الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل الدين عن الحكومة (19)
…
خصمان، فمن الحكم؟ *
ــ
- 1 -
قضية شاذة، لا يجد الباحث فيها والمؤرخ لها نظيرًا فيما تباشره حكومات الدنيا من شؤون أممها، مؤمنها وملحدها، ولا يجد للقوانين التي تصرفها نظيرًا في قوانين الدنيا، سماويها ووضعيها، وقد يستسيغ العاقل من أعمال الحكومات أن تراقب كل شيء حذرًا واحتياطًا، ولكنه لا يستسيغ منها أن تتصرف في كل شيء تحكمًا واستبدادًا.
تقوم هذه القضية على خصمين: الأمة بحقها في دينها، وحجتها الناهضة في الإرث والاستحقاق، والحكومة بمصلحتها المادية، وشبهتها الواهية في التغلب والاستلحاق؛ وتحامي عن الأمة جمعية العلماء، بما لها من حق في الدين، وبما عليها من عهود في الدفاع عنه، ويحامي عن الحكومة جهازُها الإداري المتركب من الرجال الذين شابت مفارقهم في تنفيذ مآرب الاستعمار، وشبوا على بغض الإسلام، واحتقار المسلم، واستباحة دمه وبدنه وماله وعرضه، وإنكار ذاتيته وإنسانيته، ومن "رجال الدين" المتهافتين على وظائفه، المشترين لها من الحكومة بأغلى ثمن وهو شرفه والغيرة عليه، والذين أعمت الأطماع بصائرهم فتنكروا لدينهم، وأصبحوا أعوانًا عليه، وآلات لهدمه.
فالقضية- في حقيقتها- صراع بين الحق وبين المصلحة، فإذا كان صاحب الحق لا يتنازل، ومدعي المصلحة لا يسلم، لم تزدد القضية إلّا تعقدًا؛ وإذا تمادى هذا الإصرار من الطرفين، إصرار المحقّ على حقه، وإصرار المبطل على باطله، فمن الحَكم؟
…
الواقع- برغمنا- أن خصمنا في القضية هو الحَكم، ما دام يملك ما لا نملك من المال الذي يوجه وجوه أصحاب المطامع إليه، والنواب الذين يعولون في الوصول إلى كراسي النيابة عليه، وهذه الطائفة التي تقبل الأرض بين يديه؛ ولكننا- على ذلك كله-
* نشرت في العدد 158 من جريدة «البصائر» ، 4 جوان سنة 1951.
مصرون على المطالبة بحقنا، لا يثنينا تهديد ولا وعيد، ولا مراوغة ولا مطاولة، إلى أن تفصل القضية على وجه يرضي الإسلام ويرضي الأمة، ونحن نتجاهل كل حل لا يفي بالرغبة كاملةً، ونواصل كفاحنا ما دمنا وما دامت هذه الحكومة مصرّة على باطلها، تنتحل له في كل يوم أسباب البقاء، وتلتمس وجوه الحيل، وتستنجد هذا الفريق منا ليكون عونًا لها علينا.
…
كلا الخصمين غضبان على الآخر: الحكومة غضبى علينا إلى حدّ التمزق، ما عندنا في ذلك شك، ونحن غضاب عليها إلى درجة التميز، ما عندها في ذلك ريب، وآية غضبنا هذا الشرر المتطاير في «البصائر» ، فما هي دواعي هذا الغضب؟
أما غضب الحكومة علينا فمنشؤه واضح عندنا، فهي تعتقد أننا أول من أطار من عينيها نوم مائة سنة نومًا هادئًا مطمئنًا، وأوّل من نبه الأمة من غفلتها عن هذه القضية، وأول من كشف الغطاء وشنع وقبح وأقام الحجة وضرب المثل وسدّ منافذ التعلّات، وأول من وقف في وجهها من هذا الصنف مطالبًا ملحًّا، لم يردعه تخويف، ولم يثنه تسويف، ولم ينخدع بمغالطة، وجماع هذه الأسباب أنها ترى فينا شبح من يريد خلع الحلة من لابسها، بعد أن طال بها استمتاعه، وخلع الإمرة من صاحبها بعد أن استحكم فيها اضطلاعه، وهي ترى في انفصال الدين عنها زعزعةً للاستعمار، وحرمانًا له من مال وافر، وجاه عريض، وسلطان ممتد، وجيش كان رهن الإشارة، وإذا كانت هذه هي أسباب غضبها علينا
…
فلا زالت غضبى!
وأما غضبنا نحن عليها فهو غضب لديننا أن تمتهن كرامته، وأن يبقى هو ورجاله آلةً مسخرة لغير أهله، ولم نغضب إلّا لحق غصب، وطالبنا الغاصب بالنصفة فيه فلم يستجب، لم نغضب إلّا لهذه المهانة التي لحقت الإسلام دون الأديان، والأمة المسلمة دون بقية الأمم، وقد عرفنا استعباد الإنسان، وتسخير الحيوان، فأما استعباد الأديان فلم نعرف منه ولم يعرف منه الناس إلّا هذا المثال الفرد في الجزائر، ومع الإسلام خاصة.
…
مواقفنا المشهودة في هذه القضية هي مبعث الشر بيننا وبين الحكومة، فنحن لا نسكت حتى تنصف، وهي لا ترضى حتى نسكت، أفتريد أن نبقى في هذا الدور الذي لا انفكاك منه؟ وإن القضية لأهوَن من هذا كله، لو كان لهذه الحكومة قليل من التدبر وحسن القصد، خصوصًا بعد أن أرحناها من أنفسنا، وتحديناها بأن تسلم الحق إلى أهله كاملًا لا نقص فيه
ولا غش ولا مواربة ولا حيلة ولا تغطية بموظفيها وأذنابها، ولا تفرقة بين المساجد وأوقافها؛ ونحن نتخلى عن حقنا كجمعية، ولا نتمسك إلّا بحقنا الطبيعي الذي لا تستطيع هذه الحكومة ولا غيرها أن تجردنا منه، وهو أننا أفراد من الأمة، لنا رأي في كل ما يضرها وما ينفعها، أما مع ما نعلمه ونستيقنه من أن في مطابخ الحكومة آراة تطبخ وتكون، وفي مكاتبها برامج تخطط وتحضر، وأنها- كلها- ليست في مصلحة الأمة ودينها، وإنما هي مصلحة الحكومة بالذات، وفي صالح رهط من أصحاب المطامع والأغراض بالتبع، فإننا نثبت في موقفنا، ونواصل التشهير بالظلم والتشنيع عليه حتى يموت الظلم أو نموت.
…
قضية فصل الدين، وقضية حرية التعليم العربي، هما مبدأُنا الذي لا نحيد عنه، وهما ميداننا الذي لا نبرح منازلين الحكومة فيه، ومواقفنا فيهما هي التي أثارت- وما زالت تثير- سخط الحكومة وغضبها علينا؛ وعناد الحكومة فيها هو الذي يُلجئنا إلى التوسل بكل وسيلة في الوصول إلى غايتنا فيهما، حتى خيل إلى هذه الحكومة أننا جمعية سياسية متسترة بثوب الدين، وأشاعت ذلك على ألسنة سماسرتها ودعاتها حتى ملأت به الدنيا، وهي مخطئة في هذا الفهم، أو متعمدة له، لتستبيح به كل ما تعاملنا به من عسف وإرهاق، فلتعلم هذه الحكومة أننا في سبيل مبدئنا احتككنا بالسياسة وشاركنا في مؤتمرها، واتصلنا برجالها، واصطلينا بنارها، وفي سبيل مبدئنا نأخذ بجميع الأسباب إلّا سببًا يحرّمه ديننا، أو يأباه علينا شرفنا؛ ومن ابتلي بمثل هذه الحكومة في عنادها للحق، وتصلبها على الباطل، أدركه الإعياء فملّ، أو اشتبهت عليه السبلُ فضلّ، أو خانه الصبر فزل، أما نحن فوالله ما زلت لنا قدم، ولا زاغ لنا بصر، ولا ضعفت لنا عقيدة، ولا غامت لنا بصيرة، وإننا نأتي ما نأتي وعقولنا في مستقرها
…
وطالما صارحنا هذه الحكومة- في غير خلابة- بأنها هي التي خرجت من وضعها فأدخلت الدين في السياسة، فاضطرتنا إلى أن نقابلها بالمثل فندخل السياسة في الدين؛ والبادئ أظلم، على أن تدخلنا في السياسة أدنى إلى الشرف، وأبعدُ عن الاستهجان من تدخلها في الدين.
…
لا ندري في أيّ قسم تعد هذه الحكومة مساجدنا التي استبدت بها، وأوقافنا التي احتجنتها؟
إن كانت تعدها غنائم حرب، فهي قد حاربت الحكومة التركية وأخذت أموالها، ولم تحارب الله حتى تأخذ ماله
…
وإن كانت تعدها ميراثًا، فقد أفهمناها أن الدين لا يرثه الأجنبي عنه مع وجود الوارث الأصيل، وإن كانت تعدّها مال يتامى فقد كبر اليتامى ورشدوا، وإن كانت تعدها مال مفقود، فقد رجع المفقود، قبل الأجل المحدود، فالأحجى بها أن تقول: هو مالٌ مغصوب، لنسألها: ومن المغصوب منه؟ لتقول: هو الله
…
فإذا قالت ذلك ألقت إلينا بالمعاذير
…