى قولهم: (فلانٌ حاطب ليْلٍ): لا يُبالي ماذا يَحمل ولا عمن.
فائدة: قال سفيان بن عيينة: قال لي عبد الكريم الجزري: يا أبا محمد، تدري ما حاطبُ ليْل؟ قال: قلت: لا، إلا أن تخبرنيه، قال: هوَ الرجل يخرج من الليل فيتحطب، فتقع يده على أفعى فتقتله. هذا مثلٌ ضربتْه لك لطالب العلم، إن طالبَ العلم إذا حمل من العلم ما لا يُطيقه، قتله علْمه، كما قتلت الأفعى حاطب ليْل. أخرجه البغوي في " الجعديات " (رقم: 1048) بإسناد صحيح.
(4)
سؤالات البرقاني (النص: 458).
(5)
المجروحين (3/ 27).
الحديث جداً، مشتبه الأمر، لا يوجد الاتضاح في إطلاق الجرح عليه؛ لأنه لا يروي إلا عن أبيه، وأبوه ليس بشيء في الحديث "، كما علله أيضاً بأنه لم يعرف حديثه إلا من رواية مجروح عنه (1).
فهذا الصنف من الرواة ليسوا معدودين في جملة الثقات أصلاً، ولهذا جاز أن تلحقهم التهمة.
ومن هذا الصورة: تخريج أحاديث المجروحين.
وقد طعن به على بعض أئمة الحديث أنهم خرجوا أحاديث الضعفاء والمتروكين والكذابين في كتبهم دون بيان لعللها، كما طعن به مثلاً على الحافظ أبي نعيم الأصبهاني.
وليس هذا في التحقيق مما يجرح به، وإن كان خلاف الأولى، وذلك من أجل أن الواحد من هؤلاء المخرجين يسند أحاديثه تلك، ومن أسند فقد أحال.
فإن قلت: فلم كانوا يكتبون أصلاً أحاديث المجروحين، أو يروون عنهم؟
قلت: يغلب على من كان يفعل ذلك عدم العلم بمنازل الرواة، ومن كان يعلم ذلك فكان يرويه تارة على سبيل اعتقاد عدالة المحدث بها عند ذلك الراوي عنه، وتارة على سبيل الاستهزاء كما تقدم عن الأعمش فيتلقفه من كان همه الإكثار والإغراب في الرواية، أو من أجل تمييزها عن أحاديث الثقات، كما كان يفعله بعض النقاد، أو لغير ذلك.
لكن ليس من سبب ذلك غش الأمة، فهذا إن ورد على الراوي طعن على عدالته في نفسه.
(1) المجروحين (2/ 273 _ 274).
والكتابة عنهم بقصد تمييز حديثهم، منهج جرى عليه عامة النقاد، يكتب أحدهم أحاديث المجروحين ويعتني بجمعها كما يعتني بأحاديث الثقات، وذلك لما يوجبه تحرير حال النقلة من تمييز محفوظ حديثهم من غيره (1)، أو لمصلحة الاعتبار به إذا كان المجروح ممن يصلح حديثه لذلك، وليس هذا من قبيل ما يذم ويؤخذ على الراوي فعله في الرواية عن الضعفاء.
قال يحيى بن معين: " كتبنا عن الكذابين، وسجرنا به التنور، فأخرجنا به خبزاً نضيجاً "(2).
وقال أبو بكر الأثرم: رأى أحمد بن حنبل يحيى بن معين بصنعاء في زاوية وهو يكتب صحيفة معمر عن أبان عن أنس، فإذا اطلع عليه إنسان كتمه، فقال له أحمد: تكتب صحيفة معمر عن أبان عن أنس، وتعلم أنها موضوعة، فلو قال لك قائل: أنت تتكلم في أبان ثم تكتب حديثه على الوجه! فقال: " رحمك الله يا أبا عبد الله، أكتب هذه الصحيفة عن عبد الرزاق عن معمر على الوجه فأحفظها كلها، وأعلم أنها موضوعة؛ حتى لا يجيء بعده إنسان فيجعل بدل أبان ثابتاً، ويرويها عن معمر عن ثابت عن أنس، فأقوله له: كذبت، إنما هي عن أبان لا عن ثابت "(3).
فهذا فيه كتابة أحاديث من لا يعتبر به أصلاً، وإنما يقايس بحديثه لكشف الكذب والكذابين.
ومثال الكتابة للاعتبار، قول أحمد بن حنبل في (عبد الله بن لهيعة):
(1) قال الحاكم في " المدخل إلى كتاب الإكليل "(ص: 31): " وللأئمة في ذلك غرضٌ ظاهر، وهو أن يعرفوا الحديث: من أين مخرجه، والمنفرد به: عدلٌ أو مجروحٌ ".
(2)
أخرجه ابن حبان في " المجروحين "(1/ 56) والحاكم في " المدخل إلى كتاب الإكليل "(ص 32) والخطيب في " تاريخه "(14/ 184) بإسناد صحيح.
(3)
أخرجه ابن حبان في " المجروحين "(1/ 31 _ 32) والحاكم في " المدخل إلى كتاب الإكليل "(ص 32) والخطيب في " الجامع "(رقم: 1580) بإسناد صحيح.