الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث:
نماذج لأعيان من يعتمد قوله في نقد الرواة
الخبراء بأحوال النقلة، والمتكلمون فيهم تعديلاً أو جرحاً، ممن إلى كلامهم المرجع لتمييز أحوال الرواة، لا يستقصي ذكرهم في هذا الموضع، وإنما القصد هنا إلى ذكر طائفة من رءوسهم، ممن عرفوا بكثرة النقد، تنبيهاً على مقامهم في هذه الصناعة، مع الإبانة عن منزلة كلام أحدهم بحسب ما يقتضيه المقام من الإيجاز، فمنهم:
1 _
شعبة بن الحجاج (المتوفى سنة: 160).
من أتباع التابعين، كان إمام هذه الصناعة وأمير المؤمنين فيها، حتى قال فيه تلميذه الناقد العارف يحيى بن سعيد القطان:" كان شعبة أعلم الناس بالرجال "(1).
وقال أحمد بن حنبل: " كان شعبة أمة وحده في هذا الشأن " يعني في الرجال، وبصره بالحديث، وتثبته، وتنقِّيه للرجال (2).
(1) أخرجه ابن أبي حاتم في " تقدمة الجرح "(ص: 127) بإسناد صحيح.
(2)
العلل ومعرفة الرجال (النص: 3557) ومن طريقه: ابنُ عدي (1/ 155).
وقال أبو حاتم الرازي: " كان شعبة بصيراً بالحديث جداً، فهماً له، كأنه خلق لهذا الشأن "(1).
قلت: وكان من شدة تحريه أنه قل من كان يرضى من الرواة؛ لذا فإنه إذا وثق رجلاً فذاك، ما لم تقم حجة بينة على خلافه، وإذا جرح فاحتط من جرحه.
2 _
مالك بن أنس (المتوفى سنة: 179).
من أتباع التابعين، إمام دار الهجرة.
قال بشر بن عمر الزهراني: سألت مالكاً عن رجل؟ فقال: " هل رأيته في كتبي؟ "، قلت: لا، قال:" لو كان ثقة رأيته "(2).
قلت: وهذا يدل على شدة انتقائه للرواة، ومن أجله عدت روايته عن الرجل توثيقاً له.
وقال علي بن المديني: " كل مدني لم يحدث عنه مالك ففي حديثه شيء ، ولا أعلم مالكاً ترك إنساناً إلا إنساناً في حديثه شيء "(3).
3 _
يحيى بن سعيد القطان (المتوفى سنة: 198).
وهو تلميذ شعبة وخريجه، وجارٍ على طريقه ومنهاجه، وكان من أبصر الأمة بالرواة.
قال أبو الوليد الطيالسي: " ما رأيت أحداً كان أعلم بالحديث ولا بالرجال من يحيى بن سعيد "(4).
(1) تقدمة الجرح والتعديل (ص: 129).
(2)
أخرجه مسلم في " مُقدمة الصحيح "(1/ 26) والرامهرمزي (ص: 410) والعُقيلي (1/ 14) وابن عدي في " الكامل "(1/ 177) وابن عبد البر في " التمهيد "(1/ 68) بإسناد صحيح.
(3)
أخرجه ابن عدي (1/ 77) بإسناد صحيح.
(4)
أخرجه ابن حبان في " المجروحين "(1/ 52) وإسناده صحيح.
وكان متشدداً، حتى قال لو لم أرو إلا عن كل من أرضى، ما رويت إلا عن خمسة " (1).
وقال محمد بن بشار بندار: سمعت يحيى بن سعيد يقول وقلت له: عن ثقة؟ فقال: " لا تقل (عن ثقة)، لو حققت لك ما حدثتك إلا عن أربعة: ابن عون، وشعبة، ومسعر، وهشام الدستوائي "(2).
ويحيى القطان لم يرد بهذا جرح سائر من أدرك من النقلة، وفيهم من هو معروف بالحفظ والإتقان، وإنما الشأن كما قال الحاكم:" فيحيى بن سعيد في إتقانه وكثرة شيوخه يقول مثل هذا القول، ويعني بالخمسة الشيوخ الأئمة الحفاظ الثقات الأثبات "(3)، وكما قال أبو الوليد الباجي:" لاخلاف أنه أراد بذلك النهاية فيما يرضيه؛ لأنه قد أدرك من الأئمة الذين لا يطعن عليهم أكثر من هذا العدد " وذكر جماعة من كبار حفاظ شيوخه (4).
وقال يحيى بن معين: " كان يحيى بن سعيد القطان يضعف عبد الحميد بن جعفر "، قال الدوري: قلت ليحيى: قد روى عنه يحيى بن سعيد، قال:" روى عنه ويضعفه "، قال يحيى: " وقد كان يحيى بن سعيد يروي عن قوم وما كانوا يساوون عنده شيئاً (5).
قلت: وإنما كان يفعل في رواة لم يبلغوا السقوط، وإن لم يكونوا عنده في المحل الذي يعدهم فيه من الثقات.
(1) تاريخ يحيى بن معين (النص: 3885) ومن طريق الدوري عن ابن معين عنه أخرجه: ابن عدي في " الكامل "(2/ 128) وابن شاهين في " الثقات "(ص: 270) والحاكم في " المدخل إلى الصحيح "(ص: 113).
(2)
أخرجه ابن شاهين في " الثقات "(ص: 270) بإسناد جيد.
(3)
المدخل إلى الصحيح (ص: 113).
(4)
التعديل والتجريح (1/ 285).
(5)
تاريخ يحيى (النص: 3931) ومن طريقه: العقيلي (3/ 43 _ 44) وابنُ عدي (7/ 3).
4 _
عبد الرحمن بن مهدي (المتوفى سنة: 198).
هو تلميذ شعبة كذلك، وصاحب يحيى القطان، كان إماماً في تمييز النقلة، إماماً في معرفة علل الحديث.
قال تلميذه علي بن المديني: " أعلم الناس بالحديث عبد الرحمن بن مهدي "(1).
وقال: " والله، لو أخِذْت وحُلِّفتُ بين الركن والمقام لحلفت بالله أني لم أر قط أعلم بالحديث من عبد الرحمن بن مهدي "(2).
مقارنة بينه وبين يحيى القطان:
روي عن ابن المديني قال: " إذا اجتمع يحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدي على ترك رجل لم أحدِّث عنه، فإذا اختلفا أخذت بقول عبد الرحمن؛ لأنه أقصدهما، وكان في يحيى تشدد "(3).
قلت: وهذا الاختيار يؤيده الواقع التطبيقي في شأن من اختلفا فيه من الرواة.
أما إذا اتفقا فحسبك.
قال الذهبي، وذكر ابن المهدي:" كان هو ويحيى القطان قد انتدبا لنقد الرجال، وناهيك بهما جلالة ونبلاً وعلماً وفضلاً، فمن جرحاه لا يكاد _ والله _ يندمل جرحه، ومن وثقاه فهو الحجة المقبول، ومن اختلفا فيه اجتُهِد في أمره، ونزل عن درجة الصحيح إلى الحسن، وقد وثقا خلقاً كثيراً، وضعفا آخرين "(4).
(1) أخرجه ابن عدي في " الكامل "(4/ 105).
(2)
أخرجه الحاكم في " معرفة علوم الحديث "(ص: 68).
(3)
أخرجه الخطيب في " تاريخه "(10/ 243) بإسناد لين.
(4)
ذكر من يعتمد قوله في الجرح والتعديل (ص: 167).
5 _
أبو مسهر عبد الأعلى بن مسهر الغساني (المتوفى سنة 218).
إمام أهل الشام، والمقدم في هذا الفن في معرفة رواة بلده.
قال ابن حبان: " كان يقبل كلامه في التعديل والجرح في أهل بلده، كما كان يقبل ذلك من أحمد ويحيى بالعراق، وكان يحيى بن معين يفخم أمره "(1).
6 _
يحيى معين (المتوفى سنة: 233).
هو رأس هذا العلم في معرفة الرجال، وإليه المنتهى فيه، فقل من الرواة وندر من لم يعرف له فيه تعديل أو جرح، كما أنه رأس في معرفة علل الحديث.
وقد قال فيه صاحبه أحمد بن حنبل: " يعرف خطأ الحديث "(2).
وقال: " أعرفنا بالرجال يحيى بن معين "(3).
وقال الآجري: قلت لأبي داود: أيما أعلم بالرجال: يحيى، أو علي بن عبد الله؟ قال:" يحيى عالم بالرجال، وليس عند علي من خبر أهل الشام شيء "(4).
قال أبو حاتم الرازي في ترجمة (يوسف بن خالد السمتي): " أنكرت قول يحيى بن معين فيه: إنه زنديق، حتى حمل إلي كتاب قد وضعه في
(1) المجروحين، لابن حبان (2/ 77)، قلت: جاءَ عن يحيى بن معين قوله " إذا حدَّثت في بلدٍ فيه مثلُ أبي مُسهر، فيجب للحيتي أن تحلق " أخرجه ابن عدي (1/ 209) وإسناده جيد.
(2)
تاريخ أسماء الثقات، لابن شاهين (النص: 1659).
(3)
أخرجه ابن حبان في " المجروحين "(1/ 55) والخطيب في " تاريخه "(9/ 41) وإسناده صحيح.
(4)
سؤالات الآجري (النص: 1968) ومن طريقه: الخطيب في " تاريخه "(14/ 181).
التهجم بابا بابا، ينكر الميزان في القيامة، فعلمت أن يحيى بن معين كان لا يتكلم إلا على بصيرة وفهم " (1).
وقال ابن عدي: " به تستبرأ أحوال الضعفاء "(2).
وأطلق عليه بعض المتأخرين نعت التشدد، وهذا إن أريد به أنه كان يجرح بالغلطة، فليس صواباً، فقد وثق وأثنى على كثيرين نالهم غيره بالجرح، بل طريقته من أسد الطرق وألصقها بالعدل، لكنه كان كثير الكلام في النقلة، حتى قل أن يوجد راو ممن تقدمه أو كان في زمانه لم ينزله يحيى منزلته من تعديل أو جرح؛ لذا صح أن يكون من سكت عنه ألصق بالتعديل منه بالجرح.
لذا ربما شدد في عبارة الجرح تارة في رواة قليلين من أجل ما بدا له فيهم من استحقاق ذلك التشديد، ولم يكن عادة مطردة له، بل عادته كما ذكرت قبل الاعتدال في العبارة.
ومن أمثلة ما يعد من مبالغة في الجرح:
(1)
قوله في (سويد بن سعيد): " لو كان لي فرس ورمح لكنت أغزو سويد بن سعيد "(3).
وقال أبو زرعة الرازي: قلنا ليحيى بن معين: إن سويد بن سعيد يحدث عن ابن أبي الرجال عن ابن أبي رواد عن نافع عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من قال في ديننا برأيه فاقتلوه، فقال يحيى:" سويد ينبغي أن يبدأ به فيقتل "(4).
(1) الجرح والتعديل (4/ 2 / 222).
(2)
الكامل (1/ 218 _ 219).
(3)
المجروحين لابن حبان (1/ 352)، ونحوه في " تاريخ بغداد " للخطيب (9/ 229 _ 230).
(4)
أسئلة البرذعي لأبي زُرعة (2/ 409 _ 410).
وقال في رواية أبي داود عنه: " هو حلال الدم "(1).
قلت: وتحرير أمره ليس كما قال يحيى، وإنما هو في الأصل صدوق ثقة، لكنه أتي من التدليس، حيث كان يكثر منه، وأنه كان عمي فصار يلقن ما ليس من حديثه فيحدث به.
(2)
وقال عبد الله بن أحمد: سألت يحيى قلت: شيخ بالكوفة يقال له: زكريا الكسائي، فقال: رجل سوء يحدث بحديث سوء "، قلت ليحيى: إنه قد قال لي: إنك قد كتبت عنه، فحول يحيى وجهه إلى القبلة وحلف بالله مجتهداً أنه لا يعرفه ولا أتاه ولا كتب عنه، إلا أن يكون رآه في طريق وهو لا يعرفه، ثم قال يحيى: " يستاهل أن يحفر له بئر ثم يلقى فيه " (2).
قلت: وهذا هو زكريا بن يحيى الكسائي، كوفي متروك الحديث.
وهذا التشديد من يحيى فيه وفي سويد مشعر بأنه صدر مصدر الغضب للدين، فيحيى محمود على حسن قصده فيه إن شاء الله، أما الذي يهمنا فهو منزلة الراوي في روايته، وكلام يحيى في مثله لا غنى لمشتغل بهذا العلم عنه؛ لقوة معرفته وسداد رأيه.
7 _
علي بن عبد الله ابن المديني (المتوفى سنة: 234).
قال أحمد بن حنبل: " أعلمنا بالعلل علي بن المديني "(3).
وقال البخاري: " ما استصغرت نفسي عند أحد إلا عند علي بن المديني "(4).
وقال أبو حاتم الرازي: " كان عَلَماً في الناس في معرفة الحديث والعلل "(5).
(1) سؤالات الآجري (النص: 1911).
(2)
العلل ومعرفة الرجال (النص: 3904) والكامل لابن عدي (4/ 172 _ 173).
(3)
أخرجه ابن حبان في " المجروحين "(1/ 55) وإسناده صحيح.
(4)
الكامل لابن عدي (1/ 213).
(5)
الجرح والتعديل (3/ 1 / 194).
وقال ابن أبي حاتم: سئل أبو زرعة (يعني الرازي) عن فضيل بن سليمان؟ فقال: " لين الحديث، روى عنه علي بن المديني، وكان من المتشددين "(1).
أراد فاجعل من روايته عنه توثيقاً، فإنه كان غاية في الاحتياط.
8 _
أحمد بن حنبل (المتوفى سنة: 241).
قدوة الناس، وسلطان هذه الصنعة، حتى إنك ترى الإمام الناقد العارف بهذا الفن يجد لرأي أحمد في رجل أو حديث هيبة، لا يملك دفعها، بل إنه ليدفع عن نفسه التردد في الشيء اقتداء بأحمد.
فهذا الناقد البصير أبو حاتم الرازي يقول في (أبي معشر نجيح السندي): " كنت أهاب حديث أبي معشر، حتى رأيت أحمد بن حنبل يحدث عن رجل عنه أحاديث، فتوسعت بعد في كتابة حديثه "(2).
وأحمد رأسٌ في التثبت في الجرح والتعديل، وسَط العبارة، قوله حكمٌ بين الأقوال، قلما تصيرُ بالمحقق نتيجةُ تحقيقه فيمن اختُلف فيه إلى خلافٍ قوْل أحمد.
وبه تخرَّج رءوس هذا العلم بعده، كالبخاري وأبي داود السجستاني وأبي زُرعة الرازي، وأبي زُرعة الدمشقي، وغيرهم.
9 _
محمد بن إسماعيل البخاري (المتوفى سنة: 256).
قال الترمذي: " لم أر أحداً بالعراق ولا بخراسان في معنى العلل والتاريخ ومعرفة الأسانيد كبير أحد أعلم من محمد بن إسماعيل "(3).
(1) الجرح والتعديل (7/ 73).
(2)
الجرح والتعديل (4/ 1 / 494).
(3)
العلل الصغير في آخر " الجامع "(6/ 229).
قلت: البخاري صنع للناس منهاجاً في تمييز الصحييح من السقيم، كما أتى على تتبع النقلة على صفة لم يسبق إليها، وصنف في كل ذلك ما صار للناس إماماً في صنوف هذا العلم، وعلى منهاجه وأثره جرى مسلم بن الحجاج في تصنيف (الصحيح) وإن انفرد فيه بزيادة وتهذيب، وكذا صار القدوة لجميع من جاء من بعد فجرد الصحيح ، وبه تخرج الناقد أبو عيسى الترمذي.
وعلى كتابه في " التاريخ " بنى ابن أبي حاتم كتابه " الجرح والتعديل "، فصار يعرض تراجمه على أبيه أبي حاتم وصاحبه أبي زرعة، ويجيبان بما يأتي على الموافقة والتصديق لما قاله البخاري في أكثر ذلك الكتاب، ثم يزيدان مع ابن أبي حاتم الفوائد مما لم يذكره، ولا يتعقبان البخاري إلا في المواضع اليسيرة.
فأصَّل لذلك البخاري، وهؤلاء الأئمة بعده بنوا على علمه وجروا على أثره، فمعاناته أعظم، وفضله على الجميع إن شاء الله أكبر، رحمه الله.
10 _
أبو زرعة الرازي عبيد الله بن عبد الكريم (المتوفى سنة: 264).
قال الذهبي: " يعجبني كثيراً كلام أبي زرعة في الجرح والتعديل، يبين عليه الورع والمخبرة، بخلاف رفيقه أبي حاتم، فإنه جراح "(1).
11 _
أبو حاتم الرازي محمد بن إدريس (المتوفى سنة: 277).
قال الذهبي: " إذا وثق أبو حاتم رجلاً فتمسك بقوله، فإنه لا يوثق إلا رجلاً صحيح الحديث، وإذا لين رجلاً أو قال فيه: لا يحتج به، فتوقف، حتى ترى ما قال غيره فيه، فإن وثقه أحد، فلا تبن على تجريح أبي حاتم؛
(1) سير أعلام النبلاء 13/ 81).
فإنه متعنِّت في الرجال، قد قال في طائفة من رجال الصحاح: ليس بحجة، ليس بقوي، أو نحو ذلك " (1).
قلت هؤلاء الأعلام نماذج رءوس المؤسسين لموازين نقد الرواة، وفي طبقة كل آخرون من كبار الأئمة تكلموا في تمييز النقلة، ومن مدارس هؤلاء تخرج من انتهى إليه الناس في أزمانهم في معرفة هذا العلم، وعلى أثرهم جرى من جاء من بعد من متأخري العلماء حين ناقشوا أحوال النقلة وصنفوا فيهم، كالنسائي وابن خزيمة والعقيلي وابن عدي وابن حبان والدارقطني والحاكم النيسابوري والخطيب البغدادي وابن عبد البر وابن عساكر والمزي والذهبي وابن حجر العسقلاني، وغيرهم من أهل الطبقات المختلفة، رضي الله عنهم.
* * *
(1) سير أعلام النبلاء 13/ 260).