الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التعليم العربي والحكومة *
- 4
-
لم تقف الحكومة في حرب التعليم العربي ومضايقته عند تلك الحدود التي شرحناها وقبحناها، وتلك القوانين والقرارات التي جرّحناها وفضحناها، بل أتتْ في هاتين السنتين الأخيرتين بما هو أقبح وأدلّ على سوء النية في التضييق على مدارسنا والتعطيل لها، وابتكرت أنواعًا من العرقلة، أخرجت بها القضية من باب القانون، والنظام، والمحافظة على الصحة، إلى باب العناد السخيف، والمعاكسة اللئيمة، التي تربأ كل حكومة محترمة لنفسها أن ترتكبها مع خصم لها، وإن لجّ في الخصومة، فضلًا عمن ليس بخصم، وإنما هو طالب حق، فضلًا عن كون المطلوب شريفًا لا ينازع في شرفه حتى الشيطان الرجيم، وهو العلم
…
منذ سنتين، أو منذ جدّت الأمّة الجزائرية في الحركة التعليمية بقيادة جمعية العلماء، ورأت الحكومة أنها عزمة دينية إجماعية لا تفلها القوانين، ولا تشلّها القرارات المكتوبة، عمدت هذه الحكومة إلى قرارات أخرى (شفاهية)، لم تصدُر بها المراسيم، ولم تصبغ بالصبغة الرسمية وإنما هي إيعازات إلى المديرين والمعلمين بمكاتبها الرسمية الابتدائية، ليقوموا على تنفيذها بالضبط والدقة. وهي إذا نفذت كانت أنكى وأضرّ بالتعليم العربي من تلك القوانين المكتوبة.
ونحن فقد أصبحنا مفتوحًا علينا في فهم هذه الحكومة ومقاصدها واتجاهاتها، وأصبحنا من المبرّزين في تأويل تصرفاتها وأعمالها، وأصبحنا نتدسَّس إلى مدبّ السرائر من نياتها وخواطرها، كما تفعل هي معنا، وهذا بذاك ولا عتب
…
ففهمنا بالقرائن الصادقة، والشواهد الناطقة، أن هناك برنامجًا عمليًّا واسعًا عميقًا ذا شُعب متعدّدة ومرام بعيدة، لحرب التعليم العربي، يعتمد على التنفيذ الصامت لا على القرارات المعلنة التي تثير النقد والاعتراض، وأن اعتماد الحكومة في تنفيذه، على المديرين ورجال التعليم؛ ومن أشنع ما تتسم به الحكومات
* نُشرت في العدد 68 من جريدة «البصائر» ، 21 فيفري سنة 1949.
الاستعمارية، التسلط على رجال العلم، ورجال القضاء، وتصريفهم في أغراضها المنافية لشرف العلم وشرف القضاء؛ والعلم رمز الإنسانية والكمال، والقضاء رمز العدل والمساواة؛ ومن رشد الحكومات الصالحة أن تكفل للعلم والقضاء الحرية والاستقلال، وتبعد برجالهما عن جميع المؤثّرات، فإذا سخرهما الاستعمار في أغراضه، واتخذ من رجالهما أدوات لتنفيذها، فذلك هو الفساد في الأرض؛ ولذلك تجدنا لا نثق ببعض علماء المشرقيات الذين يتخذ منهم الاستعمار مستشارين في وزارات الخارجية، فيجعل من العلم، معينًا على الظلم.
…
رأينا من آثار هذه البرامج في كثير من القرى تساهلًا عظيمًا في قبول التلامذة بالمكاتب الابتدائية الفرنسية، خلافًا للسنة المقرّرة عند الحكومة، وخلافًا لعملها المطلق
…
الذي طالما نعيناه عليها وأنكرناه، وهو عدم عنايتها بتعليم أولاد المسلمين؛ وما كان هذا التساهل رحمةً منها بهم، ولكن لتصُدّ أكبر عدد منهم من غشيان المدارس العربية الحرّة، ثم تجريهم على برنامج فارغ إلا من التوافه، مضطرب الساعات، فمنهم من يأخذ ساعتين، ومنهم من يأخذ أربعًا، فيخسر التعليم العربي، ولا يحصل على التعليم الفرنسي. والعذر الذي تسمعه منهم على هذا الاضطراب هو عدم وجود الأماكن!
…
ونقول نحن: إذا لم تكن الأماكن كافية لهم، فلماذا تقبلونهم من أول يوم؛ ولو أنصفوا لقالوا: إن قصدنا الوحيد هو معاكسة التعليم العربي وكفى
…
إن مدارسنا عامرةٌ بهذا الصنف من الأطفال. وهو هذا الصنف المتشرد الضائع الذي لم يجد إلى التعليم الحكومي سبيلًا؛ وان عدده لكثير، إنه ليقارب التسعين من المائة من أبناء الأمّة التي تدفع الضرائب، وتقوم بواجبات الجندية
…
وما كنا في يوم من الأيام حربًا للتعليم الفرنسي على تفاهته؛ بل نحضّ عليه، ونعدّه باباً من أبواب الثقافة، وسلاحًا من أسلحة الحياة. وإنما نريد أن نجمع لأبنائنا بين التعليمين، جمعًا للمصلحتين، وما داموا محرومين من التعليم الفرنسي، فمن حقنا ومن واجبنا ومن الإحسان إلى أبنائنا أن نشغلهم النهار كله بتعلّم دينهم ولغتهم؛ بدليل أننا لا نقبل في مدارسنا تلامذة الفرنسية إلا بعد الرابعة والنصف مساء، لئلا يحرموا من أحد التعليمين، على ما في هذه الساعات الزائدة من إرهاق للمعلّمين والتلامذة عندنا.
هذا ما نراه نحن؛ أما الحكومة فإنها ترى أن بقاء أبنائنا هائمين في الأزقة معرضين للشر والفساد، خير من تعليمنا إياهم تعليمًا عربيًّا وإسلاميًّا، فلما صمّمنا على أداء الواجب علينا لديننا وأمّتنا، صمّمت على المعاكسة والتضييق، فلما لججنا في المقاومة، لجأت إلى مثل هذا العناد الذي لو تمّ وعمّ لكان مفسدًا لتعليمها، قبل أن يكون مفسدًا لتعليمنا.
قد أصبح من عقائدنا الراسخة، بل أصبح من الحقائق الواقعة أن هذه الحكومة عاملة على إفساد تعليمها الرسمي لأبنائنا، وتصييره هيكلًا بلا روح، وحرمانهم في الأخير من مفتاح التعليم الثانوي. وهو "الشهادة الابتدائية". فهي تتعهد البرامج بالتنقيص من المفيد والزيادة من السفاسف. وهي تكثر بزعمها من التعليم الصناعي الآلي لتبعد أبناءنا عن منشطات الفكر والروح، وهي تكل تعليم أبنائنا- بدعوى الضرورة- إلى طائفة ليست لهم كفاءة المعلم، ولا شهادته، ولا مؤهلاته، ومن أغرب ما وقفنا عليه في أول هذه السنة الدراسية نسخةٌ من هذه الأوامر
…
التي توجّه إلى مديري المكاتب الفرنسية، ومما فيها: الأمرُ بالتقدم إلى طلبة العربية الذين يعرفون القراءة والكتابة البسيطتين، وترغيبهم في تعليم العربية بالمكاتب الفرنسية. فما معى هذا؟ ومتى كانت المكاتب الحكومية الابتدائية تعلّم العربية؟ لا معنى لذلك إلا أن المطبخة دائبة على الطبخ.
ورأينا من آثار ذلك البرنامج، في كثير من المدارس الفرنسية، تمديد ساعات الدراسة المسائية إلى الساعة الخامسة، خلافًا للقانون السائر في جميع المدارس. ولا موجب لهذا إلا تفويت ميقات المدرسة العربية على التلميذ، وليتهم يعمرون له تلك الساعة بنافع مفيد، لكنهم يعمرونها بلهو فارغ أو بعمل شاق؛ ولقد مررتُ في شتاء السنة الماضية بقرية "بريكة" فرأيت بعيني تلامذة المكتب الفرنسي (المسلمين طبعًا) يجمعون الزيتون من بستان تابع للمكتب أو لإدارة المتصرف، وكان ذلك في الساعة الخامسة إلا ربعًا بالضبط.
وما يسّر على الحكومة وأعوانها تنفيذ هذه الأمور الشاذة، وتطبيقها بسهولة، إلا أصل أصلته. وهو عزل التلامذة المسلمين من زملائهم الأوروبيين في التعليم الابتدائي في مكاتب خاصة بهم، يطلقون عليها اسم " Ecole indigène" (1). ولو كانوا مع أبنائها لما عاملتهم هذه المعاملة. ولقد كانت الشهادة الابتدائية إلى وقت قريب تقسم على نمطين: أحدهما يعرف بنمط Titre indigène وكلمة (أنديجان) هذه في قاموس الاستعمار وفي ألسنة حماته الطغاة هي نبز وتحقير لهذا العنصر الشريف الذي أوقعته الأقدار، وتصرفات الفجار، في قبضة الاستعمار الفرنسي. فإن كذبتنا الحكومة وقالت إن التعليم واحد، والبرنامج واحد، فلتخبرنا: ما هي العلة في تخصيص أبناء المسلمين بمكاتب منبوزة بهذا النبز؟ أم هي تعد هذا من الديمقراطية الفرنسية؟ وقد عرفنا- بفضل الله- هذا الطراز من الديمقراطية، فعرفنا أنه مرادف للعنصرية السوداء اللون، العنيفة التأثير.
…
1) " Ecole indigène": مدرسة أهلية، أي خاصة بالجزائريين الذين كانت فرنسا تسمّيهم "أهالي" احتقارًا لهم.
بعد هذا كله- وأمثاله معه- تمنّ فرنسا على مسلمي الجزائر، وتقول: إنها علمتْ، وما علمت، ولكنها قلمت
…
وما أغرب شأن الجزائريين مع الاستعمار الفرنسي: فئةٌ تدرس في جامعة، وملايين ترسف في (جامعة)(2) ويا بُعدَ ما بين الطرفين!
2) الجامعة هي القيد الذي يجمع اليدين والرجلين.