الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أرحام تتعاطف *
طالما نعينا على المسلمين خصوصًا، وعلى الشرقيين عمومًا، هذا التقاطع الذي شتّت شملهم، وفرّق جامعتهم، وصيّرهم لقمة سائغة للمستعمرين، وطالما شرحْنا للمسلمين أسرار التواصل والتراحم والتقارب الكامنة في دينهم، وأقمنا لهم الأدلة، وضربنا لهم الأمثال، وسُقنا المَثلات، وجلونا العبر، وكانت نُذر الشر تتوالى، فيتمارَوْن بها، وصيحات الضحايا منهم تتعالى، فيصِمُّون عنها، والزمن سائر، والفلك دائر، وهم في غفلة ساهون.
دعوناهم إلى الجامعة الواسعة التي لا تضيق بنزيل، وهي جامعة الإسلام، إلى الروحانية الخالصة التي لا تشاب بدخيل، وهي روحانية الشرق، وحذّرناهم من هذه الأفاحيص الضيقة، والوطنيات المحدودة، التي هي منبع شقائهم ومبعث بلائهم، وبيَّنا لهم أنها دسيسة استعمارية، زيّنها لهم سماسرة الغرب، وعلماؤه وأدلّاؤه، وغايتهم منها التفريق، ثم التمزيق، ثم القضم، ثم الهضم، وأنّ الاستعمار- بهذه الدسيسة وأشباهها- يُفسد فطرة الله فيهم، وينقُض دين الله عندهم، ففطرة الله تُلهِم نصر الأخ لأخيه، وحماية الجار لجاره، ودينُ الله يوجب حقوق الأخوة، ويدعو إلى إيثار الجار والإحسان إليه، وهو بهذا يُعمِّم التناصر، ويقيم في الأرض شرعة التعاون، فما من جار إلا له جار، والناس كلهم متجاورون، جوار الدار للدار، فجوار القرية للقرية، فجوار المدينة للمدينة، فجوار الوطن للوطن، فإذا أخذوا بهذه الشرعة وأقاموا حدودَها عمّ التناصر والتعاون، وسدّت المنافذ على المغيرين، وعلى المفسدين في الأرض، ولكنّ الاستعمار- بهذه الدسيسة- بدّل شرعة الله بشرعة الشيطان، فهو يقول لك: أقصِر اهتمامك على دارك، ولا تلتفتْ إلى دار جارك، ويوسوس للجار بمثل ذلك، حتى إذا أطاعاه خرّب الداريْن، واستعبد الجارين.
* نشرت في العدد 148 من جريدة «البصائر» ، 26 مارس سنة 1951.
وما زال الاستعمار يروّض المسلمين والشرقيين على قبول هذه الدسيسة، ثم على استحسانها، ثم على الأخذ بها، حتى تقطَّعوا في الأرض أممًا ليس منهم الصالحون
…
ثم تقطَّعت الأمم جماعات، وكلّما آنس منهم مخيلة انتباه غرّهم بما يغرّ به الشيطان، بشجرة الخلد وملك لا يبلى، وجرّهم بما ينجرّ به الصبيان: ألفاظ فارغة وأسماء وألقاب، وعروش من أعواد، في مسيل واد، حتى ابتلع ممالكهم، واسترقَّ ملوكهم، واحتجن أموالهم، وتركهم مثلًا في الآخرين، واعتبرْ ذلك بهذا الاستعمار الجاثم في شمال أفريقيا، وعدْ بذاكرتك إلى مبدإ أمره، وكيف أكل العنقود حبّة حبّة، متمهّلًا مطاولًا، يرقب الخُلسَ، ويدَّرع الغَلس؟ وكيف أطعمتْه غفلتنا الكراع، فأطمعته في الذراع، حتى استوعب الجسد كلّه أكلًا. وكيف كان يعتدي على الجزء، فيقابله الكل بالهزء. اعتبر ذلك ترَ أننا ما أخِذنا بغتة، ولا سُلبنا هذا الملك الضخم فلتة، وإنما هي آثار تلك الدسيسة فينا، استبدلنا التناحر بالتناصر، والتعاوي بالتعاون، ثم نزلنا دركة، فأصبحنا وإن الأخ ليقتل أخاه في سبيل قاتلهما معًا، ولو اتّعظ الأخير منا بالأول لما مدّ الاستعمار هذا المدّ، ولما بلغ فينا إلى هذا الحدّ.
…
وحلّت المحنة بالمغرب الأقصى، وجاءت فرنسا بالخاطئة، فأهانت ملكًا، وهدّدت عرشًا، وأذلّت شعبًا، وروّعت سربًا، وانتهكتْ حُرمات، واعتقلت أحرارًا، وكبتت أصواتًا، وحطت أعلياء من مراتبهم، ونصبَتْ أدنياء في غير مناصبهم، واستعانت على العقلاء بالسفهاء، وسلّطت الأخ على أخيه، والرّعيّة الآمنة على ملكها الأمين، وأشعلت النار بنا، لتُطفئها بنا
…
فلا يكون ضرامها في الإشعال والإطفاء إلا أجسامنا ودماؤنا
…
وجنت - بذلك كله- ثمار ما زرعته من تفريق، ورأينا- رؤية العين- ما كنّا نحذره على المسلمين، ونُحذّر منه المسلمين
…
رأينا المثال المجسّم من انتصار الاستعمار بالمسلم على أخيه المسلم، وترويع المسلم بأخيه المسلم، وخوف المسلم من أخيه المسلم، كلّ ذلك والدين واحد، والوطن واحد، والمصلحة واحدة، والخصم المتربّص واحد، ولولا حكمة من العقلاء، وأناةٌ من الحلماء، لأريقت دماء المسلمين بمُدَى إخوانهم، في سبيل تمكين الاستعمار من رقاب جميعهم، ولعمري إنها لأقصى غاية من الفساد بلغناها، وأقصى أمنيّة للاستعمار نالها بنا فينا.
من كان يظنّ أو يتوقّع أن يجلب الاستعمار على عرش من عروش الإسلام العريقة، لا بخيله ورجله، بل بخيل المسلمين الذين رفعوا دعائمه ورجلهم؛ من كان يظن أو يتوقَّع أن الاستعمار يبلغ منا هذا المبلغ، فيدوسنا بأرجلنا، ويريق دماءَنا بأيدينا، وينتصر علينا بنا،
ويصيِّر من بعضنا لبعضنا "بعابع" تخويف، ووحوش إرهاب، ويبلغ في ترويضنا إلى حد أن نصبِح أذلةً عليه، أعزةً على قادتنا ورجالنا؟ من كان لا يظن ذلك ولا يتوقعه، فها هو ذا محقَّق غير مظنون، وواقع غير متوقع، ولئن وقع متفرقًا في غير المغرب، فقد وقع كله مجتمعًا في المغرب.
وكأنّ الأزْمة اشتدّت لتنفرج
…
وكأنْ القنديل آذن بالانطفاء فتلك إيماضتُه الأخيرة، وكأنّ يد الله التي ارتفعت عنّا بما كسبت أيدينا قد لامستنا هذه المرة
…
فلم نرَ محنةً من المحن التي جرّها الاستعمار على الإسلام وعلى الشرق، كانت أجمع للقلوب، وأدعى إلى التناصر من هذه المحنة، فقد كانت عاملًا إلهيًّا فتح العيون العُمي، والآذان الصمّ، والقلوب الغُلف، وأيقظ الشواعر النائمة، ونبّه القوى الخامدة، فتعاطفت الأرحام المتقاطعة، وتعارفت الأرواح المتناكرة، فكانت تلك الموجة الجارفة من السخط والغضب والامتعاض، ظهرت في صحف الشرق، ثم سرت إلى حكوماته وهيئاته، ثم انتقلت عدواها إلى الشعوب، فكوّنت إجماعًا رهيبًا على انتصار المشرق للمغرب، لم يسبق له مثيل، وكانت غضبةً إسلامية ارتاع لها الاستعمار، وقدّر عواقبها، فلاذ بالحيلة والكيد والتهديد على عادته، وواهًا لها غضبةً لو اعترتنا مرةً أو مرتين قبل اليوم، لما عاش الاستعمار بيننا إلى اليوم!
إننا- على ضعفنا- ما زلنا نملك أسلحة لو أحسنَّا استعمالها مجتمعين، لأرهبنا صهيون ونيرون معًا، ولكنّ طالع الاستعمار ما زال بغفلتنا وتخاذلنا متنقلًا بين "سعد السعود" وبين "سَعْدِ بُلَع"، ولو عاملناه بغير هذه المعاملة لكان منزلُه "الدَّيران". ولو أن المسلمين والشرقيين عمومًا لقُوا خصومهم في كل معترك سياسي بمثل هذا الإجماع في الرأي، والتواطؤ على الغضب، لهَتَموا أنيابهم الحداد، وقلَّموا أظافرهم الجاسية، ولكنهم لانوا لخصمهم أولًا، فقسا عليهم أخيرًا، وعوّدوه أن لا يلقوه جميعًا، فعوّدهم أن يلتهمهم جميعًا.
ونكون عقلاء واقعيين إذا قدّرنا أن هذه الضجة التي أثرناها ستنتهي بلا فائدة، ولا تنال من ظاهر الاستعمار منالًا؛ لما نعرفه من أساليبه في إسكات مثلها بالحيلة والكيد؛ ولما نعرفه من أنفسنا من عيوب الانخداع والاغترار وسرعة التراجع، وعدم الاستمساك، ولكننا نكون عقلاء واقعيين أيضًا إذا قدرنا هذه الضجة قدرها، وأعظمنا آثارها النفسية في الشعوب الإسلامية والشرقية، وأقمناها دليلًا على شمول اليقظة لها، وحياة الشعور فيها، وانتزعنا منها فألًا، ما ينتزعه الاستعمار منها طيرة.
***
أينقِم منّا الاستعمار أن نتناصر بالكلام، وهو سلاح المغلوب، ونتعاون بالأقلام، وهي بقية المتاع المسلوب، وتتعاطف منا الأرحام، وذلك أيسر مطلوب؟ إن صحّ ذلك منّا فلا رضي ولا حظي، ولا زال غضبان حرِدًا.
إننا لا نلومه إلا إذا لمنا السباع الضارية على الافتراس، وإنما نلوم أنفسنا أن لا نكون شوكًا في لهواته، ونغَصًا في شهواته، وسوادًا في لونه، وفسادًا في كونه، وضياعًا في صونه، وخذلانًا في عونه، ولو كنّا ذلك لأنصفناه وانتصفنا لأنفسنا منه
…