الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ليبيا، ماذا يراد بها
؟ *
شاعت بيننا- معشر المستضعفين- كلمة خاطئة، ألجأنا إليها الضعف وأملاها علينا العجز، فألفناها حتى غطّى الإلف خطأها وسخافتها، ويسرها التعوّد على الألسنة والأقلام، كما يسّر كلمة الكفر على لسان قائلها، وكأننا ورثناها عن الساسانيين أصحاب الكُدية، لا أصحاب الملك والدولة؛ وإن كانت لغة الساسانيين مبعثها الجبلة، والجبلة شعبة من القوة؛ فكلمتنا هذه مبعثها الاستخذاء، والاستخذاءُ وليد الضعف.
هذه الكلمة الخاطئة هي "طلب الاستقلال" ومعناها في الواقع، طلب الحق من غاصبه، أو طلب الملك من سالبه؛ ولو كان من طبيعة الغاصب السالب أن يرد المغصوب فيئَة إلى الرشد، وإنابةً إلى الله- لردَّهُ من غير طلب، ولا رفع دعوى، ولا إقامة دليل.
أما الكلمة المصيبة لهدف الحق فهي "العمل للاستقلال"
…
إن العامل للشيء سائر إليه بذرائعه الطبيعية خطوةً خطوة؛ فهو واصل إليه لا محالة؛ وهو آخذٌ له حين يأخذه بالاستحقاق الطبيعي؛ أما طالب الشيء- في مفهومه العرفي- فهو كطالب الصدقة، إما أن يعطى وإما أن يُحرم؛ فإن أعطِيَ فبفضل، وإن حرم فبعدل؛ وعجيبٌ أن تعيش هذه الكلمة الجوفاءُ بيننا مع كلمة عبقرية تضارها وتناقضها، وهي أن "الاستقلال يؤخذ ولا يعطى".
شروط الاستقلال الحقيقية هي: الإيمان به مع التصميم، ثم العمل له مع الإصرار، ثم المحافظة عليه بعد تحصيله، وليس منها- عندنا- إلا طلبه
…
وإخواننا الليبيون عملوا للاستقلال على قرب عهدهم بانتزاعه منهم، وبذلوا في استرجاعه فوق ما يبذله من في منزلتهم من الضعف والقلة؛ وإن حبله لم ينقطع من أيديهم، وإن روائحه العطرة لتُفعم أنوفهم، وإن أخيلته الجميلة لتتراقص في أذهانهم، وإن ذكرياته لماثلة
* نشرت في العدد 113 من جريدة «البصائر» ، 27 مارس سنة 1950.
في نفوسهم مثول ذكريات الشباب في نفوس الشيوخ، وليس بين إشراق الشباب وأفوله إلا فسحةٌ في العمر، وإن كثيرًا من الأحياء في ليبيا أدركوا زمن انتزاعه، وسيدركون زمن ارتجاعه.
…
هذا الشيء الذي يسمونه (مجلس الأمم المتحدة) لم يبلغ من العدل والرحمة أن يقسم الحقوق بالسوية، وأن يقتص للجمّاء من القرناء، بل دينه وديدنه أن يركب للقرناء قرونًا أخرى تنطح بها المستضعفين، وتذودهم بها عن مراتع الحياة ومواردها؛ وقد قرر ذلك المجلس استقلال القطر الليبي العزيز، استقلالًا شابه بالدخن وشانه بالتأجيل؛ ومع ذلك فقد تهللت أسرّة، وخفقت قلوب، وحييت آمال كانت كامنة في النفوس، وتشوّف المدلجون- بعد هذه التباشير- إلى الفجر الصادق، بتبلّج عموده على هذه الرقعة، آملين أن يعمّ بقية الرقاع، لكن المتعمقين كانوا يرون أن هذا القرار ليس من طبيعة الروح الشريرة التي تصرّف ذلك المجلس وتسيره؛ وإنما هو ثمرة من ثمرات الجهاد المتواصل، من ذلك الشعب الذي نقص الاستعمار عدده وأمواله، ولم ينقص اعتداده بنفسه وإيمانه بحقه؛ وأنه أثر من آثار أصوات الدول الصغيرة التي أكسبها الاتحاد قوة في ذلك المجلس، فاتجه سعيها إلى نصرة الضعفاء، "وكل ضعيف للضعيف نسيب"، وأنه نتيجة من نتائج التشاكس بين مطامع الأقوياء، ومخاوف بعضهم من بعض، فلولا التنين، الذي ابتلع الصين، ولم تزل كبده حرّى إلى نُغبة من ماء البحر الأبيض، لما وافقت أمريكا وإنكلترا على قرار الاستقلال، ولولا العملاق الذي يضع رجله على طهران، ويده على الظهران وعينه على وهران، لما صادقت روسيا على ذلك القرار، فهو بما حفه من هذه الأسباب، استقلال كياد من الدول الغربية لروسيا، يردن منه إقصاءها عن البحر المتوسط، ليأمنَّ شرها وشركها؛ ثم يقسمن الفريسة أجزاء، كما شاء لهن الهوى بأسماء خلّابة من ورائها قوة غلّابة، وما كان ذلك التأجيل إلا لهذا، وقد ظهرت الحقائق جلية بما بدر منهن- الواحدة بعد الأخرى- قبل أن يجف مدادُ قرار الاستقلال، هذه في فزان وتلك في برقة، وثالثة تنتظر طرابلس؛ وإنهن لبالغات إلى أهدافهن، وواجدات فينا من يأخذ بأيديهن إليها، ومن يَمْدُدْنَ له في أسباب المطامع، فيقطع لأجلها صلته بالله، وعلاقته بالوطن، إلا إذا بدأنا بالأشراك المنصوبة بيده فأزلناها، وبادرنا إلى الأوثان المرفوعة باسمه فكسرناها، وعمدنا إلى النقائص المتأصلة في نفوسنا فاستأصلناها، وصمدنا إلى الجموع المتفرقة فجمعناها، وإلى الألسنة الداعية بالتفريق فقطعناها، وإلى الشهوات الجامحة فقمعناها، وإلى الألقاب المهينة فمحوناها، وإلى العزائم المرتخية فقوّيناها بالحق وشددناها، وإلى جميع الثغر التي يأتينا منها العدو فأغلقناها في وجهه وسددناها، ثم لقيناه بعد ذلك بصف واحد، وإرادة واحدة، ولسان واحد، ورأي جميع،
وعزيمة ترتد عنها المحاولات حسرى، وكلمة واحدة لا يقبل معناها التأويل، وهي (أن هذا الوطن واحد لا يقبل التقسيم، وأن أبناءه وحدة لا تقبل التجزئة، وأنهم يريدون حياة حرة كريمة)؛ ولو فعلنا ذلك لجاء الاستقلال عفوًا بلا طلب، صفوًا بلا كدر، بمعناه في لغتنا لا في لغة قياصرة مجلس الأمم.
إن هؤلاء الأقوياء قد راضونا على الشهوات الخسيسة، حتى عرفوا مواقعها ومداخلها إلى نفوسنا، فأصبحوا يقودوننا بزمامها، ويبتزّون ضمائرنا بالشهوات النفسية، كالرتب والألقاب، وأموالنا بالشهوات الحسية، كفضول اللباس والطعام والشراب، وإن أوقى الجُنَن منها الزهد فيها، والتعفف عنها؛ ولو أن أهل فزان- مثلًا- استنارت بصائرهم، ونالت منهم الموعظة بغيرهم، فرفضوا لقب "الباي"، وهجروا شرب "التاي"، لسعت إليهم الحرية حبوًا.
…
من كتم داءه قتله، وقد آن أن نعلن داءنا، ونعترف بنقائصنا، وإن لم يكن لنا فضل المعترف، فقد فضحنا الزمان قبل أن نفيء إلى أنفسنا، ونتدارك الوهي بالترقيع، فصيَّرَنا بذلك مثلة في الإنسانية، وداء إخواننا الليبيين هو داؤنا جميعًا، ليس لأحدنا فيه فضل إذ لا فضل في النقص، ولا بيننا فيه تفاضل، لأن علة العلل واحدة؛ هو الداء الذي ترك جزيرة العرب تضم ملاءتها على بضع دول وإمارات، وعلى عدة ملوك وأمراء؛ ولولا ذلك الداء لكان للعرب دولة واحدة، لأنهم أمة واحدة في رقعة واحدة، ولكان ذلك أرهب لعدوّهم، وأحفظ لحقيقتهم، ولولا ذلك الداء لما ضاعت فلسطين، ولما بؤنا بسبة الدهر وعار الأبد.
أصل دائنا التفرق والخلاف، بدأ صغيرًا في الدين، ثم بدأ كبيرًا في الدنيا ومن الخلاف تشعبت شعب تلتقي معه في الأثر والنتيجة والشر والضر، والطعم المر؛ كما يحمل الفرع خصائص أصله، فاذكر الخلاف تذكر التخاذل والأنانية ووهن العزائم، واذكر الخلاف تذكر عدم الاعتداد بالنفس وعدم الثقة بين الإخوان؛ واذكر الخلاف تذكر تعدد الزعماء والأحزاب في الوطن الواحد، واذكر الخلاف تذكر ضعف العقيدة وخطل الرأي، واذكر الخلاف تذكر بيع الذمم والضمائر، والتفريط في المصالح الوطنية، واذكره تذكر كل مرض عقلي نعانيه، وكل حقيقة في الحياة نغلط فيها؛ فالرجولة مائعة، والتفكير سطحي، والتضحية أقوال، والأهواء متبعة، والزعامة زعم، والنصر تصفيق، والقضايا الخطيرة نلقاها بالعقول الصغيرة، والألسن القصيرة؛ وهذه الأمراض هي التي أدركها المستعمرون فينا فاحتقرونا، ولو لم يعتبرونا أطفالًا لما وضعوا في أيدينا هذه اللعب يلهوننا بها عن أعمال الرجال.
***
أيها الإخوان الليبيون: إن لكم إخوانًا يصل بينكم وبينهم الماء والصحراء، ويشرفون عليكم من مخارم هذه السلاسل الشامخة من الأطلس الكبير، وإنهم يشاركونكم في الشدائد والمحن، كما شاركوكم في الألسنة والسحن، وإنهم يقاسمونكم مرارة الامتحان الذي أنتم فيه، فانظروا في أيّ موضع وضعتكم الأقدار، إنكم في موضع قدوة لشعوب ترجو ما ترجون، وتعمل لما تعملون، فاحذروا أن تكونوا قدوة في الهزيمة، ومثالًا لخيبة الأمل، واقتلوا الألقاب تحيوا الحقائق؛ إننا نعيذكم بشرف الرجولة أن تكون فيكم سيوف اليمن، وجنرالات تونس (1)، فتلك لا تصلح للضرب، وهذه لا تغني في الحرب.
1) من الألقاب العسكرية الموروثة في تونس من العهد التركي لقب "أمير الأمراء"، ولما احتلت فرنسا تونس أبقت الألقاب مجردة من معانيها، لتلهي بها ضعفاء الإرادة، وقد ترجموا هذا اللقب بكلمة (جنرال)، فأصبح الجنرالات بتونس أكثر من الباشوات في دوار شرق الأردن على عهد عبد الله.