الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فلسطين (3)
العرب واليهود في الميزان عند الأقوياء *
ــ
إنَّ الأقوياء الذين تولّوا أمر التقسيم، وحملوا أولئاك الضعفاء بالوعد والوعيد على التصويت عليه، ما ارتكبوا تلك الجريمة الشنعاء وغمطوا حق العرب، إلا بعد أن غمزوا مواقع الإحساس من العرب، فرأوهم جادّين كالهازلين، ورأوا منهم ناكثين كالغازلين، ورأوا في أمرائهم المقاومين على أعنف ما تكون المقاومة، والمساومين على أخس ما تكون المساومة، وفي شعوبهم الجاهل والذاهل، والمتشدّد والمتساهل، فبنوا مقدمات الحكم على هذا التفاوت في الكيان العربي، وغرّهم بالعرب الغرور، ولم يُتبعوا الأيام نظرَهم، بل وقعت عينهم على يوم العرب وأغفلوا غدهم، ثم فعلوا الفعلة النكراء فوازنوا بين ما نملك من قوى مادية نستطيع بها الممادَّة في الجهاد، وبين ما يملك الصهيونيون من ذلك، ودرسوا وقارنوا واستخدموا الجمع والطرح، فأنتجَتْ لهم المقدمات هذه الحقائق، وهي أننا لا نملك مصنعًا للسلاح، ولا معملًا للكيمياء ولا رجالًا فنّيين كالذي يملكه
اليهود من كل ذلك، وأن ثلاثين سنةً مرت- وكلها نُذر بهذه العاقبة- لم توقظنا من غفلتنا، ولم تدفعنا إلى الاستعداد لها، فقالوا: نقسمها، ونربح اليهود، لأنَّ لنا فيهم فائدة معجّلة، ولا نخشى العرب لأنه ليس فيهم مضرّة مؤجّلة.
ولكن فات أولئك البانين لكل شيئ على الماديّات أن هناك سلاحًا أمضى من جميع الأسلحة المادية، وأنه الشرط الأول في نفعها وغنائها، وهو سلاح الروحانيات، من إيمان بالحق، واعتداد بالنفس، وحفاظ على الكرامة وتقديس للشرف، وإباء للضيم، ومغالاة بالتضحية والفداء، واستخفاف بالظلم والظالمين، وفاتهم أن العرب وإن نزُر حظهم من القوى المادية التي لا يستهين بها الا جاهل، فإنّ حظهم موفور من القوى الروحية التي لا يستهين بها إلا مغرور. وستتقابل القوَّتان في فلسطين: قوة الروح ومعها الحق، وقوة المادة
* نشرت في العدد 22 من جريدة «البصائر» ، 9 فيفري سنة 1948.
ومعها الظلم والباطل. وسيرى العالم أيّتهما تُحطّم. وأيتهما تتحطّم؟ وكأن الله جلت قدرته أراد أن تجري التجربة الثانية للسلاح الروحاني امتحانًا لقدرته على المقاومة في أرض فلسطين منبع الروحانيات على يد وارثيها بالفرض من إسماعيل وإبراهيم، وسيُصارف العرب اليهود مادة بمادة حتى إذا بطلت خاصية المادّة فضلوهم بتلك الذخائر الروحانية التي اختصّوا بها، وستكون العاقبة للروح وعجائبه، لا للمادّة وغرائبها.
ويح الأقوياء!
…
أكانوا يتخيلون- يوم استهواهم البريق فرجحوا كفة صهيون- أن العرب يستسلمون للضعة، ويخضعون للهون والدون، وصفقة المغبون، أو يرضون بحكومة أصوات معروضة للإعارة والإجارة، هي عندهم من قبيل صوت الناعي ينعى من غير تأثّر، والنادبة تندُب من غير شجىً، فإن لم يكن أولئك الأقوياء بتلك المخيلة فهل بلغ بهم الاستخفاف بدماء البشر أن يُسبِّبوا لإراقتها الأسباب، ويفتحوا لهدرها الأبواب؟ ألم تكفهم المجازر الكبرى حتى يخلقوا لها بُنيات، ويفتحوا إلى أمثالها مطالع وثنيات؟
…
كذبتكم المخيلة أيها الأقوياء!
…
إن العرب إذا سيموا الحيف حكموا السيف، وإنهم سيأخذون حقّهم بالدم الأحمر في حين أراد اليهود استلابه منهم بالذهب الأصفر. وإن الزمان سيأخذكم بهذه الدماء المراقة، أخذ الأرض لفرس سُراقة (1)، وإن التاريخ سيعصِب بكم عارَها وشنارها، وسيئاتها وأوزارها.
وويح لليهود!
…
أبلغتْ بهم الغباوة أن يشتروا الحياة الموهومة بالموت المحقق؟ أما وسِعهم ما كانوا فيه من أخوّة العرب لهم، وعدل العرب فيهم، وفضل العرب عليهم، وانتصار العرب لهم، حتى يكفروا بذلك كله، ويلتمسوا النصفة ممن شرّد آباؤه آباءَهم وطرد أجداده أجدادهم، ويستجدوه الرحمة فيُنجدهم بالعذاب؛ وليس برحيم مَن ألقاك في جحيم!
وويح الجميع!
…
إن غرسَ صهيون في فلسطين لا ينبت، وإذا نبت فإنه لا يثبت، فانتظروا إنّا معكم من المنتظرين.
…
كان حظّ فلسطين في أدوار الزمن، وأطوار التاريخ، وعصور الفتوحات، حظ العقيلة الكريمة؛ تؤخذ في ميدان البطولة ممهورةً لا مقهورة، أخذها البابليون غلابًا، وأخذها الفرس اغتصابًا، وأخذها الرومان اقتسارًا، وأخذها العرب اقتدارًا، ولا يعدّ أخذ اليهود لها من
1) سراقة بن مالك المدلجي، الذي قفا أثر النبي وصاحبه أبي بكر يوم الهجرة على جعل يأخذه من قريش إذا ردّه إليهم، فلما لحقهما في الطريق ساخت قوائمُ فرسه في الأرض، والقصة مبسوطة في كتب التاريخ والسير.
كنعان في واحدة من هذه، وإنما هي كتابة الله بشرطها، ومعجزة موسى في حدودها. ولكنَّها في هذا العصر، عصر الحضارة، حضارة القرن العشرين، وعصر الديمقراطية، ديمقراطية العالم الجديد، وعصر الحرية، حرية الثورة الفرنسية، وعصر الشيوعية، شيوعية ماركس ولينين، تؤخذ في سوق الأغراض والمنافع الخسيسة بيعًا ومساومة
…
فات اليهود أن يأخذوها بالسيف من العرب فيكفِّروا بعد عشرات القرون عن سيّئة اجترحها أسلافهم يوم قالوا: {يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ} ، فاتهم ذلك، وأعوزتهم الخصائص الدمويّة التي يكونون بها كذلك، فلجأوا إلى ما هو الأشبه بهم لا بها، وهو
…
وهو الشراء. شراء القوي ليكون لهم معينًا، وبحمايتهم رهينًا، وشراء المعلنات اللافتة، والأصوات ولو كانت
…
خافتة!
…
يا بخس فلسطين!
…
أيبيعها من لا يملكها ويشتريها من لا يستحقّها؟ يا هوان فلسطين!
…
أيكون من ذوي الحق في بيعها تلك الدويلات التي لم تُخلَق خلقًا طبيعيًّا وإنما خلقتها المنافسات، والتي لم يبلغ الكثير منها جزءًا مما بلغته فلسطين من مجد في التاريخ، وسابِقة في الحضارة، ويد في نفع البشرية. بل لم تبلغ مجتمعةً ما بلغته فلسطين من احتضان النبوّات واستنباط الشرائع والعلوم والحكم.
ويقولون إنّ فلسطين منسك للأديان السماوية الثلاثة وإنها قبلة لأهل تلك الأديان جميعًا، فإن كان ما يقولون حقًّا- وهو حق في ذاته- فإن أحق الناس بالائتمان عليها العرب، لأنهم مسلمون، والإسلام يُوجب احترام الكُتب والكتابيين، ويوجب الإيمان بجميع الأنبياء والمرسلين، ويضمن إقامة الشعائر لليهود والمسيحيين، لا اليهودُ الذين كذَّبوا الأنبياء وقتلوهم، وصلبوا- بزعمهم- المسيح الصادق، وشرّدوا حوارييه من فلسطين، وكفروا بمحمد بعد ما جاءهم بالبيّنات.
ومن غريب ما صنعته الحضارة المادية بأهلها، وما طبعت عليه نفوسهم من جفاف، وما ابتلتْ به ضمائرهم من زيغ وانحراف، أن الدولَ والدويلات التي صوّت ممثلوها على تقسيم فلسطين وغرس اليهودية في الجزء الأهم منها غرسًا رسميًا قانونيًا؛ كلها دول تدين أممها بالمسيحية، وباعتقاد أن اليهود صلبوا المسيح
…
فهل يُلام العرب بعد هذا- والمسلمون من ورائهم- إذا اعتقدوا أنها حرب صليبية، بعض أسلحتها اليهود، وأنها ممالأة مكشوفة من الدينين الصالب والمصلوب على الإسلام؛ نعم وإن كلمة المارشال اللنبي التي قالها يوم انتزع القدس من يد الأتراك لا تزال مأثورة مشهورة، ولا يزال رنينها مجلجلًا في الآذان، وصداها متجاوبًا في الأذهان.
أيها العرب، أيها المسلمون!
إن فلسطين وديعة محمد عندنا، وأمانة عمر في ذمّتنا، وعهد الإسلام في أعناقنا، فلئن أخذها اليهود منّا ونحن عصبة إنا إذًا لخاسرون.