الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من مشاكلنا الإجتماعية (4)
الصداق
…
وهل له حد؟ *
ــ
من أمراضنا الاجتماعية التي تنشر في أوساطنا الفساد والفتنة، وتعجّل لها إلى الدمار والفناء - عادةً- المغالاة في المهور، وما يقابلها من المغالاة في الشورة (1)، وقد أفضت بنا العوائد السيّئة فيها إلى سلوك سبيل منحرف عمّا تقتضيه الحكمة، وعما تقتضيه المصلحة، وهو تنزّل الأغنياء للفقراء رفقًا بهم، وتيسيرًا عليهم، فأصبح الفقراء يتطاولون إلى مراتب الأغنياء ويقلدونهم، تشبّهًا بهم، ومجاراة لهم، والضعيف إذا جارى القوي انبتّ فهلك.
وقد كانت هذه القضية- وما زالت- أهمّ ما تضمنه منهاجنا في الإصلاح الاجتماعي، فعالجناها بالترغيب والترهيب، وبيان ما تقتضيه الحكمة الشرعية، وما يقتضيه الحكم الشرعي: تناولناها في الخطب الجمعية، وفي دروس التفسير والحديث، وفي المحاضرات العامة، وفي المقالات المكتوبة، وحملنا الحملات الصادقة على العوائد التي لابستها فأفسدتها، حتى صيّرت الزواج الذي هو ركن الحياة، أعسر شيء في الحياة، وبينّا بالشواهد الواقعية ما تجرّه هذه الحالة على الأمة- إذا تمادت- من وخامة العاقبة وسوء المصير، ولكن أعمالنا في هذه القضية لا تظهر نتائجها الكاملة إلا في جيل يكون أقوى إرادة من هذا الجيل الذي ملكت العوائد عليه أمره، فأعمته عن مصالحه، وأفسدت عليه دينه ودنياه، وإن المرأة لنعم العون في هذا الباب، وما دام عقل المرأة لم يرتق إلى معرفة الحقائق، وتبين وجوه المصالح، فإن أملنا في إصلاح هذه الحالة ضعيف والمرأة هي نصفنا "الضعيف القوي" شئنا أو أبينا.
وقد حاول بعض أهل الشعور الحي نوعًا من التطبيق العملي لإصلاح هذه القضية، في منطقة مخصوصة تجمعها وحدة قبلية، فحدّدوا للمهر مبلغًا يستوي فيه الفقير والغني، بلا
* نشرت في العدد 123 من جريدة «البصائر» ، 12 جوان سنة 1950.
1) الشُّورة: ما تُجَهَّز به العروس من ثياب وأثاث.
نقص فيه، ولا زيادة عليه، ولكنهم غفلوا عن أمرين: الأول أنهم مهما هبطوا بالمبلغ المحدود فإن في الفقراء من لا تصل قدرته إليه، فيصبح هذا التحديد إرهاقًا له وتعنيتًا، والثاني إن إصلاحًا مثل هذا لا يتم إلا إذا سبقه إصلاح في الأخلاق، وإصلاح في التربية، وتقوية للوازع الديني في النفوس، حتى يتغلّب على العوائد المستحكمة؛ ولو أنهم وضعوا حدًّا أعلى للأغنياء بعد إقناعهم بالتزامه، وتركوا للفقراء مجالًا واسعًا يبتدئ من الواحد وينتهي إلى العشرة مثلًا، ليقف كل فقير عند الدرجة التي تنتهي إليها قدرته، ولو أنهم فعلوا ذلك لكان خيرًا وأحسن تأويلًا، ولكان أقرب إلى النظرة العمرية في إيقاف المغالاة عند حد.
وقد سُئلنا أن نكتب كلمة في هذا الموضوع تبيّن الحكم الشرعي على وجهه وتجلي الحكمة الشرعية على حقيقتها، فكتبنا هذه الكلمة في بيان الحكم العام، في الحالة العامة، ولم نوجّهها إلى جماعة خاصة، وإنما وجّهناها إلى الأمة كلها لأن مرضها واحد، ولأننا نراعي في أعمالنا- إن شاء الله- الفائدة العامة.
…
الصداق نحلة شرعية مشروطة في عقدة النكاح، يعجلها الزوج للزوجة أو يعمر بها ذمّته إلى أجل، ولا نقول ما يقوله الفقهاء المسارعون إلى التعليلات السطحية التي لا تتفق مع الحكمة: إن الصداق عوض عن البضع أو ثمن له، فإن هذا التعليل يدخل بهذه العلاقة الشريفة في باب البيع والشراء والمعاوضات المادية، وحاشا لهذه الصلة الجليلة التي هي سبب بقاء النوع الإنساني أن تكون كصلة الثوب بمشتريه، أو صلة المتاع بمقتنيه! بل إن معناها أعلى وأجلّ؛ إنها إكرام من الرجل القوام، للمرأة الضعيفة، ووصلة بين قلبيهما، وتوثيق لعرى المحبّة بينهما، وتأنيس يسبق العشرة المستأنفة، وبريد يحمل البشرى بالقرب؛ فإذا أدخلناها في باب الأثمان والقيم لم يبقَ إلا أن نسمّي الزوجة بائعة، والزوج مشتر، والخاطب سمسارًا؛ وإننا نتلمّح من الحكمة الإلهية العليا العامة في الجنس كله أن الصداق في الإسلام جبر لما نقص المرأة من الميراث، فمن عدل الله أن نقص لها في ناحية، وزادها في ناحية، وكرمها فأعفاها من تكاليف النفقة في أطوارها الثلاثة، بنتًا وزوجًا وأمًّا، وهذه هي الحكمة التي ندمغ بها الطاعنين في الإسلام، الهازئين بأحكامه، المتعامين عن حِكَمه.
وليس للصداق في أصل الشريعة ونصوصها القطعية، وتطبيقاتها العملية، حد منصوص يوقف عنده لا في القلة ولا في الكثرة، وإنما هو موكول إلى أحوالهم في العسرة واليسرة، وطبقاتهم في الغنى والفقر، ولو كان له حد منصوص في القلة لما اختلف الأئمة في حدّه الأدنى، فقال مالك ثلاثة دراهم أو رُبع دينار، وقال أبو حنيفة عشرة دراهم، وقال غيرهما
خمسة؛ ولما اختلفت مداركهم في المقيس عليه ما هو؟ أهو ما يجب فيه القطع في السرقة؟ أم ما تجب فيه الزكاة في رأي بعض أئمة المالكية؟ وإن كان القياس في الرأيين واهيًا لخفاء أو لبعد العلة الجامعة بين المقيس وبين المقيس عليه.
ولو كان له حد منصوص في الكثرة لوقف عنده عمر، ولم يعزم على تحديده، وإن كانت الروايات لا تفيد أنه عزم على التحديد، وإنما نهى عن المغالاة فيه، فرواية أصحاب السنن لقول عمر: لا تغالوا في صدُقات النساء؛ وأن امرأة قالت له: ليس ذلك لك يا عمر، إن الله تعالى يقول: وآتيتم إحداهن قنطارًا من الذهب (وهذا الحرف من قراءة ابن مسعود)، وأن عمر قال: امرأة أصابت، ورجل أخطأ.
فتسليم عمر للمرأة يدلّ على أنه لا حد للأكثر، وهو الحق، وهو الواقع ونهيه عن المغالاة سداد ونظر بالمصلحة، وتأديب للمغالين، وعمر خليفة مصلح حريص على حمل الأمة على القصد في كل شيء، وعلى عدم الاندفاع في التطوّر، وقد فاضت الأموال في عهده من الفيوء والمغانم؛ والمال المفاجئ عامل من عوامل سرعة التطوّر ومجاوزة حدود القصد؛ ومن نظر في وصاياه لعتبة بن غزوان في تخطيط البصرة، شهد ببعد نظره في بناء الأمة على أساس متين، ومن تأمّل نهيه عن المغالاة في الصداق، وعزمه على إلزام المطلق ثلاثًا في اللفظ، علم حرصه على أخلاق الأمة أن يدركها التحلّل والانهيار؛ وإنه لا يعزم تلك العزائم إلا حين يرى الناس تتايعوا (2) في أمر كانت لهم فيه أناة، كما قال هو في قضية الثلاث، ولله در عمر!
…
نرجع إلى الشواهد العلمية من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وعمل أصحابه رضي الله عنهم، نجدها لا تدل على تحديد في الأدنى ولا في الأعلى، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم أصدقَ نساءَه كما في الصحيح اثنتَيْ عشرة أوقية ونشًّا، والأوقية أربعون درهمًا، والنش نصف الأوقية، فتلك خمسمائة درهم، وتزوّج عبد الرحمن بن عوف على نواة من ذهب، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فأقرّه، والنواة وزن معروف عندهم، قالوا في تفسيره إنه ربع النش، فهو خمسة دراهم.
وفي حديث الواهبة نفسها لرسول الله أنه قال لخاطبها: التمس ولو خاتمًا من حديد ثم زوّجه إياها بما معه من القرآن، يعني بأجرة تعليمها سورًا من القرآن سمّاهنّ.
2) التتايع بالياء المثناة معناه في المحسات السقوط وعدم التماسك.
أما خمسة الدراهم، وخمسمائة درهم، فهي مال معدود، ولكنه لا يقتضي التحديد للأقل ولا للأكثر، وأما أجرة التعليم فهي مال، ولكنه مجهول في قضية الواهبة، وأما خاتم الحديد فليس بذي بال، وكيفما قدّرت قيمته كانت أقلّ مما جعله الأئمة حدًّا أدنى، ورأيُنا فيه، وفهمنا لحكمته أنه رمز نبوي بعيد المغزى، عالي الإشارة، إلى أن ما يفتتن به الناس بمقتضى طبيعتهم من اعتبار المال في الزواج ليس مقصدًا شرعيًّا، وإن أحقر شيء مما يُسمّى مالًا كافٍ فيه؛ أما القصد الحكيم فهو من وراء ذلك: هو في الإحصان، وقمع الغرائز الحيوانية، وسكون القلب إلى القلب، وتحقيق حكمة الله في التناسل وتسلسل النوع، إلى غير ذلك من الحكم التي ليس منها المال، وإنما المال هنا جاذب مادي موصل يسدّ رغبة سطحية، وما أغلى صداق الواهبة في حكم العقل، إذ سيق إليها علمًا بسور من القرآن يزكيها، لا دراهم معدودة يُفنيها إنفاق يوم أو يومين، ولو وجد ذلك الخاطب خاتمًا من حديد فأصدقها إياه لانتقلت الحكمة إلى باب آخر، وهو إنزال الناس منازلهم في الفقر والغنى بحيث يتزوّج كل واحد بما يملك.
وقضية الواهبة- على كل حال- قضية عين، لا تقوم بها حجة، زيادة عن كونها خرجت مخرج التفسير، في أسلوب بليغ من التعبير، ومعتاد في كلام من أوتي جوامع الكلم، كقوله في أحاديث الحث على الصدقة:"ولو بظلف محرق""ولو بفِرْسِنِ شاة""ولو بشق تمرة".
هذا ولا ننسى أننا نستروح من كلمة الطَّوْل الذي جعله الله موجبًا للانتقال من نكاح الحرائر إلى نكاح الإماء، أن الصداق مال له بال بالنسبة إلى أحوال الرجال.
…
والخلاصة أن الشريعة المطّهرة الحكيمة لم تحدّد في الصداق حدًّا أدنى، ولا حدًّا أعلى، لأن الناس طبقات، فقراء وأغنياء وبين ذلك، فإذا انساقوا بالفطرة القويمة، والشريعة الحكيمة، وجروا على منازلهم في المجتمع، صلح أمرهم واستقامت لهم الحياة، وإذا زاغوا عن الفطرة، وحادوا عن الشريعة، وخرجت كل طبقة عن مداها المقدّر لها، هلكوا وشقوا.
والدين إنما يخاطب المؤمنين به، المتّبعين لأحكامه، المتأدبين بآدابه، الواقفين عند حدوده، فإذا ترك الأمر مطلقًا كالصداق فإنما يفعل ذلك اعتمادًا على إيمانهم وأمانتهم، وعرفانهم لما تقتضيه مصلحتهم، واعتبارهم للحِكَم قبل الأحكام.
واذا صلح المجموع وكان بهذه المنزلة من فهم الدين ومعرفة مقاصده العامة، فبعيد أن يتورّط في العسر والإرهاق والحرج، وبعيد أن يتطاول الفقير إلى منزلة الغني فيقع الفساد في الأرض.
والدين مع هذا الإطلاق في الصداق، قد ندب الناس إلى التيسير، ونهاهم عن التشديد والتعسير، في الزواج والمهر، حتى تتيسّر إقامة هذه السنّة الفطرية على جميع الناس. نحن لا نبدّل أحكام الله، ولا نقول بتحديد الصداق، ولكننا نقول ونكرّر القول: إن المغالاة في المهور أفضت بنا إلى مفسدة عظيمة، وهي كساد بناتنا وإعراض أبنائنا عن الزواج، واندفاعهم في رذائل يعين عليها الزمان والشيطان، فعلى المسلمين أن يذلّلوا هذه العقبات الواقعة في طريق زواج بناتهم وأبنائهم، وأن يقتلوا هذه العوائد الفاسدة المفسدة، وأن ييسّروا ولا يعسروا وأن يعتبروا في الزواج حسن الأخلاق، لا وفرة الصداق، وفي الزوجة الدين المتين، لا الجهاز الثمين.