الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول:
صور الجرح غير المؤثر
اعلم أنه ليس كل جرح في الراوي مقبولاً، فلا يعتد إلا بجرح من أهله، ولا يعتد بجرح إلا بصيغة بينة واضحة أن علة جرحه كذا كذا، وكانت تلك الجرحة قادحة، وسلمت من المعارض الراجح.
وقد وقع في هذا الباب القدح في الرواة بأسباب غير معتبرة في التحقيق، أقدم بيانها ليخلص القول بعدها في تحرير القول في الأسباب المؤثرة، وذلك في صور:
الصور الأولى: استعمال المباحات، أو ما يختلف فيه الاجتهاد حلاًّ وحرمة
.
فوقع الراوي في الشيء من ذلك لا يجوز أن يعد قادحاً، إذ استعمال المباح مشروع، ولا يقدح في العدالة استعمال المشروعات، ولا يصح أن تكون مفسقات، وإن جرى العرف بتركها على التحقيق، فإن العرف لا يصلح دليلاً على المنع مما أباحه الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وما يختلف فيه الاجتهاد، فهذا إن فعله الراوي فلا يقدح فيه من جهة ما يكون له معه من عذر المخالفة، وخلاف العلماء في الأحكام كثير بينهم.
وقد جاوز بعض النقاد فجرح الراوي أو تركه لمثل ذلك، فمن أمثلته:
1 _
قال شعبة بن الحجاج: " لقيت ناجية الذي روى عنه أبو إسحاق، فرأيته يلعب بالشطرنح، فتركته، فلم أكتب عنه، ثم كتبت عن رجل عنه "(1).
قال الخطيب: " ألا ترى أن شعبة في الابتداء جعل لعبه بالشطرنج مما يجرحه، فتركه، ثم استبان له صدقه في الرواية وسلامته من الكبائر، فكتب حديثه نازلاً "(2).
قلت: ومعروف عن شعبة تشديده في ترك حديث الراوي لشيء رآه منه في غير الحديث، مما يحتمل التأويل أو الخطأ.
عن ورقاء بن عمر، قال: قلت لشعبة: ما لك تركت حديث فلان؟ قال: " رأيته يزن إذا وزن فيرجح في الميزان، فتركت حديثه "، وقلت لشعبة: ما لك تركت حديث فلان؟ قال: " رأيته يركض دابته، فتركت حديثه "(3).
وكان شعبة يقع في (الخصيب بن جحدر) يقول: " رأيته في الحمام يغير مئزر "(4).
وقال يحيى القطان: أتى شعبة المنهال بن عمرو، فسمع صوتاً، فتركه، يعني الغناء (5).
(1) أخرجه الخطيب في " الكفاية "(ص: 183) بإسناد صحيح.
(2)
الكفاية (ص: 183).
(3)
أخرجه ابن حبان في " المجروحين "(1/ 30 وإسناده حسن، وبعضه أخرجه الخطيب في " الكفاية " (ص: 182).
(4)
أخرجه العقيلي في " الضعفاء "(2/ 30) وإسناده صحيح.
(5)
أخرجه ابن عدي في " الكامل "(8/ 41) وإسناده صحيح. وفسَّر أبو حاتم الرازي ذلك الصوت بقوله: " يعني أنه سمع صوْت قراءة بألحان، فكرهَ السماع منه لأجل ذلك "(تقدمة الجرح والتعديل، ص: 153 ونحوه ص: 172). والصواب أنه الغِناء أو آلته، فقد أخرج الخطيب في " الكفاية " (ص: 183) بإسناد صحيح إلى شُعبة، قال:" أتيت منزل المنهال بن عمرو، فسمعت فيه صوت الطنبور، فرجعت "، فقال له وهْب بن جرير: فهلَاّ سألت؟ عسى ألا يعلم هو.
2 _
وقال جرير بن عبد الحميد: " أتيت سماك بن حرب، فرأيته يبول قائماً، فرجعت ولم أسأله عن شيء، قلت: قد خرف "(1).
3 _
وقصة شرب الكوفيين للنبيذ معروفة، وقولهم فيه مشهور في عصر النقل والرواية، وكانت استباحتهم حاصلة بالتأويل، فالقدح على راو رأى ذلك الرأي أو فعل ذلك الفعل بمجرد ذلك جرح مردود غير معتبر.
قال يحيى بن معين: " وكيع وابن نمير كانوا يشربون النبيذ، وإنما كان نبيذهم يجعلونه في التنور، يشربونه اليوم واليومين والثلاثة، ويهريقونه، ولا يشربون كلا نبيذ يزداد على الترك جودة ".
وقال: " شريك وسفيان ووكيع وكل من رخص فيه كلهم يكرهون المعتق "(2).
وقال أيضاً: " ومن رخص فيه فيما أسكر كثيره: شريك وسفيان وحسن بن حي ووكيع وابن نمير، وهؤلاء، وهم مع ذلك ينهون عن الخليطين، وعن المنادمة والمعاقره والجلوس عليه، والنقيع عندهم خمر، والبصريون يرخصون في النقيع ويقولون: هو حلال، وكل نبيذ يجوز ثلاثة أيام فلا خير فيه عندهم وعند سفيان وشريك وابن حي وابن نمير ووكيع وأبي معاوية، كلهم يكرهه "(3).
وقال يحيى بن معين أيضاً: " تحريم النبيذ صحيح، وأقف عنده لا أحرمه، قد شربه قوم صالحون بأحاديث صحاح، وحرمه قوم آخرون بأحاديث صحاح "(4).
(1) أخرجه ابنُ عدي في " الكامل "(4/ 541) بإسناد صحيح.
(2)
من كلام أبي زكريا، رواية يزيد بن الهيثم (النص: 204، 205).
(3)
سؤالات ابن الجنيد (النص: 94).
(4)
سؤالات ابن الجنيد (النص: 287).
وأحسن ما قيل فيمن واقع مثل هذه المخالفة متأولاً: قول أبي حاتم الرازي: جاريت أحمد بن حنبل من شرب النبيذ من محدثي الكوفة، وسميت له عدداً منهم، فقال:" هذه زلات لهم، ولا تسقط بزلاتهم عدالتهم "(1).
4 _
وقال الإمام أحمد بن حنبل: " كان يحيى _ يعني القطان _ لا يرضى إبراهيم بن سعد "، قال المروذي: قلت: أيش كان حاله عنده؟ قال: " كان على بيت المال "(2).
قال يحيى بن سعيد القطان: " لو لم أرو إلا عن كل من أرضى، ما رويت إلا عن خمسة "(3).
وفسر ذلك الحاكم فقال: " يحيى بن سعيد في إتقانه وكثرة شيوخه يقول مثل هذا القول، ويعني بالخمسة الشيوخ: الأئمة الحفاظ الثقات الأثبات "(4).
قلت: بل والجامعين لأوصاف الورع والعفة حتى المباح المستحسن تركه، كما يدل عليه رأيه في إبراهيم بن سعد، فإبراهيم لم يكن ليعاب في حفظه، إنما عيبه قربه من الحاكم.
5 _
وقال أبو عبيد الآجري: سمعت أبا داود يقول: " كان وكيع لا يحدث عن هشيم؛ لأنه كان يخالط السلطان، ولا يحدث عن إبرهيم بن سعد، ولا ابن علية، وضرب على حديث ابن عيينة "(5).
(1) أخرجه ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل "(1/ 1 / 26).
(2)
العلل ومعرفة الرجال، لأبي بكر المروذي وغيره (النص: 215).
(3)
أخرجه يحيى بن مَعين في " تاريخه "(النص: 3885) ومن طريقه: ابنُ عدي (1/ 187 _ 188) والحاكم في " المدخل إلى الصحيح "(ص: 113).
(4)
المدخل إلى الصحيح (ص: 113).
(5)
سؤالات الآجري لأبي داود السجستاني (النص: 82).
وقال أبو داود: سمعت رجلاً قال لأحمد: لأيش ترك وكيع إبراهيم بن سعد؟ قال: " ما أدري، كان إبراهيم ثقة "(1).
6 _
وقال أبو زرعة الدمشقي: قلت لأبي مسهر (يعني عبد الأعلى بن مسهر حافظ الشاميين): إنه _ يعني سليمان بن عتبة _ يسند أحاديث عن أبي الدرداء؟ قال: " هي يسيرة، وهو ثقة، ولم يكن له عيب إلا لصوقه بالسلطان "(2).
7 _
وقال أبو الحسن الميموني: قلت لأحمد بن حنبل: يا أبا عبد الله، أحمد بن عبد الملك بن واقد؟ فقال لي:" قد مات عندنا، ورأيته كيساً، وما رأيت بأساً، رأيته حافظاً لحديثه "، قلت: ضبطه؟ قال: " هي أحاديث زهير، وما رأيت إلا خيراً، وصاحب السنة، قد كتبنا عنه "، قلت: أهل حران يسيئون الثناء عليه، قال لي:" أهل حران قلما يرضون عن إنسان، هو يغشى السلطان بسبب ضيعة له "، فرأيت أمره عند أبي عبد الله حسناً، يتكلم فيه بكلام حسن (3).
8 _
ومن هذا القدح على المحدث بأخذ الأجرة على التحديث، وممن عيب به: أبو نعيم الفضل بن دكين، وهشام بن عمار، وعلي بن عبد العزيز المكي.
وعلل بعضهم القدح بمثل هذه الصورة بأن أخذ الأجرة ربما أغرى المحدث بالزيادة في الحديث من أجل المال، كما قد يغريه بذلك لصوقه بالسلطان؛ لما يجره إلى محاباته.
والصواب في جميع ذلك:
أن القدح فيها ليس معتبراً، من جهة أننا اشترطنا الصدق لقبول روايته، فإذا ثبت اندفعت به مثل هذه الظنون.
(1) سؤالات الآجري (النص: 84).
(2)
تاريخ أبي زرعة (1/ 382).
(3)
تاريخ بغداد (4/ 266).