الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فلسطين (8)
قيمة عواطف المسلمين في نظر فرنسا *
ــ
عُرضت قضية فلسطين- يوم عرضت- على ما يسمّونه مجلس الأمم المتحدة (على الباطل)، وفرنسا أحد أعضائه، فوافقت على التقسيم، ولم تراع مصلحتها الحقيقية، ولم تحترم شعور المسلمين وعواطفهم، وكانت في تلك الموافقة مقلِّدةً لا مجتهدة، وتابعةً لا مستقلّة، ومؤتمةً بإمام لا يصحّ الائتمام به في شريعة العقل، لأنه سفيه باع ما لا يملك بالنسيئة لا بالنقد، وليتها إذ أخطأت العدل في تلك القضية أصابت الكياسة، ولو كانت كياسة صورية رخيصة، كتلك التي تستّرتْ بها إنكلترا قريعتُها في الاستعمار وكثرة العلائق بالمسلمين؛ فقد وقفتْ إنكلترا في ذلك اليوم موقفًا قال بعض الناس إنه مصانعة، وقلنا نحن إنه مخادعة؛ ولكنه لا يخلو من كياسة محدودة بحينها، وبه حفظت للعرب والمسلمين ما يحفظه التاجر للعملاء، أو المسافر للزملاء، أما فرنسا فقد تجلَّت في ذلك المجلس بكل ما في العرق اللاتيني من حقد وَقاح، وبُغض صُراح، وتحدٍّ لعواطف المسلمين، واستخفاف بشعورهم، ثم نكص الرئيس المفتون وبدا له في التقسيم بَداءٌ فشك وارتاب، وشكَّك وأراب، ولم يستقرّ له في المسألة رأيٌ. ولكن فرنسا لم تنكص ولم تشكّ، كأنّ لها عند العرب والمسلمين تِرَةٌ. ثم أعلنتْ دولة إسرائيل استعجالًا لتعبير رؤيا صهيون، وتحقيقًا لحكم المهوّسين من أتباعه، وبادر راهب البيت الأبيض بالاعتراف المتّفق عليه، فما كان من فرنسا إلا أن تحلّبت شفاهُها على الاعتراف، وهامت به وحامت حوله؛ ولكنها- لأمرٍ ما- توقّفت عن الاعتراف، وأرسلتْ بدَله التحيات الأخوية والتهنئات القلبية لدولة إسرائيل.
نحن لا نجهل تغلغلَ الصهيونية في فرنسا، ولا نجهل تحكّمَ اليهودية في مرافقها الحيوية، وفي جهازها الحكومي، بل في كيانها الذي هي به أمة؛ بل نَعدّ فرنسا ومستعمراتها
* نشرت في العدد 38 من جريدة «البصائر» ، 7 جوان سنة 1948.
كلّها مستعمرةً واحدة يهودية، بل نستغرب مطالبةَ اليهود بوطن قومي، مع أن فرنسا كلّها وطن قومي لهم، لم يفقدوا فيه إلا الاسم وما أهونه، بل نحن نعتقد أنهم يطالبون من فلسطين بوطن ثان بعد تحصيلهم على الوطن الأول، بحيث يكون لهم من فلسطين وطن، فيه المُنى والأحلام، وإرواء الظمإ التاريخي، وإشباع الهوس الديني، والنكاية في المسلمين بالتسلُّط على قبلتهم الأولى، ويكون ذلك الوطن في الأخير مفتاحَ الشرق، ثم يكون لهم من فرنسا وطن فيه المال والجاه ومُتع الحضارة، والأخذ بناصية التجارة، والسلطان الفعلي على الوزراء والوزارة، والنكاية في الكنيسة المسيحية بالاستيلاء على بنتها البكر.
فعلت فرنسا كلّ ذلك خوفًا من اليهود، أو تأثّرًا بنفوذهم، أو انسياقًا بعصاهم، وهذا هو الصحيح، ولم تفعله مجاملةً لهم، إذ لو كان للمجاملة هنا مجال لكان العرب والمسلمون أحق من تُجامله فرنسا، وهي التي طالما رفعت صوتها- في معرض الافتخار- بأنها دولة إسلامية.
في المغرب العربي الذي تتحكّم فيه فرنسا، وتستأثر بخيراته، وتستميت في سبيل الاحتفاظ به، خمسة وعشرون مليونًا من العرب المسلمين، وكلهم أعطوا فرنسا ولم يأخذوا منها، في حين أنّ اليهود أخذوا منها كل شيء، ولم يُعطوها شيئًا، ولكل هذه الملايين هوًى في فلسطين، واعتقادٌ لعروبة فلسطين، ووشائج قربى مع عرب فلسطين، فكان واجب السياسة والكياسة معًا يتقاضى فرنسا أن تراعي عواطفهم نحو فلسطين، وأن تتباعد عن كل ما يجرحها، وأن تتّخذ من ذلك كلّه ذريعة للحياة، ولو فعلتْ لربحت من إرضاء هذه الملايين من القلوب ما هو أعود عليها بالخير من دولارات أمريكا، ولكنها لم تفعل ولن تفعل لأن الأمر ليس بيدها.
…
من الغريب أن الفرنسي الرسمي يسهل عليه أن يقول: إن فرنسا دولة إسلامية، مع أنه ليس للمسلمين أية يد في تسيير الدولة، ولا يسهُل عليه أن يقول: إنّ فرنسا دولة يهوديّة، مع أن اليهود فيها هم كلّ شيء، وهو يقول الأولى رياءً أو افتخارًا، ولا يقول الثانية أنفةً أو احتقارًا. فما أشبه الفرنسي في هذا الباب بالمتألِّه المغرور، يلعنُ الشيطان وهو متبع لخُطواته.