الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أما في الشرع، فالمعتبر في العدالة بعد الإسلام: هو السلوك الظاهر من الراوي، مما عرف معه أنه على استقامةٍ.
والإنسان يذكر بالخير أو بالشر بحسب ما يبدو منه، والسرائر موكولة إلى الله، فليس اعتبارها والبحث عنها مطلوباً لإثبات العدالة.
وقد صح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال:" إن أناساً كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيراً أمنَّاه وقرَّبناه، وليس إلينا من سريرته شيء، الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءاً لم نأمنه ولم نصدقه وإن قال: إن سريرته حسنة "(1).
والحد المعتبر في السلوك الظاهر: أن لا يوقف منه على مفسق في دينه.
و
لا يصلح عد الصغائر مفسقات
، من أجل انتفاء العصمة منها، فإن الله تعالى قال عن عباده في مقام الثناء عليهم:{الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَاّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} [النجم: 32].
وقد قال ابن عباس: ما رأيت شيئاً أشبه باللمم مما قال أبو هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم:" إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا، أدرك ذلك لا محالة، فزنا العين النظر، وزنا اللسان المنطق، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك كله أو يكذبه "(2).
قلت: فهذا دليل على أن الصغائر لا ينفك عنها عموم البشر، وهي
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في " الصحيح "(رقم: 2498) و " خلق أفعال العباد "(رقم: 416) والبيهقي في " الكبرى "(8/ 201) والخطيب في " الكفاية "(ص: 136) من طريق شُعيب بن أبي حمزة، عن الزهري، أخبرني حُميد بن عبد الرحمن، أن عبد الله بن عُتبة بن مسعود قال: سمعت عمر، به.
(2)
متفق عليه: أخرجه البخاري (رقم: 5889، 6238) ومسلم (رقم: 2657).
تكفر عن صاحبها بالحسنات الماحية، كالصلوات الخمس، وشهود الجمعة، وصوم رمضان، والاستغفار، والصدقة وغير ذلك، كما قال تعالى:{وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود: 114].
ولا يكون الفسق إلا بما يحتمل الشبهة في الشيء الذي يحكى عن الراوي، فقول مثلاً:(فلان كان يشرب المسكر)، كما قيلت في بعض الرواة، فهذه تحتمل أن يكون مراد قائلها بالمسكر: ما كان يراه أهل الكوفة في النبيذ ويستبيحونه منه، وهو مذهب كثير من ثقاتهم وفقهائهم، فلا يكون مفسقاً؛ لما يجري فيه من التأويل.
والفسق لا يجامع التأويل الذي ظهر وجهه.
أي: من وقع في مفسق متأولاً، فلا يفسق به، من أجل اعتقاده أنه غير مفسق، وذلك كالبدعة أيضاً، فهذا لا ينافي العدالة.
وكذلك من غلب فضله وصلاحه، فالأصل اعتبار ذلك منه، ما دام غالب حاله الاستقامة.
قال الشافعي: " لا نعلم أحداً أعطي طاعة الله تعالى حتى لم يخلطها بمعصية، إلا يحيى بن زكريا، ولا عصى الله عزوجل فلم يخلط بطاعة، فإذا كان الأغلب الطاعة فهو المعدل، وإذا كان الأغلب المعصية فهو المجرح "(1).
ويأتي لهذا مزيد بيان وتمثيل في الكلام على (صور الجرح غير المؤثر).
وهذه هي العدالة الدينية، ولا تغني وحدها لقبول حديث الراوي، حتى ينضم إليها ركن الضبط والإتقان لما يرويه.
(1) أخرجه ابن أبي حاتم في " آداب الشافعي ومناقبه "(ص: 305 _ 306) ومن طريقه: الخطيب في " الكفاية "(ص: 138) وإسناده صحيح.