الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني:
تحرير منع تقديم الجرح على التعديل إلا بشروط
التأصيل: أن من ثبت تعديله من ناقد عارف، فالواجب منع المصير إلى خلافه إلا بحجة.
والتحقيق من مذاهب أهل العلم: أن الجرح الثابت عن الناقد العارف متروك حتى تجتمع فيه شروط ثلاثة:
الشرط الأول:
أن يكون مفسراً، ولو من ناقد واحد
الجرح المجمل: هو اللفظ ظاهره القدح، لكن لم يبين وجهه، ولم يشرح سببه، كقول الناقد في راو:(ضعيف)، أو (ليس بشيء)، أو (متروك)، أو استعماله عبارة من العبارات النادرة الاستعمال، كقوله:(ارم به)، أو يسأل عن الراوي، فيشير بيده، أو لسانه، أو يحرك رأسه.
كما لا عبرة بعدد المعدلين والجارحين على التحقيق، وما يسلكه بعض المنتسبين لهذا العلم من المتأخرين من حساب عدد من جرح ومن عدل، فيصير إلى الراجح بالعدد، فمذهب ضعيف لا يقوم على أصول هذا العلم.
فالتأصيل: أن الجرح ولو كان من واحد في مقابل تعديل الجمع، إذا سلم كونه قادحاً، قدم على التعديل، لأن الجارح بما هو قادح بمنزلة زيادة العلم من الثقة، فالجارح قد اطلع على ما يخرج ذلك الراوي عن محل السلامة في العدالة أو الضبط، إلى حيز الجرح والقدح (1)، دون أن يكون لمجرد العدد تأثير في ذلك.
فإن قلت: لم لا يقدح الجرح مطلقاً ما دام صادراً من ناقد عارف، بناء على أن التعديل إنما جاء على وفاق الأصل، الذي هو السلامة من الجرح، والجرح زيادة علم جاء به الناقد، والأصل أن هؤلاء الناقد لما عرف من درايتهم بالنقلة، فهم يعنون ما يقولون، لا يطلقون عبارة الجرح إلا أن تكون جارية على اعتبارهم أسباب الجرح القادح المؤثر؟
فالجواب: الاشتباه واقع فيما يرد على لفظ الجرح من الاحتمال بسبب الإجمال، مع صحة وقوع المثال من قبل النقاد أنفسهم أنهم ربما أطلقوا اللفظ ظاهره الجرح، ويحتمل وجهاً غير معارض للتعديل، كما أن أحدهم ربما جرح بغير جارح، أو بلغه سبب الجرح عن غيره فبنى عليه، أو خرج منه مخرج الغضب والانفعال.
قال أبو الطيب الطبري: " لا يقبل الجرح إلا مفسراً، وليس قول أصحاب الحديث: (فلان ضعيف) و (فلان ليس بشيء) مما يوجب جرحه ورد خبره، وإنما كان كذلك، لأن الناس اختلفوا فيما يفسق به، فلا بد من ذكر سببه؛ لينظر: هل هو فسق أم لا؟ ".
قال الخطيب: " وهذا القول هو الصواب عندنا، وإليه ذهب الأئمة من حفاظ الحديث ونقاده، مثل: محمد بن إسماعيل البخاري، ومسلم بن الحجاج النيسابوري، وغيرهما "(2).
(1) وانظر: الكفاية، للخطيب (ص: 175 _ 177).
(2)
الكفاية، للخطيب (ص: 179).
ومن أمثلته المؤكدة لوجوب تحقق هذا الشروط:
ما رواه عباس الدوري في (بريدة بن سفيان بن فروة الأسلمي)، قال: سمعت يحيى (يعني ابن معين) يقول: حدث يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن محمد بن إسحاق فقال: رأيت بريدة بن سفيان يشرب الخمر في طريق الري.
قال الدوري: " والذي يظن ببريدة بن سفيان أنه شرب نبيذاً، فرآه محمد بن إسحاق فقال: رأيته يشرب خمراً، وذاك أن النبيذ عند أهل المدينة ومكة خمر، لا أنه يشرب خمراً بعينها إن شاء الله، فهذا وجه الحديث عندي "(1).
قلت: وكأن الجوزجاني استعمل هذه الحكاية للطعن عليه حين قال: " مغموص عليه في دينه "(2)، فزاد الجرح إبهاماً، فتأمل!
وقال يحيى القطان: " كان محمد بن سيرين لا يرضى حميد بن هلال "(3).
فقال ابن عدي: " لحميد بن هلال أحاديث كثيرة، وقد حدث عنه الناس والأئمة، وأحاديثه مستقيمة، والذي حكاه يحيى القطان أن محمد بن سيرين لا يرضاه لا أدري ما وجهه، فلعله كان يرضاه في معنى آخر ليس الحديث، فأما في الحديث فإنه لا بأس به وبروايته "(4).
والأمر كما قال ابن عدي، وذلك المعنى الآخر غير الحديث بينه أبو حاتم الرازي بقوله:" دخل في شيء من عمل السلطان، فلهذا كان لا يرضاه، وكان في الحديث ثقة "(5).
(1) تاريخ يحيى (النص: 268، 1923) وعنه في: الكامل (2/ 243) ومعرفة علوم الحديث، للحاكم (ص: 72).
(2)
الكامل (1/ 243).
(3)
الجرح والتعديل (1/ 2 / 230).
(4)
الكامل (3/ 81).
(5)
الجرح والتعديل (1/ 2 / 230).
وقال علي بن المديني: سألت يحيى بن سعيد القطان عن (الربيع بن عبد الله بن خطاف)، وقلت له: إن عبد الرحمن بن مهدي يثنى عليه، فقال:" أنا أعلم به "، وجعل يضرب فخذه تعجباً من عبد الرحمن، وقال:" لا ترو عنه شيئاً "، فقلت: لا أروي عنه حديثاً أبداً (1).
قلت: فهذا جرح مجمل، لم يذكر يحيى له سبباً، وتسليمه له مع قيام المعارض، وهو التعديل لا يصح.
قال ابن عدي: لم أر له حديثاً يتهيأ لي أن أقول من أي جهة أنه ضعيف، والذي يرويه عن الحسن وابن سيرين إنما هي مقاطيع " (2).
وتبين أن العلة التي تكلم لأجلها فيه يحيى هي مظنة أنه كان يذهب إلى القول بالقدر.
بين ذلك ما نقلة علي بن المديني قال: سألت عبد الرحمن بن مهدي عنه؟ فقال: " كان عندي ثقة في حديثه "، قلت لعبد الرحمن: كان يرى القدر؟ قال: " كان يجالس عمرو بن فائدٍ يوم الجمعة "(3).
ومما يبين ضرورة تفسير سبب الجرح وقوع الحالات التالية:
أولاً: أن الكلام في الراوي قد يكون بسبب منكرات جاءت من طريقة، ليس الحمل فيها عليه، إنما على مجروح أو مجهول غيره في الإسناد فوقه أو دونه.
فتكلمت طائفة من النقاد في (بقية بن الوليد)، وذلك في التحقيق لشهرته بكثرة الرواية عن المتروكين والمجهولين، حتى أضر ذلك به عند طائفة.
(1) الجرح والتعديل (1/ 2 / 466) والضعفاء للعُقيلي (2/ 49) والكامل (4/ 43).
(2)
الكامل (4/ 43)، ويعني بقوله:(مقاطيع) أي مقطوعات، يعني كلامَ الحسن وابن سيرين، وليست أحاديث مرفوعة، أو آثاراً موقوفة.
(3)
الضعفاء، للعُقيلي (2/ 49)، وابنُ فائد هذا كانَ يذهب مذهب المعتزلة في القدر.
قال الدارقطني: " يروي عن قوم متروكين، مثل مجاشع بن عمرو، وعبد الله بن يحيى، ولا أعرفه، ولا أعلم له راوياً غير بقية "(1).
قال ابن عدي: " إذا روى عن المجهولين، فالعدة عليهم، والبلاء منهم لا منه "(2).
ومن أمثلته: ما حكاه أبو حاتم الرازي في (عثمان بن أبي العاتكة): سمعت دحيماً يقول: " لا بأس به، ولم ينكر حديثه عن غير علي بن يزيد، والأمر من علي "، فقيل له: إن يحيى بن معين يقول: الأمر من القاسم أبي عبد الرحمن، فقال:" لا ".
قلت: ودحيم المرجع في رواة الشاميين، وعثمان هذا منهم، ولذا قال أبو حاتم:" لا بأس به، بليته من كثرة روايته عن علي بن يزيد، فأما ما روي عن عثمان عن غير علي بن يزيد فهو مقارب، يكتب حديثه "(3).
وقال الذهبي في (أبي الحسن علي بن عبد الله بن الحسن بن جهضم الهمذاني): " ليس بثقة، بل متهم يأتي بمصائب "(4)، فعارض قول الحافظ شيرويه الديلمي:" كان ثقة صدوقاً عالماً زاهداً، حسن المعاملة، حسن المعرفة بعلوم الحديث "(5).
وتبين أن التهمة بالكذب حكاها ابن الجوزي فقال: " ذكروا أنه كان كذاباً، ويقال: إنه وضع صلاة الرغائب " ونقل عن أبي الفضل بن خيرون قوله: " قد تكلموا فيه "(6).
(1) سؤالات السلمي للدارقطني (النص: 89).
(2)
الكامل (2/ 276).
(3)
الجرح والتعديل (3/ 1 / 163).
(4)
سيَر أعلام النبلاء (17/ 276)، ومعناه في " الميزان "(3/ 142).
(5)
من كتابه " طبقات الهَمذانيين "، نقله عنه الرافعي في " تاريخ قزوين "(3/ 370) وابنُ حجر في " اللسان "(4/ 277).
(6)
المنتظم، لابن الجوزي (15/ 161).
وهذا الطعن متهافت، فمن ذا كذبه، فالجرح لا يقبل من مجهول، والتهمة بوضع صلاة الرغائب جاءت من جهة أنه روى الحديث فيها، لكنه لم يكن سوى ناقل، وعلتها ممن فوقه، فإسنادها مجهول (1).
وكثير من الثقات رووا عن المجهولين والضعفاء والمتهمين ما هو منكر أو كذب، وما لحقهم الجرح بسببه، إنما التهمة لمن يعرف من رجاله بالعدالة.
وتفطن إلى صورة تقابل هذه، وهي: أن يكون الراوي عن المتكلم فيه مجروحاً، فيروي عنه منكرات، والحمل فيه على ذلك المجروح.
كما قال الدارقطني في (سماك بن حرب): " إذا حدث عنه شعبة والثوري وأبو الأحوص فأحاديثهم عنه سليمة، وما عن شريك بن عبد الله وحفص بن جيمع ونظرائهم ففي بعضها نكارة "(2).
وكما قال ابن عدي في (ثابت بن أسلم البناني): " هو من ثقات المسلمين، وما وقع في حديثه من النكرة فليس ذلك منه، إنما هو من الراوي عنه؛ لأنه قد روى عنه جماعة ضعفاء ومجهولون، وإنما هو في نفسه إذا روى عمن هو فوقه من مشايخه فهو مستقيم الحديث ثقة "(3).
وذكر ابن عدي جماعة من الرواة، عيبهم من هذا الباب، فذب عنهم، وحمل النكارة في أحاديث جاءت عنهم على أنها من قبل الأسانيد إليهم (4).
ثانياً: قد يكون الجرح من أجل الخطأ في حديث معين، فيطلق الناقد العبارة في الراوي، وليس الأمر كما قال، بل الإنصاف أن يقيد الجرح بما أخطأ فيه خاصة، ويحتج به فيما سوى ذلك.
(1) انظر تعليقي على كتاب أبي القاسم بن منده: " الرد على من يقول (الم) حرف "(ص: 39).
(2)
سؤالات السلمي (النص: 158).
(3)
الكامل (2/ 308).
(4)
فانظر مثلاً: الكامل (3/ 73) ترجمة (حُميد بن قيس الأعرج)، و (4/ 161) ترجمة (زيد بن رُفيع).
مثاله: عبد الرحمن بن نمر الشامي، روى عن الزهري ومكحول، وروى عنه الوليد بن مسلم وسليمان بن كثير.
قال فيه يحيى بن معين: " ابن نمير ضعيف في الزهري "(1).
وهذا الجرح تبين أنه كان من أجل حديث معين، أورده ابن عدي من طريقه عن الزهري عن عروة بن الزبير، أنه سمع مروان بن الحكم يقول: أخبرتني بسرة بنت صفوان الأسدية أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بالوضوء من مس الذكر، والمرأة مثل ذلك.
ثم قال ابن عدي: " هذا الحديث بهذا الزيادة التي ذكر في متنه: والمرأة مثل ذلك، لا يرويه عن الزهري غير ابن نمر هذا ".
قال: " له عن الزهري غير نسخة، وهي أحاديث مستقيمة .. وقول ابن معين: هو ضعيف في الزهري، ليس أنه أنكر عليه في أسانيد ما يرويه عن الزهري، أو في متونها، إلا ما ذكرت من قوله: والمرأة مثل ذلك، وهو في جملة من يكتب حديثه من الضعفاء "(2).
وأقول: بل ذهب ناقد أهل الشام دحيم إلى تصحيح حديثه عن الزهري، كما قال الخبير بحديث الزهري الحافظ محمد بن يحيى الذهلي بعد أن أطلق ثقته:" لا تكاد تجد لا بن نمر حديثاً عن الزهري إلا ودون الحديث مثله يقول: سألت الزهري عن كذا؟ فحدثني عن فلان وفلان، فيأتي بالحديث على وجهه "(3).
على أنه من الجائز أن تكون تلك الزيادة التي أجلها ضعفه ابن معين على ما بينه ابن عدي مدرجة من قول الزهري ورأيه، والزهري
(1) تاريخه (النص: 1164) وفي سؤالات ابنِ الجنيد (النص: 140): " ضعيف الحديث ".
(2)
الكامل (5/ 477، 478).
(3)
تهذيب التهذيب، لابن حجر (2/ 561).
معروف بمثل ذلك يدرج في المتون التفسير والرأي، خصوصاً مع مراعاة ما ذكره الذهلي من أنه كان يسأل الزهري.
ثالثاً أن يكون الجرح عائداً إلى كون الراوي قد ضعف في شيخ معين، أو في حال معين، فهذا لا يصلح فيه قبول الجرح المطلق، بل يرد من حديثه القدر الذي ضعف فيه، ويحتج بما سواه من حديثه.
قال ابن القيم منبهاً على ما يقع من بعضهم الغلط فيه من مثل هذا: " أن يرى الرجل قد تكلم في بعض حديثه، وضعف في شيخ، أو في حديث، فيجعل ذلك سبباً لتعليل حديثه وتضعيفه أين وجده، كما يفعله بعض المتأخرين من أهل الظاهر وغيرهم، وهذا غلط، فإن تضعيفه في رجل أو في حديث ظهر فيه غلط لا يوجب التضعيف لحديثه مطلقاً، وأئمة الحديث على التفصيل والنقد واعتبار حديث الرجل بغيره، والفرق بين ما انفرد به أو وافق فيه الثقات "(1).
تنبيه:
مما يكون من قبيل الجرح المجمل: ذكر الراوي في كتب الضعفاء.
شأن جماعة من الثقات أوردهم ابن عدي والعقيلي في كتابيهما في الضعفاء.
فابن عدي في " الكامل " ذكر طائفة من أعيان الثقات، ممن حكم هو بأنهم من الثقات المتقنين، منهم: حبيب بن أبي ثابت، وثابت بن أسلم البناني، وأبو العالية الرياحي، وسعيد بن أبي سعيد المقبري، وأبو الزناد عبد الله بن ذكوان، وأبو نضرة العبدي، وعبد الله بن وهب المصري، وغيرهم.
(1) الفروسية (ص: 62).
وذكرهم من أجل كلام بعضهم فيه، وكان شرطه إيراد كل متكلم فيه ليذب عنه.
بل ذكر ابن عدي في (كتابه) بعض الصحابة لأجل الحديث الذي روي عنهم، لا لجرح فيهم، مثل: ذي اليدين، وزيد بن أبي أوفي، وسليك الغطفاني، وأبي الطفيل عامر بن واثلة.
وبين ابن عدي وجه ذلك فقال: " وكل من له صحبة ممن ذكرنا في هذا الكتاب، فإنما تكلم البخاري في ذلك الإسناد الذي انتهى فيه إلى الصحابي، أن ذلك الإسناد ليس بمحفوظ، وفيه نظر، لا أنه يتكلم في الصحابة، فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لحق صحبتهم، وتقادم قدمهم في الإسلام، لكل واحد منهم في نفسه حق وحرمة؛ للصحبة، فهم أجل من أن يتكلم أحد فيهم "(1).
وكذا أورد العقيلي في (كتابه) جماعة وهم من المتقنين: أمية بن خالد القيسي، وجرير بن عبد الحميد الضبي، وعلي بن مسهر، وعلي بن المديني، وغيرهم.
ومع اشترط الذهبي في " الميزان " استقصاء من تكلم فيه، وإن كان من الثقات المتقنين؛ لإبطال دعوى الجرح فيهم، إلا أنه تحاشى ذكر أحد من الصحابة، وقال في بيان شرطه:" إلا ما كان في كتاب البخاري وابن عدي وغيرهما من الصحابة، فإني أسقطهم؛ لجلالة الصحابة، ولا أذكرهم في هذا المصنف؛ فإن الضعف إنما جاء من جهة الرواة إليهم "(2).
قلت: وطريقة الذهبي أجود.
(1) الكامل (4/ 163).
(2)
ميزان الاعتدال (1/ 2).