الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أفي كل حي، عبد الحي
؟
مؤتمر الزوايا بعد مؤتمر الأئمة *
ــ
سكتنا حتى تمّ الأقنوم الثالث، وها نحن أولاء نطقنا.
ونحن حتى في هذا المقال نبين حقيقة، ونكشف عن دسيسة؛ ولا نريد أن نفتح به بابًا للخصومة، إذ لا خصم لنا إلا الاستعمار الذي قضى على ديننا ولغتنا، وأتى على مؤسساتنا الدينية وأوقافنا بالاقتلاع والابتلاع؛ وقد سكتنا عن رجال الزوايا منذ عشر سنين وسكتوا، وفاء كثير منهم إلى الحق؛ وانصرفنا إلى التعليم، فأعان بعضهم بالتنشيط القولي، وبعضهم بالسكوت، وبعضهم بتقديم أولادهم للمدارس.
أما الأئمة فهم مغرورون فيما أتوا هذه المرة إلا واحدًا أو اثنين، تعودت الحكومة أن تخطط لهما فينفذا.
وأما رجال الزوايا فلولا ذلك العاملُ الجليب لما أقدموا على ما أقدموا عليه؛ وان ما أقدموا عليه لعظيم. ولا يجوز السكوت عليه.
غير أنّ في الفريقين استعدادًا لمثل هذه المواقف، وقابليةً للانجرار، فإذا كان في المقال شدة فهي صلابة الحق، وإنّ فيها لدوافع لهم من تلك العلة لو كانوا يعقلون.
ولقد نعلم أن مما ترمي إليه الحكومة وتبتهج به، فتح واجهة جديدة للنزاع مثل هذه، وأن تغري بين رجال الدين كما أغرت بين رجال السياس فتشغل البعض بالبعض وتستريح، ولسنا بمبلغيها قصدها إن شاء الله ثم شاء قومنا
…
أسلوب قديم من أساليب الإدارة الاستعمارية بشمال أفريقيا، جرّبته في أيام الغفلة والأوهام فنفعها، فلم تنسه حتى في أيام اليقظة والحقائق؛ فهي تستعمله كلما ألحت الأمة في المطالبة بحقوقها الدينية والسياسية، وتستخدمه كلما سدّ عليها المطالبون منافذ الشبهات
* نشرت في العدد 31 من جريدة «البصائر» ، 12 أفريل سنة 1948.
بالبرهان، وتلجأ إليه كلما تقاربت صفوف الأمة وأوشكت أن تتراص، لترميها منه بالخلل والخلاف والتضريب والتشغيب.
هذا الأسلوب هو أنها تعمد في الأزمات إلى سلاح مفلول أكله الصدأ، فتنفض عنه الغبار وتصقله وتجلوه وترمي به في الميدان، والعجيب أنها تفعل ذلك وهي ليست على ثقة من نجاحها به ولا من نجاحه بها
…
وما هذا السلاح في حقيقته إلا طائفة رباها الاستعمار على الطمع الخسيس، وما يلده الطمع من خنوع واستكانة، وراضها على التقليد له والائتمام به، وطبعها على الإخلاص له والتفاني في خدمته، وسلخها من هذه المعاني التي يعتز بها الرجال، من الضمير الوطني، والشعور الديني، والقيمة الشخصية، والإرادة المستقلة، ودرجها في مدارج (التسليك) الحكومي إلى مقام التجرد والفناء؛ فلما تمّ له ذلك منها، وأصبحت منه كالميت من غاسله، صرفها في أغراضه، وسخرها في مصالحه، واتخذ منها وسائل لغاياته؛ فتارة يثير بها الغبار في وجوه العاملين، وتارة يلهي بها الأمة والألسنة والمجالس، ليشغلها بالباطل عن الحق وبغير المفيد عن المفيد؛ وتارة يقيم منها ضرارًا للحق وضرة لأهله، وهو في كل ذلك يلتمس بها ما يلتمسه المبطل إذا خانته الحُجة.
لا تعجب إذا كان الاستعمار لا يجد مبتغاه إلا في طائفة مخصوصة هي المذكورة في العنوان، ولكن تأسف لهذه الطائفة التي تمكن للاستعمار أن يعبث بكرامة الدين، فيستخدمها باسمه، وأن تكون لها- مع هذا- دعوى في الدين ولو كدعوى آل حرب في زياد، أو نسبة إليه، ولو كنسبة عقبة ابن أبي معيط في أمية (1).
…
عرفنا هذا من الإدارة الاستعمارية حتى ما يغالطنا فيه أحد؛ وعرفنا من هذه الطائفة أنها كانت في تاريخ الاستعمار طلائع لجنوده، وأعمدةً لبنوده، وشباكًا لصيده، وحبائل لكيده، وأنها كانت وما زالت، في المواقف الوطنية والأزمات القومية، داعية هزيمة ووسيلة تخذيل، وأنّ من المخجل أن نسمي أفرادها أناسيّ تعقل وتعي وتشعر؛ وإنما هي آلاتٌ وأدَوات تسخّر
1) عقبة ابن أبي معيط ابن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس، كان من أسارى بدر، ولما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرق الظبية في رجوعه إلى المدينة أمر فقتل صبرًا وخلبًا ولما أيقن أنه مقتول قال: أأقتل من بين قريش صبرًا، فقال له رسول الله: إنما أنت يهودي من أهل صفوريا، لأن الأمة التي ولدت أباه كانت ليهودي من صفوريا، وقال له عمر:(حنَّ قِدْحٌ ليس منها) يعني أنه ليس من قريش.
وتسير، وعرفْنا في قائدها الجديد، وحامل رايتها عبد الحي الكتاني، أنه كالدرهم الزائف لا يدخل في معاملة إلا كان الغش والتدليس واضطراب السوق؛ وأنه لا يعرف العالي والنازل، والمُدَبَّج والمرسل، إلا في رواية الحديث، ولا يعرف زين الدين وابن الصلاح إلا في رجال المصطلح والآثار، أما مع الاستعمار فإنه لا يعرف إلا التلقي والمباشرة والاتصال، وأنه تاجر بارع في المقايضات باسم الدين والعلم والطرُقية؛ والتاجر الحاذق لا يعجزه إذا بارَتْ سلعته في موطن أن يضرب في الأرض وأن يشدّ الرحال.
…
في شهر يناير الماضي تداعى الأئمة وحواشيهم العليا والسفلى إلى عقد اجتماع في الجزائر للنظر- زعموا- في المصالح الخاصة بهم وفي الوسائل التي يحفظون بها تلك المصالح؛ فقال الناس- وللأئمة علينا عهدُ الله أن لا نحكي إلا ما قال الناس وما جاءتنا به الرسائلُ الكثيرة المستفسرة- قال الناس: ما حاجة هؤلاء إلى الاجتماع وليس لهم بعادة؟ وأية المصالح يخشون عليها الضياع؟ أمصالحهم الشخصية؟ أم مصالح الدين الذي يمثلونه؟ وهل جمعيتهم التي أسفر عنها الاجتماع نقابة موظفين؟ فيكون من واجباتها أن تضرب عن العمل إذا لم تستجب رغائبها في زيادة الأجور، وأن تحتج وتنذر وتتوعد إذا نزل الحيفُ بعضو من أعضائها؟ وهل تستطيع جمعية الأئمة أن تفعل شيئًا من ذلك؟ الناس يقولون: لا، ويقولون أيضًا: ما عهدنا هؤلاء القوم يتحرّكون إلا بمحرك، ومن عسى أن يكون هذا المحرك؟ وأيّ ذوق وأية كياسة زَينت لهم اختيار هذا الظرف للاجتماع؟ والأمةُ مقبلةٌ على أمور ذات شأن في حياتها وسائرة إليها في طريق كله عواثير، وواضعة نصب عينيها غايةً واحدة من شذّ عنها شذّ في النار؟ أليس هؤلاء المؤتمرون من الأمة؟ أليسوا أئمة الأمة؟ وهذه المجلة التي قرروا إصدارها- وما نراها تكون إلا لسان حالهم- فماذا ينشرون فيها؟ أتكون رسمية تنشر أوامر التولية والعزل؟ إن الأمر ليس بأيديهم وقد كفتهم الكافية؛ أم تكون رسميةً بمعنى آخر فتنشر الفتاوى الشرعية التي تعمر أوقات المفتين ليعمّ النفع بها، والخطب الجمعية التي يلقيها خطباؤهم ليقرأها من لم يسمعها؟ أم تنشر شروط الإمامة العصرية ومنها الاعتماد في التزكية على (الدوسي)؟ هذا بعض ما يقوله الناس، وما نقلنا إلا القليل. وما لنا فيه إلا الرواية العادلة، وهي- كما يرى القارئ- أسئلة تتقاضى أجوبتها من المؤتمرين؛ ولو صرحوا وأوضحوا من أول يوم لما كان لأكثر هذه الأسئلة من محل؛ ولكنهم سكتوا وأجملوا، وهموا ولم يفعلوا، وأعلنوا عن تشكيلات سطحية إن دلت على شيء فهو أن المؤتمرين ليس لهم من الأمر شيء، وأنهم مسيرون لا مخيرون؛ فحامت حولهم الظنون، ثم اقتحمت الأسوار وكأنها حقائق؛ والذنب ذنبُ الزمان المتوثب المتيقظ الحساس
الصاخب، فمن ظنّ أنه يعمل فيه بمنجاة، ومن جاء يعرض فيه البضاعة المزجاة، كلاهما مغفل مغرور.
…
وفي 15 مارس الماضي انعقد مؤتمر رجال الزوايا: ومما دل الناس على أن هذا من ذاك، وأنهما معمولان لعامل واحد- كما يقول النحاة- وقوعهما في ظرف واحد، وخلوهما من الكياسة وحسن الذوق واحترام شعور الأمة؛ ثم جاءت خاتمة الدلائل على اتحادهما في المنشإ والغاية وهي إقامتهما في مقبرة واحدة (2).
بلغنا ما وقع في المؤتمر الأوّل بالتفصيل؛ وهو عبارة عن تلك الشكليات التي أشرنا إليها مما يدلّ ظاهره على هزل لا جدّ فيه، ولولا كلمات علمية ألقاها بعض العلماء منهم لكان المؤتمر أشبه شيء باجتماع عادي في مقهى، ووددنا لو تكلم مفتي تلمسان وألقى درسًا، ولو فعل لطوّقنا منة لا يقوم بها الشكر، إذ يقوم عنا بالعذر فيما عسى أن يحسبه بعض الناس علينا في باب التحامل، ويقوم لنا بالحجة على ما صنع الاستعمار بهذه الوظائف الشريفة من التبذّل والسقوط؛ ونعتقد أنه لو تكلم وسمعه زملاؤه لاستعفى العارفون منهم بقيمة الوظيفة وشرف العلم في الحال، أنفةً منهم للعلم والوظيفة أن يشركهم فيهما مثل ذلك المفتي.
وبلغنا ما وقع في المؤتمر الثاني بالتفصيل أيضًا، حتى أسماء الحاضرين والخطباء وما خطبوا، وأنهم تواردوا على معان متقاربة في غايات الاجتماع الظاهرية وهي جمع الشمل وتجديد العهد وخدمة العلم بالتعليم، وكان من كياسة الرئيسين (الدائم والهائم)(3) أن بالغا في إخفاء الغاية الحقيقية، حتى قام طالب مأجور يعدّونه من أتباع الأتباع، فذكر جمعية العلماء بوصفها القديم الذي كانوا ينبزونها به، وهو أنها جمعية وهابية، وأنها تريد التسلط على المساجد لتوظف فيها أتباعها الوهابيين؛ وبهذه الكلمات كشف ذلك الطالب (غير المسؤول) عن بعض الحقيقة وتعجّل البوح بما ضاق عنه صدره لأنه إمام، والعرب تقول:"شر أهرَّ ذا ناب"؛ ونحن لا يهمنا ذلك كله كما لا يهمنا ما نشرته الجرائد الفرنسية من مقاصد وغايات، لأننا نعلم الحقيقة علم اليقين.
2) هي مقبرة الشيخ محمد بن عبد الرحمن الجرجري، صاحب الطريقة الرحمانية المنتشرة بالجزائر وتونس.
3) كان هذا الاجتماع تحت رئاسة اثنين: الدائم مصطفى القاسمي، والهائم عبد الحي الكتاني.
والحقيقة هي أن هؤلاء القوم ما زالوا حيث تركناهم في سنة 1937، لم تؤثر فيهم أحداث الزمن، ولم يتأثروا بما حل بالأمة من محن، ولم تخرق آذانهم هذه الأصوات المتعالية، ولا انتهى إلى إحساسهم شيء من هذه اليقظة المتفشية في الأمة، ولا وصل إليهم أثر من هذا التطور الذي غمر العالم، وأنهم ما زالوا آلات صماء في يد الاستعمار، يصرِّفها متى شاء لما شاء؛ بل الواقع أنهم ازدادوا تعلقًا به وطاعةً له، بقدر ما أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف؛ ومن دأب الاستعمار إلصاق الحاجة بالناس ليتخذها مقادة لضعفاء الإيمان والإرادة منهم، وقد حلت المصائب بهذه الأمة، وهؤلاء القوم غارّون في نومهم، وامتلأت السجون والمعتقلات بالرجال، وهم آمنون مطمئنون، وجاعت الأمة وما منهم إلا الطاعم الكاسي، وإن الصحف لَمُنَشَّرةٌ بين أيدينا بما أخذوا من المؤن باسم الزوايا، وبما باعوا منها في السوق السوداء، وما كانوا يأخذون تلك المقادير الوافرة إلا على حساب الأمة، فلهم الويل: أهي زوايا أم متاجر؟
إن الحكومة الجزائرية الاستعمارية تعرف ما لا يعرفون، تعرف أن التطور سنة من سنن الله، ولكنها تؤجل وتطاول، وقد أحست بضغط المطالبة بالحقوق السياسية والدينية، فحرّكت هؤلاء القوم بعد طول الهجعة، وأعدّتهم للمعارضة والتشغيب على طلّاب الحقوق الدينية، كما أعدت طائفة أخرى انتخبتها هي لا الأمة للتشغيب على طلّاب الحقوق السياسية، وقد كشفت الانتخابات التي تدور رحاها في هذين الأسبوعين ما كان مبيتًا من مكايد الحكومة، وفضحت ما كان مدبرًا من مخازيها، وتبين ما كنا نعتقده ولا نشك فيه، وهو أن المؤتمر الأول، والمؤتمر الثاني، والمجلس الجزائري، ذريةٌ بعضها من بعض، وكلها من صنع يد الحكومة، وبعضها متمم لبعضها، وكما أنه لا حرية للأمة في هذا الانتخاب، لا إرادة للمؤتمرين في ذلك الاجتماع، ويجمع ذلك كله قولك: تدبيرات لإخماد الحركتين الدّينية والسياسية بهذا الوطن.
الأمة تطالب بفصل الدين عن الحكومة، ولسانها في ذلك جمعية العلماء، والمطلب حق، ولا مفرّ للحكومة منه، والحكومة لا تريد أن تنفض يدها من المساجد وأوقافها ورجالها، فكيف العمل؟ العمل هو جمع هذا الجند من المفتين والأئمة والمؤذنين ورجال الزاويا، وإعدادهم لوقت الحاجة فإما أن يبقى ما كان على ما كان، وإما أن تسلم المساجد والأوقاف لهم، لأن هذا أيضًا لا يخرج عن إبقاء ما كان على ما كان.
والأمة تطالب بحقوقها السياسية، ولسانها في ذلك رجالها السياسيون، والمطلب حق، والحركة دائبة، فكيف العمل؟ العمل هو أن تنتخب الحكومة نفسها (على طريقة نيرون) أغلبيةً ساحقةً للمجلس الجزائري، تضمن لها إبقاء ما كان على ما كان
…
ولو إلى حين.
وعبد الحي الكتاني
…
ما هو وما شأنه؟