الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الخامس:
درجات سوء الحفظ
سوء الحفظ باعتبار أثره على حديث الراوي درجات متفاوتة، محصورة في الجملة في قسمين:
القسم الأول: اختلال الضبط بما لا يسقط به الراوي
وتحته أربعة أصناف من الرواة:
الصنف الأول: من غلب ضبطه، واعتراه الوهم والخطأ في اليسير
من حديثه:
تقدم أنه ليس من شرط الثقة أنه لا يخطئ، وأن الخطأ لا تعصم منه نفس بشر، وإنما العبرة بغلبة الحفظ، وندرة الخطأ أو قلته.
فمن أمثلة في الثقات:
1 _
فراس بن يحيى المكتب.
قال علي بن المديني: سألت يحيى بن سعيد القطان عن فراس المكتب؟ فقال: " ما بلغني عنه شيء، ولا أنكرت من حديثه إلا حديث الاستبراء "(1).
(1) الجرح والتعديل (3/ 2 / 91)، سؤالات الآجري لأبي داود (النص: 538).
وحديث الاسْتبراء هوَ ما أخرجه عبْد الرزاق في " المصنف "(7/ 226 رقم: 12897) ومن طريقه: الطبراني في " الكبير "(9/ 393 رقم: 9677): عن الثوري، عن فِراس، عن الشعبي، عن علقمة، عن ابن مسعود، قال:" تسْتبرأ الأمة بحيْضةٍ ".
ولذا اتفق على توثيقه النقاد: أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وأبو حاتم الرازي، والنسائي، ومحمد بن سعد، والعجلي، وابن حبان، وغيرهم، ولم يضعفه أحد لروايته حديثاً منكراً؛ نظر لكثرة ما حدث به، وغاية ما جرح به قول يعقوب بن سفيان:" في حديثه لين، وهو ثقة "(1)، وكأنه اطلع على كلمة يحيى القطان فلينه قليلاً مع توثيقه.
2 _
إسحاق بن إبراهيم بن أبي إسرائيل المروزي.
كان ثقة في الحديث، ما عيب عليه إلا في رأيه في مسألة القرآن (2)، لكن قال ابن أبي حاتم: سئل أبو زرعة عنه؟ فقال: " كان عندي أنه لا يكذب "، فقيل له: إن أبا حاتم قال: ما مات حتى حدث بالكذب، فقال:" حدث بحديث منكر "(3).
قلت: فهذا إن سلم فإنه لم يتجاوز الحديث اليسير الذي لا يؤثر على ثقته في الجملة وصحة حديثه.
3 _
الحسن بن سوار البغوي.
هو صدوق ثقة، لكنه حدث بحديث واحد بإسناد منكر.
فقد قال الحافظ أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل الترمذي: حدثنا الحسن بن سوار أبو العلاء الثقة الرضى وقلت له: الحديث الذي حدثتنا: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت) أعده علي، وكان قد حدثتني به قبل
(1) المعرفة والتاريخ (3/ 92).
(2)
وَذلك أنه كان يتوقف في القرآن حينَ وقَعت المِحنةُ به، لا يقول: مَخلوقٌ، ولا غيرُ مخلوق.
(3)
الجرح والتعديل (1/ 1 / 210).
هذه المرة بسنتين. قال: نعم، حدثنا عكرمة بن عمار اليمامي، عن ضمضم بن جوس، عن عبد الله بن حنظلة بن الراهب، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت على ناقة، لا ضرب ولا طرد ولا إليك إليك.
قال أبو إسماعيل: سألت أحمد بن حنبل عن هذا الحديث؟ فقال: " هذا الشيخ ثقة ثقة، والحديث غريب "، ثم أطرق ساعة، وقال:" أكتبتموه من كتاب؟ "، قلنا: نعم (1).
وفي لفظ قال أحمد: " أما الشيخ فثقة، وأما الحديث فمنكر "(2).
وأنكر هذا الحديث غير أحمد من الحفاظ: علي بن المديني، وظاهر صنيع البخاري (3)، والعقيلي (4).
وذلك أن صواب الإسناد لهذا الحديث كما رواه أيمن بن نابل عن قدامة بن عبد الله الكلابي: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم الحديث.
فهؤلاء النقلة وشبههم لا يتوقف عن شيء من حديثهم حتى يقوم برهان على خطأ أحدهم في شيء معين من ذلك، ولا يلحقون بالمجروحين، بل هم ثقات، إنما يرد عين ما أخطأ فيه أحدهم، لا سائر حديثه.
كما تقدم أن ثقات درجات، والراوي الصدوق نازل عن درجة الثقة العليا لنزول درجته في الحفظ لكنا لا نسقط حديثه.
(1) أخرجه الخطيب في " تاريخه "(7/ 318 _ 319) بإسناد صحيح إلى أبي إسماعيل الترمذي، وسؤال أحمد إن كانوا كتَبوه من كتاب يَحتمل أنه على سبيل التعجب أن يكون منكراً وقد حدث به من كتاب، والاحتمال الأرجح أنه لكونه من كتاب فيكون قد دخله الخطأ من جهة إدخال حديث في حديث، وهذا مُتصورُ الوقوع عند الكتابة، ولعكْرمة بن عمار بالإسناد المذكور لهذا الحديث أيْضاً أثرٌ عن عُمر في سُجود السهو، والله أعلم.
(2)
أخرجه العُقيلي في " الضعفاء "(1/ 228).
(3)
العلل الكبير، للترمذي (1/ 385).
(4)
في " الضعفاء " له (1/ 228).
ومن أمثلة هذا الصنف: (محمد بن مصعب القرفساني)، قال ابن أبي حاتم: سألت أبا زرعة عنه؟ فقال: " صدوق في الحديث، ولكنه حدث بأحاديث منكرة "، قلت فليس هذا مما يضعفه؟ قال: نظن أنه غلط فيها ". قال: سألت أبي عنه فقال: " ضعيف الحديث "، قلت له: إن أبا زرعة قال كذا، وحكيت له كلامه، فقال: " ليس هو عندي كذا، ضعف لما حدث بهذه المناكير " (1).
ويفصح يحيى بن معين عن سبب ذلك فيقول: " لم يكن محمد بن مصعب من أصحاب الحديث، كان مغفلاً، حدث عن أبي الأشهب عن أبي رجاء عن عمران بن حصين: كره بيع السلاح في الفتنة، وإنما هو كلام أبي رجاء "(2).
فمثل هذا لا يلغي وصف الراوي بالصدق، ويبقيه في منزلة التوثيق وقبول الحديث، لكن ينظر في حديثه ويتأنى فيه حتى تزول شبهة النكارة عن حديثه المعين الذي يرويه.
وهذا الشأن فيمن ثبت أنه وقعت في حديثه بعض المناكير بسبب سوء الحفظ.
أما من ادعي ذلك عليه ولم يوقف منه على شيء من ذلك، فهذا باق على مطلق الثقة وصحة حديثه.
وهذا مثل (محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة)، وقد قال فيه على بن المديني:" كان عندنا ثقة، وقد أنكرت عليه أحاديث "(3)، فهذا الإنكار لا أثر له، وابن المديني لم يعتد به، وكذلك جرى غيره من النقاد على توثيقه.
(1) الجرح والتعديل (4/ 1 / 103).
(2)
العلل ومعرفة الرجال، رواية عبد الله بن أحمد (النص: 1142). وأبو رَجاء هوَ العُطاردي عِمْران بنُ ملحان.
(3)
سؤالات ابن أبي شيبة (النص: 110).
الصنف الثاني: من كان ضابطاً لكتابه، غير ضابط إذا حدث من حفظه.
إذا كان الراوي المعروف بسوء الحفظ رجع إلى كتاب صحيح، فكان يحدث من كتابه، فحديثه من الكتاب صحيح، ويرد من حديثه ما كان حدث به من حفظه.
وذلك مثل (شريك بن عبد الله القاضي)، فقد كان كثير الحديث جداً، لكنه سيىء الحفظ، وحديثه القديم صحيح مطلقاً، أما ما لم يتبين منه فهو ضعيف لسوء حفظه، إلا ما كان من كتابه فهو صحيح.
قال الحافظ محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي: " شريك كتبه صحاح، فمن سمع منه من كتبه فهو صحيح "، قال:" ولم يسمع من شريك من كتابه إلا إسحاق الأزرق "(1).
قلت: وقد يتكلم في الراوي لمثل هذه العلة، لكنه يعرف بتعاهد كتابه، فمثل يغلب في حديثه جانب الثقة.
وذلك مثل: (همام بن يحيى العوذي البصري)، فقد كان ثقة صادقاً، لكنه كان سيىء الحفظ، يغلط إذا حدث من حفظه.
قال يزيد بن زريع: " همام حفظه رديء، وكتابه صالح "(2)، وقال أبو حاتم الرازي:" ثقة صدوق في حفظه شيء "(3).
قلت: لكنه كان يتعاهد كتابه ويرجع إليه، فاندفع ما يخشى من سوء حفظه.
قال أحمد بن حنبل: " من سمع من همام بأخرة هو أصح، وذلك أنه
(1) أخرجه الخطيب في " الكفاية "(ص: 332) وإسناده صحيح.
(2)
أخرجه ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل "(4/ 2 / 108) والعُقيلي (4/ 367) والخطيب في " الكفاية "(ص: 332) وإسناده صحيح.
(3)
الجرح والتعديل (4/ 2 / 109).
أصابته مثل الزمانة، فكان يحدثهم من كتابه، فسماع عفان وحبان وبهز أجود من سماع عبد الرحمن؛ لأنه كان يحدثهم (يعني لعبد الرحمن، أي أيامهم) من حفظه.
قال عفان: حدثنا همام يوماً بحديث، فقيل له فيه، فدخل فنظر في كتابه، فقال: ألا أراني أخطئ وأنا لا أدري، فكان بعد يتعاهد كتابه " (1).
قلت: لكن تبقى حاجة إلى اعتبار هذا الوصف فيه، فإن بين أن ذلك الحديث من كتابه، فهو صحيح، لكن إن لم يبين فربما كان قد استثبته من كتابه وربما اعتمد فيه على مجرد حفظه، غير أن هذا لا يوجب التوقف عن قبول خبره، إنما يوجب الاحتياط فيه، فيبحث فيه عن وهمه وخطئه، فإن عدم فحديثه صحيح، وهكذا ما احتج به الشيخان من حديثه، وذلك من أجل ما عرف به من الصدق والأمانة والحرص على التثبت في الرواية، فذلك يجعله في محل من يقبل حديثه.
الصنف الثالث: من تميز ضبطه في حال، وسوء حفظه ولينه في حال.
وهذا جرح نسبي، لا يسقط بالراوي جملة، وإنما حيث تميز ما يتقنه من غيره، قبل المحفوظ، وطرح ما سواه، وهنا يجب أن تتنبه إلى أن بعض النقاد ربما أطلق وصف الضعف على من هذا نعته، فظن من لا خبرة له أنه ضعيف مطلقاً، وليس كذلك.
ولهذا الصنف صور:
الصورة الأولى: أن يكون ضابطاً إلا في حديث بعض الشيوخ.
(1) سؤالات أبي داود السجستاني لأحمد (النص: 490) وأخرج الخطيب في " الكفاية "(ص: 332) منه قصة عفان من طريق أبي داود، ونقل عبد الله بن أحمد عن أبيه نحوَ ذلك في " العلل " (النص: 682 _ 683) ومن طريقه: الخطيب في " الجامع "(رقم: 1027).
قلت: عفان هوَ ابنُ مُسلم، وحبان هوَ ابن هلال، وبهْزٌ هوَ ابن أسد.
مثل (عبد الرزاق بن عمر) ثقة إلا عن الزهري.
قال أبو زرعة الدمشقي: قلت لأبي مسهر _ أو قيل له _: فعبد الرزاق بن عمر؟ فأخبرنا أنه سمع سعيد بن عبد العزيز يقول: " ذهبت أنا وعبد الرزاق بن عمر إلى الزهري، فسمعنا منه "، فحدثنا أبو مسهر أن عبد الرزاق بن عمر أخبره من بعد ما أخبرهم سعيد ما أخبرهم، من حضوره معه عند الزهري: أنه ذهب سماعه من الزهري. قال أبو مسهر: ثم لقيني عبد الرزاق بعد، فقال: قد جمعتها، من بعدما أخبره أنها ذهبت، فقال لنا أبو مسهر:" فيترك حديثه عن الزهري، ويؤخذ عنه ما سواه "، قلت لأبي مسهر: يحدث عن إسماعيل بن عبيد الله، فقال:" ثقة " يعني في إسماعيل بن عبيد الله وغيره خلا الزهري، يعني لذهابها، أو لأنه تتبعها بعد ذهابها (1).
ومثل (عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة المسعودي) ثقة عن شيوخه من أهل بيته، لين عن غيرهم، وكان أيضاً قد اختلط.
قال الدارقطني: " إذا حدث عن أبي إسحاق وعمرو بن مرة والأعمش فإنه يغلط، وإذا حدث عن معن والقاسم وعون فهو صحيح، وهؤلاء هم أهل بيته "(2).
ومثل (عكرمة بن عمار)، صدوق عن إياس بن سلمة، لين عن غيره.
قال أحمد بن حنبل: " مضطرب عن غير إياس بن سلمة، وكأن حديثه عن إياس بن سلمة صالح "(3)، وقال:" أحاديث عكرمة بن عمار عن يحيى بن أبي كثير ضعاف، ليس بصحاح " قال له عبد الله ابنه: من عكرمة أو من يحيى؟ قال: " لا، إلا من عكرمة "، وقال:" أتقن حديث إياس بن سلمة "(4).
(1) تاريخ أبي زُرعة الدمشقي (1/ 378).
(2)
سؤالات السلمي للدارقطني (النص: 255).
(3)
العلل ومعرفة الرجال، لأحمد بن حنبل (النص: 733).
(4)
العلل (النص: 3255).
ومثل (جرير بن حازم) ثقة إلا عن قتادة ويحيى بن سعيد الأنصاري، فكان سيىء الحفظ.
قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سألت يحيى (يعني ابن معين) عن جرير بن حازم؟ فقال: " ليس به بأس "، فقلت له: إنه يحدث عن قتادة عن أنس أحاديث مناكير؟ فقال: " ليس بشيء، هو عن قتادة ضعيف "(1).
وقال ابن عدي: " له أحاديث كثيرة عن مشايخه، وهو مستقيم الحديث، صالح فيه، إلا روايته عن قتادة، فإنه يروي أشياء عن قتادة لا يرويها غيره "(2).
وقال مسلم بن الحجاج: " وجرير لم يعن في الرواية عن يحيى، إنما روى من حديثه نزراً، ولا يكاد يأتي بها على التقويم والاستقامة، وقد يكون من ثقات المحدثين من تضعف روايته عن بعض رجاله "(3).
ومثل (حماد بن سلمة)، فقد كان من أثبت الناس في ثابت البناني، لكن قال مسلم:" وحماد يعد عندهم إذا حدث عن غير ثابت، كحديثه عن قتادة وأيوب ويونس وداود بن أبي هند والجريري ويحيى بن سعيد وعمرو بن دينار وأشباههم، فإنه يخطئ في حديثهم كثيراً "(4).
الصورة الثانية: أن يكون متقناً فيما حدث به في بلد، دون ما حدث به في غيره.
وذلك من أجل عدم التمكن في غير بلده، يخطئ لذلك.
مثل (شبيب بن سعيد الحبطي)، قال علي بن المديني: " بصري ثقة،
(1) العلل ومعرفة الرجال، رواية: عبد الله عن أبيه وزياداته عن غيره (النص: 3912).
(2)
الكامل (2/ 355).
(3)
التمييز، لمسلم (ص: 217).
(4)
التمييز، لمسلم (ص: 218).
كان من أصحاب يونس (1)، كان يختلف في تجارة إلى مصر، وكتابه كتاب صحيح " (2). قال ابن عدي:" عنده عن يونس عن الزهري، وهي أحاديث مستقيمة، وحدث عنه ابن وهب بأحاديث مناكير، وكأن شبيباً إذا روى عنه ابنه أحمد بن شبيب نسخة يونس عن الزهري إذ هي أحاديث مستقيمة ليس هو شبيب بن سعيد الذي يحدث عنه ابن وهب بالمناكير، ولعل شبيباً بمصر في تجارته إليها كتب عنه ابن وهب ومن حفظه؛ فيغلط ويهم، وأرجو أن لا يتعمد شبيب هذا الكذب "(3).
وتكلم فيما حدث به (محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب) في العراق دون الحجاز (4).
الصورة الثالثة: أن يكون متقناً فيما حمله من حديث أهل بلده دون غيرهم.
وهذا متصور من أجل اعتناء الراوي بحديث أهل بلده فيتقن حفظه، دون ما حدث به عن غيرهم.
وذلك مثل (إسماعيل بن عياش الحمصي)، قال يحيى بن معين:" إذا حدث عن الشاميين فحديثه صحيح، وإذا حدث عن العراقيين أو المدنيين خلط ما شئت "(5).
وقال ابن عدي بعد أن ذكر طائفة من حديثه عن غير أهل بلده الشاميين: " هذه الأحاديث من أحاديث الحجاز ليحيى بن سعيد، ومحمد بن عمرو، وهشام بن عروة، وابن جريج، وعمر بن محمد، وعبيد الله الوصافي، وغير ما ذكرت من حديثهم، ومن حديث العراقيين، إذا رواه
(1) هوَ ابنُ يزيد الأيلي.
(2)
الكامل، لابن عدي (5/ 47).
(3)
الكامل (5/ 49).
(4)
التمييز، لمسلم بن الحجاج (ص: 191).
(5)
أخرجه ابن حبان في " المجروحين "(1/ 77) وإسناده لا بأس به.
ابن عياش عنهم فلا يخلو من غلط يغلط فيه، إما أن يكون حديثاً موصولاً يرسله، أو مرسلاً يوصله، أو موقوفاً يرفعه، وحديثه عن الشاميين إذا روى عنه ثقة فهو مستقيم الحديث، وفي الجملة: إسماعيل بن عياش ممن يكتب حديثه ويحتج به في حديث الشاميين خاصة " (1).
ومن هؤلاء (بقية بن الوليد الشامي)، قال ابن عدي:" في بعض رواياته يخالف الثقات، وإذا روى عن أهل الشام فهو ثبت، وإذا روى عن غيرهم خلط، كإسماعيل بن عياش، إذا روى عن الشاميين فهو ثبت، وإذا روى عن أهل الحجاز والعراق خالف الثقات في روايته عنهم "(2).
الصورة الرابعة: أن يكون ثقة مقبولاً في أحاديث الرقائق والمواعظ، دون الأحكام.
وهذه الصورة راجعة في الأصل إلى تسهل أهل الحديث في روايات المعروفين بالصدق في غير ما يثبت حكماً أو أصلاً، لعلة أن الأحكام مما تتوافر الهمم على حفظه، فكونه لا يأتي إلا من طريق من في حفظه ضعف، فذلك شبهة على عدم إتقانه، بخلاف أبواب الرقائق وشبهها فالشواهد لها في الأصل قائمة، فالراوي المتكلم في حفظه لا يأتي فيها بما لا يحتمل مثله.
وهذا مثل: (فليح بن سليمان المدني)، فقد خرج له البخاري في " صحيحه " في مواضع، وهو لين الحديث ليس بالقوي فيه، لكن عذر البخاري أنه لم يخرج له في الأحكام شيئاً، إنما عامة ما أخرجه له إما ما هو معروف من غير طريقه أو رقائق.
وتكلم بعض النقاد في حفظ (محمد بن إسحاق) صاحب " السيرة "، في روايته في غير السير.
(1) الكامل (1/ 488).
(2)
الكامل (2/ 276).
نقل أبو الفضل عباس بن محمد الدوري عن أحمد بن حنبل قال: " أما محمد بن إسحاق فهو رجل تكتب عنه هذه الأحاديث " كأنه يعني المغازي ونحوها " فأما إذا جاء الحلال والحرام أردنا قوماً هكذا " ، وقبض أبو الفضل أصابع يده الأربع من كل يد ولم يضم الإبهام (1).
وسئل عبد الله بن أحمد بن حنبل عن (محمد بن إسحاق)؟ فقال: كان أبي يتتبع حديثه ويكتبه كثيراً بالعلو والنزول، ويخرجه في (المسند)، وما رأيته اتقى حديثه قط، قيل له: يحتج به؟ قال: " لم يكن يحتج به في السنن "(2).
فابن إسحاق ثقة حجة في السير والمغازي؛ لا عتنائه بها، وهو في التحقيق صدوق في الأحكام، يحكم لحديثه بالحسن بعد السبر والنظر وتحقق حفظه له على الوجه.
الصورة الخامسة: أن يكون متقناً في النقل لغير الحديث، دون ذلك في الحديث.
وفي هذا أن الناقل يكون قد انصرف همه إلى الاعتناء بفن فأتقنه، وتقحم الحديث وليس من فنه فأتى بما لا يحمد، فحيث تميز لنا أمره وعرفنا الفصل فيما روى، فنقتصر على جرحه في الحديث خاصة دون سائر ما روى من العلم.
وهذا مثل (حفص بن سليمان القارئ)، فقد بلغ به سوء حفظه ونكارة حديثه إلى أن كان متروكاً في الحديث، لكنه حجة في القراءة، بل عليه المعول في قراءة عاصم، والتي يقرأ بها اليوم أكثر أهل الإسلام.
(1) أخرجه الدوري في " تاريخ يحيى بن معين "(النص: 231) ومن طريقه: البيهقي في " دلائل النبوة "(1/ 37 _ 38).
(2)
أخرجه الخطيب في " تاريخه "(1/ 230) وإسناده جيد.
وقال يحيى بن معين في (زياد بن عبد الله البكائي): " ليس حديثه بشيء، وكان عندي في المغازي لا بأس به "(1).
قلت: يعني في روايته " المغازي " عن ابن إسحاق.
الصورة السادسة: ثقة في الأصل، لكن اختلط وتغير حفظه بأخرة، للكبر، أو لعارض.
الاختلاط، هو: فساد العقل بالخرف، لتقدم السن غالباً، أو لعوارض أخرى.
مثل (صالح بن نبهان مولى التوأمة)، سأل محمد بن عثمان بن أبي شيبة علي بن المديني عن صالح مولى التوأمة؟ فقال:" صالح ثقة، إلا أنه خرف وكبر، فسمع منه قوم وهو خرف كبير، فكان سماعهم ليس بصحيح: سفيان الثوري منه سمع منه بعدما خرف، وكان ابن أبي ذئب قد سمع منه قبل أن يخرف "(2).
وقال ابن أبي مريم: سمعت يحيى بن معين يقول: " صالح مولى التوأمة ثقة حجة "، قلت له: إن مالكاً ترك السماع منه، فقال لي:" إن مالكاً إنما أدركه بعد أن كبر وخرف، وسفيان الثوري إنما أدركه بعد ما خرف، فسمع منه سفيان أحاديث منكرات، وذلك بعدما خرف، ولكن ابن أبي ذئب سمع منه قبل أن يخرف "(3).
وروى عباس الدوري عن يحيى بن معين، قال:" خرف قبل أن يموت، فمن سمع منه قبل أن يختلط فهو ثبت "(4).
(1) الجرح والتعديل (1/ 2 / 538).
(2)
سؤالات ابنُ أبي شيبة (النص: 79).
(3)
الكامل، لابن عدي (5/ 85).
(4)
تاريخ يحيى بن مَعين (النص: 783).
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: قلت لأبي: إن بشر بن عمر زعم أنه سأل مالكاً عن صالح مولى التوأمة؟ فقال: " ليس بثقة "؟ فقال أبي: " مالك كان قد أدرك صالحاً وقد اختلط وهو كبير، من سمع منه قديماً فذاك، وقد روى عنه أكابر أهل المدينة، وهو صالح الحديث، ما أعلم به بأساً "(1).
وقال ابن عدي: " هو في نفسه ورواياته لا بأس به إذا سمعوا منه قديماً، فالسماع القديم منه سمع منه ابن أبي ذئب وابن جريج وزياد بن سعد وغيرهم، ممن سمع منه قديماً، فأما من سمع منه بأخرة فإنه سمع وهو مختلط، ولحقه مالك والثوري وغيرهما بعد الاختلاط، وحديث صالح الذي حدث به قبل الاختلاط ولا أعرف له حديثاً منكراً إذا روى عنه ثقة، وإنما البلاء ممن دون ابن أبي ذئب، ويكون ضعيفاً فيروي عنه، ولا يكون البلاء من قبله، وصالح مولى التوأمة لا بأس بروايته وحديثه "(2).
أما ابن حبان، فإنه ذكر قول يحيى بن معين من رواية الدوري عنه، وقال بعده:" هو كذلك لو تميز حديثه القديم من حديثه الأخير، فأما عند عدم التمييز لذلك واختلاط البعض بالبعض يرتفع به عدالة الإنسان حتى يصير غير محتج به ولا معتبر بما يرويه "(3).
قلت: كلام ابن حبان هذا من حيث التأصيل في شأن المختلط صحيح في الجملة، لكن القدح في عدالته إنما أراد به الإتقان، وعدم الاعتبار بما يرويه ليس على معنى الترك.
أما بالنظر إلى حال صالح، فليس كما قال؛ لأنه قد تميز أن رواية ابن أبي ذئب والأقدمين عنه كانت قبل اختلاطه، وما مثل به ابن حبان من
(1) الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم (2/ 1 / 417 _ 418).
(2)
الكامل (5/ 88).
(3)
المجروحين، لابن حبان (1/ 366).
الحديث الذي أنكره عليه فهو من رواية ابن أبي ذئب عنه ولم يرده ابن حبان إلا من جهة معارضته في رأيه لحديث آخر صحيح، وليس بينهما معارضة في التحقيق.
وأمثلته في الثقات عديدة، ومن أحسن ما فيه كتاب " الكواكب النيرات في معرفة من اختلط من الرواة الثقات " لأبي البركات ابن الكيال (المتوفى سنة: 939).
ومن العوارض الأخرى غير الخرف، ما قاله أبو حاتم الرازي في (أبي بكر بن أبي مريم):" ضعيف الحديث، طرقته لصوص فأخذوا متاعه، فاختلط "(1).
ومن علة الجرح بالاختلاط أن المختلط ربما قبل التلقين.
مثل ما حدث به أحمد بن حنبل، قال:" رأيت سنيداً عند حجاج بن محمد، وهو يسمع منه كتاب (الجامع) _ يعني لابن جريج _، فكان في الكتاب: ابن جريج، قال: أخبرت عن يحيى بن سعيد، و: أخبرت عن الزهري، و: أخبرت عن صفوان بن سليم. فجعل سنيد يقول لحجاج: قل يا أبا محمد: ابن جريج عن الزهري، و: ابن جريج عن يحيى بن سعيد، و: ابن جريج عن صفوان بن سليم. فكان يقول له هكذا ".
قال عبد الله بن أحمد: ولم يحمده أبي فيما رآه يصنع بحجاج، وذمه على ذلك.
قال أحمد: " وبعض هذه الأحاديث التي كان يرسلها ابن جريج أحاديث موضوعة، كان ابن جريج لا يبالي من أين يأخذه " يعني قوله: (أخبرت)، و (حدثت عن فلان)(2).
(1) الجرح والتعديل (1/ 1 / 405).
(2)
العلل ومعرفة الرجال، لأحمد (النص: 3610) وسُنيدٌ هو الحسين بن داود.
وليس من الاختلاط قول الحاكم في (عبد الله بن محمد بن عقيل): " عمر، فساء حفظه، فحدث على التخمين "(1).
فهذا إنما هو ضعف للحفظ للكبر، كالذي وقع لهشام بن عروة، ولم يقدح في حديثه، وليس خرفاً.
حكم حديث المختلط:
وقع كثيراً من أئمة الحديث الكبار متقدميهم ومتأخريهم تعليل الروايات بأن فلاناً إنما سمع من فلان بعد أن اختلط.
فهذا أحمد بن حنبل يعلل حديثاً من رواية زهير بن معاوية عن أبي إسحاق السبيعي، فيقول:" زهير سمع من أبي إسحاق بأخرة "(2).
قال الحازمي: " أما من زال عقله بأمر طارئ، كالاختلاط وتغيب الذهن؛ فلا يعتد بحديثه، ولكن يلزم الطالب البحث عن وقت اختلاطه، فإن كان لا يمكن الوصول إلى علمه طرح حديثه بالكلية؛ لأن هذا عارض قد طرأ على غير واحد من المتقدمين والحفاظ المشهورين، فإذا تميز له ما سمعه ممن اختلط في حال صحة جاز له الرواية عنه وصح العمل فيها "(3).
وجوب تحقيق تأثير الاختلاط في حديث الراوي الموصوف به:
الراوي إذا أطلق الكبار من نقاد المحدثين توثيقه، وذكر أنه اختلط لما كبر، فالأصل التوثيق حتى يتبين الوهم بسبب الاختلاط، ولا يجوز رد حديثه بمجرد هذا الوصف له.
فهذا (بحر بن مرار بن عبد الرحمن بن أبي بكرة) وصفه يحيى بن
(1) سؤالات مَسعود السجزي (النص: 78).
(2)
مسائل الإمام أحمد، رواية أبي داود السجستاني (ص: 303).
(3)
شُروط الأئمة، للحازمي (ص: 52).
سعيد القطان بالاختلاط، فقال:" رأيته قد اختلط "، وتبع بعضهم يحيى على ذلك، وطائفة أطلقت توثيقه دون الاعتداد بوصفه بالاختلاط، وذلك أن الرجل لم يثبت وهمه في شيء أو تحديثه بما ينكر بسبب ما قاله يحيى من اختلاطه، مما يجيز أن يكون لم يحدث بعد اختلاطه بشيء، ولذا قال ابن عدي:" لا أعرف له حديثاً منكراً فأذكره، ولم أر أحداً من المتقدمين ممن تكلم في الرجال ضعفه إلا يحيى القطان ذكر أنه كان قد خولط، ومقدار ما له من الحديث لم أر فيه حديثاً منكراً "(1).
أما إن ثبت أن الاختلاط أضر بحديثه، فلينوه بعد اختلاطه من أجل ذلك، فهذا هو الذي لا يقبل من حديثه إلا ما حدث به قبل اختلاطه، وذلك بحسب قدم السامعين منه، وما حدث به بعد الاختلاط فهو صالح للاعتبار ما لم يثبت فيه وهم أو خطأ فيميز.
قال ابن حبان وقد ذكر المختلط في آخر عمره: " لا نعتمد من حديثهم إلا ما روى عنهم الثقات من القدماء الذين نعلم أنهم سمعوا منهم قبل اختلاطهم، وما وافقوا الثقات في الروايات التي لا نشك في صحتها وثبوتها من جهة أخرى؛ لأن حكمهم وإن اختلطوا في أواخر أعمارهم، وحمل عنهم في اختلاطهم بعد تقدم عدالتهم، حكم الثقة إذا أخطأ، أن الواجب ترك خطئه إذا علم، والاحتجاج بما نعلم أنه لم يخطئ فيه، وكذلك حكم هؤلاء: الاحتجاج بهم فيما وافقوا الثقات، وما انفردوا مما روى عنهم القدماء من الثقات الذين كان سماعهم منهم قبل الاختلاط سواء "(2).
كما قال ابن عدي في (سعيد بن إياس الجريري) و (سعيد بن أبي عروبة): " سعيد الجريري مستقيم الحديث وحديثه حجة من سمع منه قبل
(1) الكامل، لابن عدي (2/ 236).
(2)
الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان (1/ 161).
الاختلاط، وهو أحد من يجمع حديثه من البصريين، وسبيله كسبيل سعيد بن أبي عروبة، لأن سعيد بن أبي عروبة أيضاً اختلط، فمن سمع منه قبل الاختلاط فحديثه مستقيم حجة " (1).
وقال في (ابن أبي عروبة): " من سمع منه قبل الاختلاط فإن ذلك صحيح حجة، ومن سمع بعد الاختلاط فذلك ما لا يعتمد عليه "(2).
ويخرج من هذا الأصل: ما دل التحري أن راوياً ممن حدث عن المختلط بعد اختلاطه قد انتفى من حديثه المستقيم المحفوظ؛ فهذا استثناء يلحق بالمقبول الصالح للاحتجاج من حديث ذلك المختلط.
قال يحيى بن معين: قلت لوكيع بن الجراح: تحدث عن سعيد بن أبي عروبة وإنما سمعت منه في الاختلاط؟ قال: " رأيتني حدثت عنه إلا بحديث مُستوٍ؟! "(3).
ومن هذا ما خرجه الشيخان من حديث من روى عن بعض الثقات المختلطين بعد اختلاطهم، فإنهما لم يخرجا من حديث هذا الضرب ما يمكن إنكاره، وما خرجا منه إلا ما هو محفوظ.
وتلخيص القسمة في الراوي الثقة الذي ثبت أنه اختلط أن قبول ما يقبل من حديثه ورد ما يرد منه على أحوال أربعة تضبط بحسب من روى عنه:
أولها: أن يثبت أن السماع وقع منه قبل اختلاطه، فهذا يحتج به.
وثانيها: أن يثبت أن السماع وقع منه بعد اختلاطه، فهذا ضعيف لا يحتج به، وإنما يصلح للاعتبار إن لم يكن مما ثبت خطؤه فيه بعينه فيجتنب الخطأ.
(1) الكامل (4/ 445 _ 446).
(2)
الكامل (4/ 451).
(3)
أخرجه الخطيب في " الكفاية "(ص: 217) بإسناد صحيح.
وثالثها: أن يثبت أن السماع وقع منه بعد اختلاطه، ولكن من حمل عنه تحرى في أخذه عنه، فلم يحمل عنه إلا صحيح حديثه، فهذا يحتج به.
ورابعها: أن لا يتبين متى وقع السماع منه: قبل الاختلاط أو بعده، فهذا يتحرى فيه، ويلحق بأشبه حديثه قبل اختلاطه غالباً ألحق بمن يحتج بحديثه عنه، وإن كان العكس فالعكس، وإن تحير الباحث توقف فيه، وهذا يجعله صالحاً للاعتبار على أدنى تقدير.
الراوي يختلط فلا يتميز صحيح حديثه من سقيمه:
وهذه حال خارجة عن وصف الثقة، إذ هذا الصنف من الرواة ضعفاء.
وصورته: الراوي يختلط فيأتي بالمنكرات بسبب اختلاطه، ولا يتميز ما حدث به على الصحة من غيره.
فهذا يضعف مطلقاً، وغاية أمره أن يصلح حديثه للاعتبار، إذا لم يبلغ حد الترك.
ومن مثاله: (ليث بن أبي سليم)، قال مؤمل بن الفضل _ وكان ثقة _: قلنا لعيسى بن يونس: لم تسمع من ليث بن أبي سليم؟ قال: " قد رأيته وكان قد اختلط، وكان يصعد المنارة ارتفاع النهار فيؤذن "(1).
وقال ابن حبان في (عبيد بن معتب): " كان ممن اختلط بأخرة، حتى يجعل يحدث بالأشياء المقلوبة عن أقوام أئمة، ولم يتميز حديثه القديم من حديثه الجديد، فبطل الاحتجاج به "(2).
(1) أخرجه ابنُ أبي حاتم في " الجرح والتعديل "(3/ 2 / 178) وابنُ حبان في " المجروحين "(1/ 68، و 2/ 232) بإسناد صحيح.
(2)
المجروحين (2/ 173).
وممن وقع له ذلك ولم يتميز من حمل عنه قبل اختلاطه ممن حمل عنه بعده، فضعف مطلقاً (يزيد بن أبي زياد)، قال ابن حبان:" كان يزيد صدوقاً، إلا أنه لما كبر ساء حفظه وتغير، فكان يتلقن ما لقن، فوقع المناكير في حديثه من تلقين غيره إياه وإجابته فيما ليس من حديثه؛ لسوء حفظه، فسماع من سمع منه قبل دخوله الكوفة في أول عمره سماع صحيح، وسماع من سمع منه في آخر قدومه الكوفة بعد تغير حفظه وتلقنه ما يلقن سماع ليس بشيء "(1).
قلت: ولا يكاد يتميز شيء مما حدث به قبل التغير، إلا أن يظهر بالمتابعة، أما لذاته فضعيف.
التخليط غير الاختلاط بأخرة:
التخليط اختلال عارض في الضبط يقع في حال الصحة لا الخرف.
ومنه قول أبي حاتم الرازي في (أحمد بن عبد الرحمن بن وهب ابن أخي عبد الله بن وهب: " كتبنا عنه وأمره مستقيم، ثم خلط بعد، ثم جاءني خبره أنه رجع عن التخليط "، وقال:" كان صدوقاً ".
قال ابن أبي حاتم: سمعت أبا زرعة وأتاه بعض رفقائي، فحكى عن أبي عبيد الله ابن أخي ابن وهب أنه رجع عن تلك الأحاديث، فقال أبو زرعة:" إن رجوعه مما يحسن حاله، ولا يبلغ به المنزلة التي كان قبل ذلك "(2).
وهذا زال تخليطه وضبط حديثه ورجع عن خطئه.
ومن الرواة من يقع ذلك له فيتمكن منه سوء الحفظ، حتى لا يقيم الحديث.
(1) المجروحين (3/ 100).
(2)
الجرح والتعديل (1/ 1 / 60).
مثل (إسماعيل بن مسلم المكي)، وقد ضعفوه، قال يحيى القطان:" لم يزل مخلطاً، كان يحدثنا بالحديث الواحد على ثلاثة ضروب "(1).
ومثل (صالح بن أبي الأخضر)، قال عمرو بن علي: سمعت معاذ بن معاذ العنبري، وذكر صالح بن أبي الأخضر، فقال: سمعته يقول: سمعت من الزهري، وقرأت عليه، فلا أدري هذا من هذا، فقال يحيى بن سعيد القطان وهو إلى جنبه:" لو كان هكذا لكان خيراً، ولكنه سمع وعرض، ووجد شيئاً مكتوباً، فقال: لا أدري هذا من هذا "(2).
وقال ابن حبان: " يروي عن الزهري أشياء مقلوبة .. اختلط عليه ما سمع من الزهري بما وجد عنده مكتوباً، فلم يميز هذا من ذاك ".
قال: " من اختلط عليه ما سمع بما لم يسمع ثم لم يرع عن نشرها بعد علمه بما اختلط عليه منها، حتى نشرها وحدث بها وهو لا يتيقن بسماعها؛ لبالحري (3) أن لا يحتج به في الأخبار؛ لأنه في معنى من يكذب وهو شاك، أو يقول شيئاً وهو يشك في صدقه، والشاك في صدق ما يقول لا يكون بصادق "(4).
الصنف الرابع: من غلب عليه سوء الحفظ، فغلب في حديثه احتمال خطئه ووهمه، مع بقاء وصف الصدق له في الجملة.
وهذا كثير في الرواة المجروحين، ممن يعتبر بحديثهم، ولم يسقطوا، وتقدم له أمثلة كثيرة في الرواة كليث بن أبي سليم، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وعلي بن زيد بن جدعان، وشبههم من الضعفاء الذين يكتب حديثهم ويعتبر به.
(1) أخرجه ابنُ أبي حاتم في " الجرح والتعديل "(1/ 1 / 198) بإسناد صحيح.
(2)
المجروحين (1/ 368 _ 369)، وانظر: الجرح والتعديل (2/ 1 / 394).
(3)
أي: جدير.
(4)
المجروحين (1/ 368، 369).
القسم الثاني: فساد الضبط إلى حد
أن يكون الراوي متروك الحديث
وهذا يقع بغلبة المناكير على حديث الراوي، فيوصف بكونه:" منكر الحديث "، أو " متروك الحديث ".
فأما أن يكون " متروك الحديث " فلا يدخل هذا الوصف اشتباه، إذ هو الراوي غلب عليه الوهم والخطأ حتى فحش، وغلبت المنكرات على حديثه، حتى ربما أورده الشبهة عليه بالكذب، فاتهم به بناء على ذلك، كما بينت بعض أمثلته في (المبحث الثاني).
ومن مثاله (عبد الله بن سلمة الأفطس) اتفقوا على كونه متروك الحديث، بل اتهم، ويفسر ابن حبان جرحه بقوله:" كان سيىء الحفظ، فاحش الخطأ، كثير الوهم "(1).
ولكن يقع الاشتباه في الراوي يوصف بكونه (منكر الحديث)، فإن تلك النكارة على درجات في عبارات النقاد، بينتها في (تفسير عبارات الجرح والتعديل)، وفي (القسم الثاني) عند الكلام على (الحديث المنكر)، حيث أطلقت على الراوي لا يبلغ الترك، كما أطلقت على المتروك.
طريق كشف النكارة:
والمعتبر في وصف الراوي بذلك في الأصل هو ما أتى به من الروايات المنكرة التي علمت نكارتها، بالتفرد بغير المعروف، أو بالمخالفة للمعروف، بالقدر الذي يغلب على حديث الراوي.
كما قال مسلم بن الحجاج: " علامة المنكر في حديث المحدث: إذا ما عرضت روايته للحديث على رواية غيره من أهل الحفظ والرضى،
(1) المجروحين (2/ 20).
خالفت روايته روايتهم، أو لم تكد توافقها، فإذا كان الأغلب من حديثه كذلك، كان مهجور الحديث، غير مقبوله ولا مستعلمه، فمن هذا الضرب من المحدثين: عبد الله بن محرر، ويحيى بن أبي أنيسة، والجراح بن المنهال أبو العطوف، وعباد بن كثير، وحسين بن عبد الله بن ضميرة، وعمر بن صهبان، ومن نحا نحوهم في رواية المنكر من الحديث، فلسنا نعرج على حديثهم ولا نتشاغل به " (1).
ومن طريق كشف نكارة الحديث: أن يستغرب الحديث مما تفرد به عن الثقة، فيبحث عن أصله في كتب ذلك الثقة وقد عرف اعتناؤه بحديثه ورجوعه إلى أصول، فلا يوجد فيها الحديث، فيعرف بذلك أن الحديث منكر.
قال أبو داود السجستاني: سمعت أحمد سئل عن حديث إبراهيم بن سعد عن أبيه، عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" الأئمة من قريش "؟ قال: " ليس هذا في كتب إبراهيم، لا ينبغي أن يكون له أصل "(2).
ومن أمثلته في الرواة: (محمد بن أبي حميد الزرقي)، قال أحمد بن حنبل:" أحاديثه أحاديث مناكير "(3)، وفي معناه قول يحيى بن معين المجمل:" ليس بشيء "(4)، وقال أبو حاتم:" منكر الحديث، ضعيف الحديث، مثل ابن أبي سبرة ويزيد بن عياض، يروي عن الثقات المناكير "(5).
قلت: وهذا منكر الحديث، قد يتردد في بلوغه الترك.
(1) مُقدمة صحيح مُسلم (ص: 7).
(2)
مسائل الإمام أحمد، رواية أبي داود (ص: 289).
(3)
العلل ومعرفة الرجال (النص: 2811).
(4)
تاريخ يحيى بن مَعين (النص: 800).
(5)
الجرح والتعديل (3/ 2 / 234).
و (مغيرة بن زياد الموصلي)، قال أحمد بن حنبل:" ضعيف الحديث "، وقال:" روى عن عطاء عن ابن عباس في الرجل تحضره الجنازة، قال: لا بأس أن يصلي عليها ويتيمم "، قال أحمد: رواه ابن جريج وعبد الملك عن عطاء، مرسل "، قال أحمد: " وروى عن عطاء عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم: من صلى في يوم ثنتي عشرة ركعة. وهذا يروونه عن عطاء عن عنبسة عن أم حبيبة: من صلى في يوم ثنتي عشرة ركعة بني له بيت في الجنة. وروى عن عطاء عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر قصر وأتم، والناس يروونه عن عطاء، مرسل " (1).
وقال عبد الله بن أحمد: سألت أبي عن حديث المغيرة بن زياد عن عطاء عن عائشة قالت: قصر النبي صلى الله عليه وسلم في السفر وأتم، وصام وأفطر، يصح؟ قال:" له أحاديث منكرة "، وأنكر هذا الحديث (2).
وقال أحمد مرة: " ضعيف الحديث، له أحاديث منكرة "، وفي موضع آخر:" ضعيف الحديث، أحاديثه أحاديث مناكير "، وفي موضع:" كل حديث رفعه مغيرة بن زياد فهو منكر "(3).
أما يحيى بن معين فقلل قدر المناكير في حديثه، فقال:" له حديث واحد منكر "، وفسره عبد الله بن أحمد عن أبيه بحديث ابن عباس في الرجل تمر به الجنازة يتيمم ويصلي (4).
قلت: وهذا مثال لمن يتردد بين الترك والاعتبار.
و (محمد بن معاوية النيسابوري)، قال أحمد بن حنبل:" رأيت أحاديثه موضوعة "، وقال أبو حاتم الرازي: " روى أحاديث لم يتابع عليها، أحاديثه
(1) العلل ومعرفة الرجال (النص: 835).
(2)
مسائل عبد الله بن أحمد عن أبيه (النص: 558).
(3)
العلل ومعرفة الرجال (النص: 1501، 3361، 4012).
(4)
العلل (النص: 4011).
منكرة، فتغير حاله عند أهل الحديث "، وكان يحيى بن معين يقول: " كذاب "، لكن أبا زرعة الرازي يفسر تلك المنكرات منه بسبب قبوله التلقين، فيقول: " كان شيخاً صالحاً، إلا أنه كلما لقن يلقن، وكلما قيل: إن هذا من حديثك حدث به، يجيئه الرجل فيقول: هذا من حديث معلى الرازي، وكنت أنت معه، فيحدث بها على التوهم " (1).
وهذا التفسير من أبي زرعة يدفع عنه تعمد الكذب، مع أن أحاديثه موضوعة، فمثله متروك الحديث على أي حال.
والعلة في التردد في بعض هؤلاء بين الاعتبار بحديثه أو تركه كلية، وكذلك من كان أمره إلى ترك حديثه مطلقاً، هو قدر الغلط في حديثهم.
وحيث إن أحدهم لم يبلغ به الجرح حد التهمة، فإن سبب الجرح يعود إلى سوء حفظه الموجب كثرة خطئه وغلبته.
مظان سياق منكرات الراوي:
كتب الجرح والتعديل قد سلك أكثرها مسلك الاختصار، فمع أن الناقد صار إلى جرح الراوي بحسب ما ظهر له من حاله وحديثه، إلا أنه لا يكاد يسوق مثالاً من مرويات ذلك المجروح مما كان دليلاً لديه على جرحه، سوى أن ما تفرق من جرح للرواة في أثناء كتب علل الحديث يصلح أن يستفاد من تلك الأحاديث المعللة أمثلة على ما من أجله قدح في بعض الرواة، فهذا طريق.
كذلك اعتنى المتأخرون الذين صنفوا في تتبع المجروحين بجمع أنكر ما للراوي المجروح، أو مثلوا ببعض ذلك ليستدل به على ما عداه، وذلك مثل: أبي أحمد بن عدي في كتاب " الكامل "، وأبي جعفر العقيلي في كتاب " الضعفاء "، وأبي حاتم بن حبان في كتاب " المجروحين "، كما جرى على
(1) الجرح والتعديل (4/ 1 / 103 _ 104).
سننهم الذهبي في " ميزان الاعتدال " بحكاية بعض ما قالوا، وبالزيادة عليه.
لكن يجدر بك أن تعلم أنهم ربما ذكروا الحديث الثابت، يكون التمثيل له للمنكر من حديث الراوي مرجوحاً، أو لا يكون ذكر الراوي في هذه الكتب صواباً أصلاً، وابن عدي خاصة أكثرهم اعتناء بذكر ما ينكر على الراوي، لكنه يزيد فيذكر من غرائبه وأفراده، زد على ذلك أنه ربما ذكر من الرواة من الصواب فيه التعديل، في نظر ابن عدي نفسه أو نظر غيره من أهل العلم، وربما ساق للراوي من حديثه ما يستدل به على أن حديثه من قبيل المحتمل أو الصالح أو المستقيم المحفوظ.
* * *