الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل الدين عن الحكومة
- 2
- *
سلّمنا أن فرنسا دولة مستعمرة من ذلك الطراز الاستعماري اللاتيني الأزرق، وأنها تمتاز بادّعاء أنها ممدّنة العالم ومعلّمته وناشرة لواء الحرية فيه، وأنها السابقة إلى نبذ
الأديان، وقطع الصلة بين الله وعباده، وأنها واضعة نظام اللائكية التي معناها وضع سور بين الحكومات وبين الأديان كيفما كان نوعها، ومعناها أيضًا تقوية السلطة المادية، وتوهين السلطة الروحية، وأنها الأستاذة الكبرى لكلّ من سلك هذا السبيل، وتأسّى بهذه الشرعة، وأنها مرجع كل إباحي، وقدوة كل ملحد، وأنها شيخة مصطفى كامل في الأولين ومصطفى كمال في الآخرين، ما هتف الأول في الوطنية إلا بشعارها، وما تغنّى في الحرية إلا على مزمارها؛ وما استدبر الثاني مشرق الشمس إلا ليستقبل مغرب أنوارها، وما نبذ حروف العرب إلا ليستبدل راءَه بغَيْنها (1) وطورانه بنارها.
كل هذا مما تدعيه فرنسا وتغري به البله منّا وتغرّ المغفلين.
ولكن ما بالها خالفت العالم الاستعماري كله، وخرقت إجماعه، وشذّت عن قاعدته، فهو يسالم الأديان حتى الباطل منها وغير المعقول، ويترك أهلها أحرارًا في شعائرهم ومعابدهم، ويوليها شيئًا من الرعاية والاحترام، ويكتفي بالتسلّط على الجانب الدنيوي من حياتهم؛ أما هي فتضايق الإسلام في الجزائر وتحتكر معابده وشعائره، وتمتهن رجاله، وتبتلع أوقافه، فلا مسجد إلا ما فتحته ولا إمام إلا من نصبته، ولا مفتي إلا من (حنفته) أو (ملّكته)، ولا شيخ طريق إلا من (سلّكته) ولا حاج إلا من حجّجته أو نسّكته، ولا صائم ولا مفطر إلا على يد (لجنتها)، ولا هلال إلا ما شهد برؤيته (قاضيها)!
…
...
* نشرت في العدد 83 من جريدة «البصائر» ، 13 جوان سنة 1949.
1) بغينِها: كثير من الفرنسيين ينطقون الرّاء غينًا.
قرأنا سِير الإنكليز في الهند فوجدناهم بالغوا في إعطاء الحرية للأديان حتى بلغوا حد السخافة، وسوّوا في تلك الحرية بين (قرّاء البقرة) بالحق، وبين (عباد البقرة) بالباطل، ويسّروا سبيل الحج حتى اتّسع معنى الاستطاعة.
وقرأنا عن تلك الدويلات الاستعمارية- وشهدنا- أنها تحترم الأديان الموجودة في مستعمراتها حتى الوثني منها، والمضاد لحضارة الإنسان، والواقف في طريق الرقي العقلي. ولو أنها خصّت الوثني منها بالاحترام والحرية لقلنا: إنها مكيدة تجعل بها حرية الدين وسيلة لاستعباد المتدينين به. ولكنها أرخت عنان الحرية للإسلام الذي هو أعظم خصوم الاستعمار، وأقوى عامل للتخلّص منه.
ثم ما بالها خالفت نفسها، وناقضت مبدأها؛ فهي في فرنسا تدين باللائكية وحرية الأديان، ينصّ على ذلك دستورها، ويجري عليه تعليمها، وتتأثّر به أمّتها، وهي في الجزائر "تتمسّك" بالإسلام هذا التمسّك، وتتشدّد في "القيام" به هذا التشدّد، وتتعنّت في الانفصال عنه هذا التعنّت.
…
في الدول المستعمرة مَن هي أبرع من فرنسا في فقه الاستعمار، ومَن بلغت فيه رتبة الاجتهاد المطلق، وهي- مع ذلك- تعامل الإسلام بما يليق به من كرامة، وبما يستحقه من حرية، فهل هي في هذا جاهلة لأصول الاستعمار؟ وهل هي في هذا غافلة عما في حريته من خطر؟ لا
…
وإنما هي في هذا أوسع نظرًا وأكثر تبصّرًا بالعواقب من فرنسا. وهي ترى أن إعطاء الحرية للإسلام جلب للهناء والسعادة وحسن العشرة ولو إلى حين، وهي تعتقد في قرارة نفسها أن الاستعمار لصوصية، واللصوصية أحوج الأشياء إلى الحذق، وهي قد جرّبتْ فعلّمتها التجارب أن حرية الأديان لا خطر فيها، وإنما هي خير وراحة ورضىً واطمئنان؛ ولو أن فرنسا السيّئة الظن بالإسلام، والموجسة من حريته خيفة، رمتْ ببصرها إلى ما وراء الحدود الجزائرية، ولو أنها كانت ممن ينتفع بالتجارب، لرأت في المغرب وتونس ما ينقض عليها عقيدتها في الإسلام، ولغيّر نظرتها إليه، وحكمها عليه، فالإسلام في القطرين حرّ، وإدارته بيد أهله ولم يأتها الخطر من تلك الحرية، بل إن حرية الدين في القطرين سدّت عليها أبوابًا من الخطر والإقلاق. وإذا قلنا إن الإسلام حرّ في المغرب وتونس فإننا لا نعني من الحرية معناها الواسع الصحيح لأن الاستعمار الفرنسي لا ينسى عوائده. ولا يخالف أصوله وما زال يتخذ من أعماله في الجزائر- على شناعتها- نموذجًا يحتذيه في الأقطار التي ابتليت به: لا ينتفع بالعظات، ولا يتطور مع الأوقات، وفي تدخله في الأوقاف الدينية بتونس
ومراكش، واستهوائه لأكابر رجال الدين، وامتداد نفوذه إلى السلطة القضائية، أكبر دليل على ما قلناه.
…
الاستعمار كله رجس من عمل الشيطان، يلتقي القائمون به على سجايا خبيثة، وغرائز شرهة، ونظرات عميقة إلى وسائل الافتراس، وإخضاع الفرائس، وأهمّ تلك الوسائل قتلُ المعنويات وتخدير الإحساسات الروحية؛ ولكن هناك تفاوتًا بين استعمار واستعمار، فاستعمار يباشر وسائله بالحقد ويشربها معاني من الانتقام؛ وآخر يباشرها بنوع من التسامح واللين؛ والاستعمار الفرنسي من النوع الأول، وبين النوعين فرق، وإن كانا بغيضين ممقوتين، لأنهما استغلال للأموال، واستعباد للأجساد، ويزيد أحدهما بأن فيه ترويحًا على الأرواح، ولولا ما بلوناه من شر الاستعمار الفرنسي على ديننا ولغتنا، وما تجرعناه في سبيل إحيائهما من غصص، وما كابدنا في إنقاذهما منه من بلاء، لما ذكرنا الاستعمار بخير، ولما أجريناه على ألسنتنا إلا مقرونًا باللعنة مصحوبًا بالسخط، ولكن في الشر خيارًا لا يقدره قدره إلا المبتلى بالأشد من أنواعه.
ساء مثلًا الاستعماران: ما يُقعد منهما الروحانيات المقعد الخشن، وما يُقعدها المقعد الوطيء، وما يتعمدها بالقتل الوَحِيِّ، وما يبتليها بالموت البطيء؛ وسيسوآن- وإن طال أمدهما- مصيرًا، وسيخذلهما القاهر الذي يُمهل ولا يُهمل، ولا يجدان من دونه وليًّا ولا نصيرًا.
…
أكثرنا من ذكر الاستعمار في المعارض التي يلتقي بنا أو نلتقي به فيها حتى كدنا نألفه فتأنس له نفوسنا، ويشغلنا ترداد اسمه عن الاستعداد للتخلص منه، كما يشغلنا الإكثار من لعن الشيطان عن الاحتراس من وساوسه، والتحفظ من مكايده؛ فلنرجع إلى أنفسنا وإلى أمّتنا، ولنناقشها الحساب: ماذا أعدت لتحرير الدين؟ وبماذا استعدت؟
لنخرج من الأقوال إلى الأعمال، ومن الافتراق إلى الاجتماع، ومن التفريط إلى الحزم، ومن المهاودة إلى التصميم، ومن المطاولة إلى الإنجاز، ومن التخاذل إلى التناصر، ومن الجمجمة إلى الصراحة، ومن السلب إلى الإيجاب.
إن المسألة خطيرة، وإن الأمّة الجزائرية المسلمة في قلق عظيم، وإن أصحاب الأغراض والمنافع من حكومة وحكوميين يعبثون بديننا ونحن ننظر.
فلنقف الوقفة الحازمة التي توقف كل عابث عند حدّه.