الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث:
صيغة العنعنة وما يجري مجراها
العنعنة، هي: قول الراوي: (عن فلان)، وتقع من لفظ المحدث نفسه عن شيخه، كما يمكن أن تكون من تصرف من روى عنه.
وهي صيغة لا تعني الاتصال ولا الانقطاع بمجردها، وقد استعملت في السند المتصل، كما استعملت في السند المنقطع، وبها يوهم المدلسون الاتصال فيما دلسوا فيه.
والناظر المحرر للأسانيد يجد أن استعمال (عن) في محل السماع هو الغالب، وكانوا يتخففون بترك الصيغة الصريحة، ويكتفون بالقول:(فلان عن فلان) ".
قال الخطيب: " إنما استجاز كتبة الحديث الاقتصار على العنعنة؛ لكثرة تكررها، ولحاجتهم إلى كتب الأحاديث المجملة بإسناد واحد، فتكرر القول من المحدث:(حدثنا فلان عن سماعه من فلان) يشق ويصعب؛ لأنه لو قال: (أحدثكم عن سماعي من فلان، وروى فلان عن سماعه من فلان، وفلان عن سماعه من فلان) حتى يأتي على أسماء جميع مسندي الخبر إلى أن يرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وفي كل حديث يرد مثل ذلك الإسناد لطال وأضجر، وربما كثر رجال الإسناد حتى يبلغوا عشرة وزيادة على ذلك، وفيه
إضرار بكتبة الحديث، وخاصة المقلين منهم والحاملين لحديثهم في الأسفار، ويذهب بذكر ما مثلناه مدة من الزمان، فساغ لهم لأجل هذه الضرورة استعمال: عن فلان " (1).
ومن الدليل على إرادة التخفيف في استعمالها:
قول عفان بن مسلم: جاء جرير بن حازم إلى حماد بن زيد، فجعل جرير يقول:" حدثنا محمد، قال: سمعت شريحاً. حدثنا محمد، قال: سمعت شريحاً "، فجعل حماد يقول:" يا أبا النضر: عن محمد عن شريح، عن محمد عن شريح "(2).
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل لأبيه: أبو معاوية فوق شعبة، أعني في حديث الأعمش؟ فقال:" أبو معاوية في الكثرة والعلم _ يعني علمه بالأعمش _، شعبة صاحب حديث يؤدي الألفاظ والإخبار، أبو معاوية عن عن مع أن أبا معاوية يخطئ على الأعمش خطأ "(3).
وقال الوليد بن مسلم: " كان الأوزاعي إذا حدثنا يقول: حدثنا يحيى، قال: حدثنا فلان، حدثنا فلان، حتى ينتهي، فربما حدثت كما حدثني، وربما قلت: (عن عن عن) تخففنا من الأخبار "(4).
والعلماء في حكم الإسناد المعنعن على مذاهب، يعتبر التنبيه فيها على ثلاثة:
المذهب الأول: هو من قبيل المرسل والمنقطع (5).
وهذا ذكره ابن الصلاح، ولم ينسبه لأحد، وهو مذكور عن شعبة بن الحجاج.
(1) الكفاية (ص: 553 _ 554).
(2)
أخرجه أحمد في " العلل "(النص: 4262) وإسناده صحيح.
(3)
العلل ومعرفة الرجال (النص: 2680).
(4)
أخرجه يعقوب بن سفيان في " المعرفة "(2/ 464) وإسناده صحيح.
(5)
انظر: المحدث الفاصل، للرامَهرمُزي (ص: 450)، والسنن الأبين، لابن رُشيْد (ص: 22 _ 25).
فقد قال: " فلان عن فلان مثله لا يجزئ "، وكان سفيان الثوري يقول:" يجزي "(1)، فلذا جاء شعبة أنه رجع عن قوله إلى قول سفيان (2)، ورأيت ظاهر عبارة ابن رجب الحنبلي من المتأخرين يدل عليه، كما سيأتي ذكره.
وهو مذهب مهجور، لا تساعد عليه طريقة النقلة في رواية الحديث، ولا منهج الأئمة الكبار في الحكم بصحة الحديث.
وقال ابن الصلاح وقد ذكر الإسناد المعنعن: " الصحيح، والذي عليه العمل أنه من قبيل الإسناد المتصل، وإلى هذا ذهب الجماهير من أئمة الحديث وغيرهم، وأودعه المشترطون للصحيح في تصانيفهم فيه وقبلوه
…
وهذا بشرط أن يكون الذين أضيفت العنعنة إليهم قد ثبتت ملاقاة بعضهم بعضاً مع براءتهم من وصمة التدليس " (3).
والمذهب الثاني: اشترط ثبوت السماع أو اللقاء في الجملة، ولو مرة، ثم جميع ما يرويه ذلك الراوي بالعنعنة عن ذلك الشيخ فهو محمول على الاتصال، ما لم يعرف بتدليس.
وهذا يمكن أن يستفاد من طريقة شعبة بن الحجاج، الذي عرف بتنقيبه عن السماع فيما أخذ عن شيوخه، إلى أن قال تلميذه يحيى بن سعيد القطان:
" كل شيء يحدث به شعبة عن رجل، فلا تحتاج أن تقول عن ذاك الرجل: إنه سمع فلاناً، قد كفاك أمره "(4).
(1) أخرجه عبدُ الله بن أحمد في " العلل "(النص: 3026).
(2)
حكى ذلك ابنُ عبد البر في " التمهيد "(1/ 13) ولم أقف عليه مُسنداً.
(3)
علوم الحديث (ص: 61).
(4)
أخرجه ابنُ أبي حاتم في " تقدمة الجرح والتعديل "(ص: 162) و " الجرح والتعديل "(1/ 1 / 35) وإسناده صحيح.
وهو مذهب كبار أئمة الحديث، فإنهم كانوا لا يثبتون الاتصال في محل العنعنة حتى يقوم الدليل عليه بين التلميذ والشيخ.
فهو قول ابن المديني والبخاري وجمهور المتقدمين، ومقتضى كلام أحمد بن حنبل وأبي زرعة الرازي وأبي حاتم الرازي وغيرهم من أعيان الحفاظ (1).
قلت: حكايته عن علي بن المديني، ذكره كثير من الأئمة، ولم أقف عليه مسنداً عنه، لكن في كلامه المعروف عنه ما يثبته ويدل عليه، كما علمناه مذهباً للبخاري من خلال كتبه، إذ عليه بنى (صحيحه).
قال الشافعي في جواب قول من قال له: " فما بالك قبلت ممن لم تعرفه بالتدليس أن يقول: (عن)
وقد يمكن فيه أن يكون لم يسمعه؟ " فيما ذكر عن أهل العلم ممن مضى من أهل بلده: " وكان قول الرجل: (سمعت فلاناً يقول: سمعت فلاناً يقول)، وقوله:(حدثني فلان عن فلان) سواء عندهم، لا يحدث واحد منهم عمن لقي إلا ما سمع منه ممن عناه بهذه الطريق، قَبِلنا منه:(حدثني فلان عن فلان) " (2).
وقال الخطيب بعد أن أورد عن بعض متأخري الفقهاء رد المعنعن بمجرد العنعنة: " أهل العلم بالحديث مجمعون على أن قول المحدث: (حدثنا فلان عن فلان) صحيح معمول به، إذا كان شيخه الذي ذكره يعرف أنه قد أدرك الذي حدث عنه ولقيه وسمع منه، ولم يكن هذا المحدث ممن يدلس، ولا يعلم أنه يستجيز إذا حدثه أحد شيوخه عن بعض من أدرك، حديثاً نازلاً، فسمى بينهما في الإسناد من حدثه به، أن يسقط ذلك المسمى ويروي الحديث عالياً، فيقول:(حدثنا فلان عن فلان) أعني الذي لم يسمعه
(1) شرح علل الترمذي (1/ 365، 372)، وانظر: موقف الإمامين، لخالد الدُّريس (ص: 269 _ 287) فقد ساق فيه عبارات طائفة من كبار الأئمة المتقدمين في إثبات هذا المذهب.
(2)
الرسالة (الفقرة: 1032).
منه؛ لأن الظاهر من الحديث السالم رواية مما وصفناه الاتصال، وإن كانت العنعنة هي الغالبة على إسناده " (1).
وقال ابن عبد البر: " تأملت أقاويل أئمة أهل الحديث، ونظرت في كتب من اشترط الصحيح في النقل منهم ومن لم يشترطه، فوجدتهم أجمعوا على قبول الإسناد المعنعن، لا خلاف بينهم في ذلك إذا جمع شروطاً ثلاثة، وهي: عدالة المحدثين، ولقاء بعضهم بعضاً مجالسة ومشاهدة، وأن يكونوا برآء من التدليس "(2).
وهذا هو الذي صححه طائفة من كبار متأخري الأئمة كابن الصلاح (3)، وابن رشيد الفهري (4)، والنووي (5)، والذهبي (6)، وغيرهم.
وهو في التحقيق ما جرى عليه البخاري وعرف من منهجه.
واللقاء وحده مع عدم التدليس كاف عند البخاري لإثبات الاتصال في الإسناد المعنعن، وكذلك كان شيخه علي بن المدني يرى (7).
واللقاء يثبت بالسماع الصريح الثابت في رواية، أو بالرؤية والاجتماع، أو بما يقوم من القرائن دليلاً عليه، كقدم التلميذ وكونه من أهل بيئة الشيخ، مع السلامة في كل ذلك من المعارض الراجح.
وحين ادعى مسلم الإجماع على ما ذهب إليه من الاكتفاء بالمعاصرة،
(1) الكفاية (ص: 421).
(2)
التمهيد (1/ 12).
(3)
صِيانة صحيح مسلم (ص: 128).
(4)
السنن الأبين (ص: 32).
(5)
شرح صحيح مسلم (ص: 128).
(6)
سير أعلام النبلاء (12/ 573).
(7)
وهذه مسألة يطول سردها ببراهينها، وقد وجدت الباحث الأستاذ خالد الدريس قد بينها بياناً جيداً في كتابه:" موقف الإمامين البخاري ومسلم من اشتراط اللقيا والسماع في السند المعنعن بين المتعاصرين "(ص: 108 ـ 114)، وهو كتاب قيم مفيد، وإن كان في بعض ما استنتجه فيه مما يناقش أو يخالف فيه.
قابله ابن رجب بأن ذكر أن مذهب الأئمة الكبار على خلافه، وعلى اشتراط ثبوت السماع، وقال:" بل اتفاق هؤلاء الأئمة يقتضي حكاية إجماع الحفاظ المعتد بهم على هذا القول، وأن القول بخلاف قولهم لا يعرف عن أحد من نظرائهم، ولا عمن قبلهم ممن هو في درجتهم وحفظهم "(1).
وأقول: فيما أطلقه ابن رجب من أن مذاهب أولئك الأئمة على اشتراط ثبوت السماع لا يساعد عليه ما أورده دليلاً لما قال، وبيانه: أنه استدل لذلك بأمثلة تطبيقية، تلخيصها في التالي:
1 _
جماعة رأوا النبي صلى الله عليه وسلم، لكنهم لم يثبت لهم منه سماع، فروايتهم عنه مرسلة، كطارق بن شهاب.
_ جماعة ثبتت رؤيتهم لبعض الصحابة، لكن حديثهم عنهم مرسل؛ لعدم السماع، كالأعمش، والرؤية أبلغ في الاتصال من مجرد إمكان اللقاء.
3 _
وجود بعض من ثبت له اللقاء والسماع اليسير من شيخ، ولم يسمع أكثر ما روى عنه معنعناً، كسعيد بن المسيب عن عمر.
وساق ابن رجب بعض عبارات الأئمة أحمد وأبي زرعة وأبي حاتم في ذلك، ثم قال:" فدل كلامهم على أن الاتصال لا يثبت إلا بثبوت التصريح بالسماع، وهذا أضيق من قول ابن المديني والبخاري، فإن المحكي عنهما: أنه يعتبر أحد أمرين: إما السماع وإما اللقاء، وأحمد ومن تبعه عندهم لا بد من ثبوت السماع "(2).
قلت: والنقد لما استخلصه ابن رجب عن هؤلاء الأئمة من وجهين:
الوجه الأول: ما ذكره من عباراتهم مستدلاً به فجميعه لا يخلو من واحد من الأحوال الأربعة التالية:
الأول: ما استدل به أن جماعة ثبتت لهم الرؤية ولم يثبت لهم
(1) شرح علل الترمذي (1/ 372).
(2)
شرح علل الترمذي (1/ 367).
السماع، فإن ذلك عرف بصغر سن أحدهم يوم إدراكه، وأنه لم يكن في عمر من يحتمل عنه ما روى عن ذلك الشيخ، كرواية ابن المسيب عن عمر، ورواية الأعمش عن أنس، مع ما ينضم إلى هذا الأخير مما عرف عنه من التدليس.
الثاني: عبارات لأحمد بن حنبل وغيره فيها التوقف عن القطع بالاتصال؛ لأنه لم يقف على ما يدل عليه، كقول أحمد، وقد سئل: يحيى بن أبي كثير سمع من أنس؟: " قد رآه، قال: رأيت أنساً، ولا أدري سمع منه أم لا "(1).
قلت: وهذا التوقف من جهة ما ورد من الريبة في الانقطاع؛ من أجل صغر يحيى حين أدرك أنساً.
الثالث: ما يوجد من نفي السماع في عبارات بعضهم في حق من عرف لهم الإدراك وإمكان اللقاء، كقول أبي زرعة الرازي في (أبي أمامة بن سهل بن حنيف):" لم يسمع من عمر "(2)، مع أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم، فليس في محل النزاع، إذ لانزاع أن الراوي إذا ثبت عدم سماعه فلا يغني لاتصال روايته ثبوت اللقاء، وإنما الشأن فيمن لم يثبت أنه لم يسمع، ولم يأت أنه سمع، وكان اللقاء والسماع ممكناً لثبوت الإدراك المجيز لتحقق ذلك.
الرابع: قيام شبهة في عدم الاتصال في محل العنعنة، مثل أن يروي الراوي عن رجل عاصره، لكنهما قد تباعدت أرضهما، ولا يعرف لأحدها ارتحال إلى بلد الآخر، مثل قول أبي حاتم الرازي في رواية ابن سيرين عن أبي الدرداء:" قد أدركه، ولا أظنه سمع منه، ذاك بالشام، وهذا بالبصرة "(3).
(1) المراسيل لابن أبي حاتم (ص: 240).
(2)
المراسيل لا بن أبي حاتم (ص: 16، 258).
(3)
المراسيل لابن أبي حاتم (ص: 187).
ويشبه هذا في قيام الشبهة، قول أحمد بن حنبل:" ابن سيرين لم يجئ عنه سماع من ابن عباس "(1)، فإن أحمد قال في نص آخر:" لم يسمع من ابن عباس شيئاً، كلها يقول: نبئت عن ابن عباس "(2)، فالانقطاع بينهما فيما يقول فيه (عن ابن عباس) في بعض الرواية عنه لا يحمل على الاتصال لمجرد الإدراك والمعاصرة، من أجل ما قام من شبهة التلقي بالواسطة.
ومثله كذلك، قول أحمد حين سئل: عبد الله البهي سمع من عائشة؟: " ما رأى في هذا شيئاً، إنما يروي عن عروة "(3) يعني إنما المعروف من حديثه عن عائشة بالواسطة، فقام ثبوت ذلك في حديثه شبهة على كونه لم يسمع منها البتة وإن عاصرها.
والوجه الثاني: ما ثبت عن هؤلاء الأئمة من اعتبار إمكان السماع قائماً مقام السماع.
فمن نصوصهم:
قال أبو داود السجستاني: قيل لأحمد (يعني ابن حنبل): سمع الحسن من عمران (4)؟ قال: " ما أنكره، ابن سيرين أصغر منه بعشر سنين سمع منه "(5).
وقال أبو داود: قلت لأحمد: عباس بن سهل، أدرك أبا حميد؟ قال:" عباس قديم "(6).
وقال ابن هانئ لأحمد بن حنبل: ابن إسحاق سمع من عطاء؟ قال:
(1) أخرجه ابن أبي حاتم في " المراسيل "(ص: 187) بإسناد صحيح.
(2)
العلل ومعرفة الرجال (النص: 1123، 3526).
(3)
المراسيل، لابن أبي حاتم (ص: 115) ونُسب فيه القول إلى عبد الله بن أحمد، والتصويب من " شرح العلل " لابن رجب (1/ 369).
(4)
أي الحسن البصري سمع من عمران بن حصين.
(5)
مسائل الإمام أحمد، رواية أبي داود (ص: 322).
(6)
مسائل الإمام أحمد، رواية أبي داود (ص: 326).
" نعم، ابن أبي ذئب أصغر من ابن إسحاق، وقد سمع من عطاء بن أبي رباح "(1).
وقال أبو بكر الأثرم: سألت أحمد قلت: محمد بن سوقة سمع من سعيد بن جبير؟ قال: " نعم، قد سمع من الأسود غير شيء " كأنه يقول: إن الأسود أقدم (2).
وسئل أحمد عن أبي ريحانة سمع من سفينة؟ قال: " ينبغي، هو قديم، قد سمع من ابن عمر "(3).
وسأل الترمذي أبا عبد الله البخاري عن حديث رواه عطاء بن يسار عن أبي واقد الليثي، قال: أترى هذا الحديث محفوظاً؟ قال: " نعم "، قلت له: عطاء بن يسار أدرك أبا واقد؟ فقال: " ينبغي أن يكون أدركه، عطاء بن يسار قديم "(4).
وقال أبو حاتم الرازي: " الزهري لم يسمع من أبان بن عثمان شيئاً؛ لا لأنه لم يدركه، قد أدركه وأدرك من هو أكبر منه، ولكن لا يثبت له السماع منه، كما أن حبيب بن أبي ثابت لا يثبت له السماع من عروة بن الزبير، وهو قد سمع ممن هو أكبر منه، غير أن أهل الحديث قد اتفقوا على ذلك، واتفاق أهل الحديث على شيء يكون حجة "(5).
قلت: أما قوله في الزهري عن أبان، فإنه علله بقوله:" كيف سمع من أبان وهو يقول: بلغني عن أبان؟ "(6)، فقام هذا شبهة تمنع من قبول عنعنته عن أبان.
(1) مسائل الإمام أحمد، رواية ابن هانئ (2/ 239).
(2)
نقله ابن رجب في " شرح علل الترمذي "(1/ 364).
(3)
نقله ابن رجب في " شرح العلل "(1/ 375).
(4)
العلل الكبير، للترمذي (2/ 633).
(5)
المراسيل (ص: 192).
(6)
المراسيل (ص: 191).
وأما ما ذكره في رواية حبيب عن عروة، وهو محل الشاهد، فمقتضى قوله أن لولا اتفاق أهل الحديث على نفي سماع حبيب من عروة لكانت روايته عنه متصلة؛ من أجل أنه سمع ممن هو أكبر منه.
وهذا موافق لأصل إجراء العنعنة على الاتصال ما لم يثبت ما ينافيه.
وحدث أحمد بن حنبل في " المسند " بحديث قال فيه: حدثنا محمد بن يزيد الواسطي، عن عثمان بن أبي العاتكة .. ، فقال عبد الله بن أحمد: قلت لأبي: من أين سمع محمد بن يزيد من عثمان بن أبي العاتكة؟ قال: " كان أصله شامياً، سمع منه بالشام "(1).
قلت: لعل الشبهة دخلت على عبد الله من جهة أن هذا واسطي، ويروي عن شامي بالعنعنة، فأزاحها عنه أبوه بكون الواسطي إنما كان بالشام، فكأنه جعل من مظنة اللقاء والسماع برهاناً كافياً على إثبات الاتصال.
وجرت بين ابن أبي حاتم وأبيه محاورة في سماع غزوان أبي مالك الغفاري من عمار بن ياسر، قال فيها: ما تنكره أن يكون سمع من عمار وقد سمع من ابن عباس؟ قال: " بين موت ابن عباس وبين موت عمار قريب من عشرين سنة "(2).
قلت: فدل هذا على أن اعتبار المعاصرة مع القرائن المساعدة دليلاً على الاتصال كان معروفاً من منهجهم.
فمن هذا يظهر أن ما خلص إليه ابن رجب من القول: " والصواب أن ما لم يرد فيه السماع من الأسانيد لا يحكم باتصاله، ويحتج به مع إمكان اللقي، كما يحتج بمرسل أكابر التابعين "(3)، فهذا في التحقيق ضعيف، مع مراعاة الذي لأجله كانوا يستعملون العنعنة.
(1) المسند (5/ 264).
(2)
علل الحديث (1/ 24).
(3)
شرح علل الترمذي (1/ 374).
المذهب الثالث: أن (عن) اتصال بشرط المعاصرة.
وهو الذي انتصر له مسلم بن الحجاج، وحكي فيه إجماع من تقدمه.
وقد ذكر مسلم في صدر " صحيحه " مقالة لم يفصح عن قائلها، حاصلها: أنه لا يكفي قول الراوي: (عن فلان) لإثبات اتصال ما بينهما، حتى وإن ثبت أنهما كانا جميعاً في عصر واحد، ومحتمل أن يكون الحديث الذي روى عن ذلك الشيخ قد سمعه منه وشافهه به، لكنا لا نعلم له منه سماعاً، ولم نجد في شيء من الروايات أنهما التقيا قط أو تشافها بحديث، وإنما يثبت الاتصال إذا ثبت أنهما اجتمعا مرة فأكثر، أو تشافها بالحديث (1).
ثم رد مسلم هذه المقالة وأنكرها، ووصفها بكونها مخترعة.
وقال: " القول الشائع المتفق عليه بين أهل العلم بالأخبار والروايات قديماً وحديثاً: أن كل رجل ثقة، روى عن مثله حديثاً، وجائز ممكن له لقاؤه والسماع منه؛ لكونهما جميعاً كانا في عصر واحد، وإن لم يأت في خبر قط أنهما اجتمعا ولا تشافها بكلام، فالرواية ثابتة، والحجة بها لازمة، إلا أن يكون هناك دلالة بينة أن هذا الراوي لم يلق من روى عنه، أو لم يسمع منه شيئاً "(2).
وناقش مسلم المقالة السابقة ورد ما يمكن التعلق به لأجلها، وهو احتمال الإرسال وعدم السماع بين الراوي وذلك الشيخ الذي عنعن عنه.
ثم أبطل ذلك بأن الاحتمال عندئذ يرد على كل موضع عنعنة، حتى في رواية الراوي عمن سمع منه مرة أو أكثر؛ لجواز أن يكون روى عنه بالواسطة فأسقطها وأرسله عنه.
(1) مقدمة صحيح مسلم (ص: 29).
(2)
مقدمة صحيح مسلم (ص: 29 _ 30).
وقال مسلم: " وما علمنا أحد من أئمة السلف ممن يستعمل الأخبار ويتفقد صحة الأسانيد وسقمها، مثل أيوب السختياني وابن عون ومالك بن أنس وشعبة بن الحجاج ويحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي، ومن بعدهم من أهل الحديث، فتشوا عن موضع السماع في الأسانيد .. وإنما كان تفقد من تفقد منهم سماع رواة الحديث ممن روى عنهم، إذا كان الراوي ممن عرف بالتدليس في الحديث وشهر به، فحينئذ يبحثون عن سماعه في روايته، ويتفقدون ذلك منه كي تنزاح عنهم علة التدليس "(1).
وذكر مسلم أمثلة عديدة لقبول أهل العلم الحديث تصحيحه والاحتجاج به، مع أنه لم يأت إلا من وجه قد قال فيه الراوي:(عن فلان) ولم يثبت أنهما اجتمعا ولا تشافها في شيء من الرواية.
وقال الحاكم في المعنعنات: " هي متصلة بإجماع أئمة النقل، على تورع رواتها عن أنواع التدليس "(2).
وهذا بينه مسلم ودل عليه ما ذكره الحاكم، تفيده كذلك عبارات بعض المتقدمين:
فقد قال أبو بكر الحميدي وهو يذكر صفة الحديث الثابت، فجعل ما يحدثه الراوي عن شيخ قد أدركه متصلاً بمجرد ذلك، قال:" وإن لم يقل كل واحد ممن حدثه: (سمعت) أو (حدثنا) حتى ينتهي ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإن أمكن أن يكون بين المحدِّث والمحدَّث عنه واحد أو أكثر؛ لأن ذلك عندي على السماع؛ لإدراك المحدث من حدث عنه حتى ينتهي ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولازم صحيح يلزمنا قبوله ممن حمله إلينا إذا كان صادقاً، مدركاً لمن روى ذلك عنه "(3).
(1) مقدمة صحيح مسلم (ص: 32 _ 33).
(2)
معرفة علوم الحديث (ص: 34).
(3)
أخرجه الخطيب في " الكفاية "(ص: 63) وإسناده صحيح.
وقال علي بن المديني: قلت ليحيى بن سعيد: بسر بن سعيد لقي زيد بن ثابت؟ قال: " وما ينكر أن يكون قد لقيه "، قلت روى عن أبي صالح عن زيد بن ثابت؟ قال:" قد روى شفيق عن رجل عن عبد الله "(1).
قلت: طرأت الشبهة لابن المديني من جهة وقوع رواية لبسر عن زيد بالواسطة، ولم يوقف له على رواية بالسماع منه، فرده القطان بكون الراوي قد يروي عن شيخه بالواسطة، وليس بلازم منه وجودها في كل ما يرويه عنه.
وتحرير محل النزاع:
أن الشرط المتفق عليه بين الجميع لتحقيق الاتصال: أن يكون الراوي المعنعن لم يثبت عليه في حديثه المعنعن تدليس، وأن أخذه الحديث عمن عنعن عنه مترجح.
فشرط البخاري ومن وافقه: أن يكون قد عرف بينهما اللقاء ولو مرة.
وشرط مسلم ومن وافقه: أن يكونا تعاصرا، فثبوت المعاصرة مع عدم التدليس مظنة للقاء الموجب للسماع فالاتصال.
وما يشترط له البخاري ثبوت اللقاء مندفع عند مسلم بعد ثقة الراوي بعدم تدليسه، فهو لا يسقط واسطة بينه وبين شيخه، وألزم القائل بمذهب البخاري أن ما خشيه من مظنة عدم الاتصال في هذه الحالة، أنه وارد كذلك في حالة اشتراط ثبوت اللقاء ولو مرة، فإن مظنة عدم الاتصال واردة أيضاً، ويلزم عليه اشتراط ثبوت السماع في كل موضع عنعنة.
والبخاري ومن وافقه يقولون بما قال به مسلم من تصحيح الاتصال بالمعاصرة إذا ترجح اللقاء بالقرائن، ومسلم أطلق القول في الاكتفاء بها، فأخذت على " صحيحه " أسانيد أعلت بالانقطاع، وليس كذلك البخاري.
(1) أخرجه ابن أبي حاتم في " تقدمة الجرح والتعديل "(ص: 244) وإسناده صحيح.
وطريق البخاري أمكن وأرجح، والمظنة التي أوردها مسلم مندفعة بشرط عدم التدليس أو ثبوت الإرسال في رواية معينة، وهو أوفق لما يوجبه مقتضى الاتصال كشرط للحديث الصحيح.
وعليه فالراجح: أن الإسناد المعنعن يحكم له بالاتصال فيما بين الراوي والمروي عنه بتلك الصيغة، بشرط ثلاثة:
الأول: أن يثبت اللقاء بينهما يقيناً أو غالباً.
والثاني: أن يسلم التلميذ من التدليس.
والثالث: أن لا يقوم دليل على عدم سماعه.
* * *