الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكرى 8 ماي *
- 2
-
يوم مظلم الجوانب بالظلم، مطرّز الحواشي بالدماء المطلولة، مقشعرّ الأرض من بطش الأقوياء، مبتهج السماء بأرواح الشهداء؛ خلعت شمسه طبيعتها فلا حياة ولا نور، وخرج شهره عن طاعة الربيع فلا ثمر ولا نوْر، وغبنت حقيقته عند الأقلام فلا تصوير ولا تدوين.
…
يوم ليس بالغريب عن (رزنامة) الاستعمار الإفرنسي بهذا الوطن، فكم له من أيام مثله، ولكن الغريب فيه أن يجعل- عن قصد- ختامًا لكتاب الحرب، ممن أنهكتهم الحرب على من قاسمهم لأواءها، وأعانهم على إحراز النصر فيها؛ ولو كان هذا اليوم في أوائل الحرب لوجدنا من يقول: إنه تجربة، كما يجرّب الجبان القوي سيفه في الضعيف الأعزرل.
…
إثنان قد خلقا لمشأمة الاستعمار والحرب؛ ولحكمة ما كانا سليلي أبوّة، لا يتم أولهما إلا بثانيهما، ولا يكون ثانيهما إلا وسيلة لأوّلهما؛ وقد تلاقت يداهما الآثمتان في هذا اليوم في هذا الوطن، هذا مودع إلى ميعاد، فقعقعة السلاح تحيّته، وذلك مزمع أن يقيم إلى غير ميعاد، فجثث القتلى من هذه الأمّة ضحيته.
…
* نشرت في العدد 33 من جريدة «البصائر» ، 15 ماي 1948.
تستحسن العقول قتل القاتل، وتؤيّدها الشرائع فتحكم بقتل القاتل، ولكن الاستعمار العاتي يتحدّى العقول لأنه عدوّها، والشرائع لأنها عدوّه، فلا يقوم إلا على قتل غير القاتل
…
ويغلو في التألّه الطاغي، فيتحدّى خالق العقول، ومنزل الشرائع، وينسخ حكم الله بحكمه، ورحمة الله بقسوته، فيقتل الشيوخ والزمنى والنساء والأطفال.
أين النعمان بن المنذر ويوماه من الاستعمار وأيامه؟ كان للمنذر يومان: يوم بؤس ويوم نُعمى، وبينهما مجال واسع للبخت، وملعب فسيح للحظ، فإذا طار طائر النحس في أحد يوميه وقع على حائن أتت به رجلاه، أو محدود لم يلتق مع السعد في طريق، أما الاستعمار فأيامه كلها نحسات، بل دهره، كله يوم نحس مستمر، مُحيت الفواصل بين أيامه ولياليه، فكلّها سود حوالك، يطير طائر النحس منها فلا يقع إلا على أمم آمنة مطمئنة؛ وأين قتلى ضمختْ دماؤها الغريين (1)، من قتلى ضمخت دماؤها أديم الأرض، وخالطت البحار حتى ماء البحار أشكل.
…
أمة كالأمم حلّت بها ويلات الحرب كما حلّت بغيرها، وذاقت لباس الجوع والعري والخوف، وتحيّفت الحرب أقواتها وأموالها، وجرّعت الثكل أمهاتها واليتم أطفالها، وأكلت شبابها، وقطعت أسبابها، وصليت نار الحرب ولم تكن من جُناتها، وقدمت من ثمن النصر مئات الألوف من أبنائها قاتلوا لغير غاية، وقتلوا من غير شرف؛ في حين كانت الأمم تقتتل على الملك، والملك مجد وسيادة، وعلى الحرية، والحرية حياة وعزة، أما هذه الأمة فكانت تقاتل لخيال من أمل، وذَماء من حياة، وصبابة من رجاء، وخُلب من وعد علا نداؤه، وتجاوبت في الخافقين أصداؤه، من ديمقراطية زائفة كذبَ نبيّها مرتين (2) في جيل واحد، فلما سكن الإعصار وتنفّست الأمم في جوّ من السلم، وتهيأت كل أمة أن تستقبل بقايا النار من شبابها، وكلّ أم أن تعانق وحيدها، عاودت الاستعمار ألوهيته وحيوانيته في لحظة واحدة، يحادّ الله بتلك، ويغتال عباده بهذه، وعاد بالتقتيل على من كانوا بالأمس يمدّون حياته بحياتهم، ليريهم مبلغ الصدق في تلك الوعود، ويحدّثهم بلغة الدم ومنطق الأشلاء أنه إنما أقام سوق الحرب ليشتري حياته بموتهم، وليرمّم جداره بهدم ديارهم، فإذا بقي منهم كلب بالوصيد، أو من ديارهم قائم غير حصيد، قضى ذلك المنطق فيه بالإبادة والمحو، وجعل أيامه خاتمة لأيام الدم والحديد، وعطَفه على عدوّ الأمس المشترك عطفًا
1) الغريان: بناءان قرب الكوفة كان النعمان يلطخهما بدماء قتلاه.
2) نبيُّها: هو الولايات المتحدة الأمريكية. مرّتين: إشارة إلى وعود أمريكا في الحربين العالميتين.
بالفاء لا بثم، وكَذلك كان، فقد فتح الناس أعينهم في يوم واحد على بشائر تدقّ بالنصر، وعلى عشائر من "المنتصرين" تُساق للنحر؛ وفتحوا آذانهم على مدافع للتبشير، وأخرى للتدمير، وعلى أخبار تؤذن بأن الدماء رقأت في العالم كله، وأخرى تقول: إن الدماء أريقت في جزء صغير من العالم، هو تلك القرى المنكوبة من مقاطعة قسنطينة. وفي لحظة واحدة تسامع العالم بأن الحرب انتهت مساء أمس ببرلين، وابتدأت صباح اليوم بالجزائر، وفيما بين خطرة البرق، بين الغرب والشرق، أعلنت حرب من طرف واحد، وانجلت في بضعة أيام عن ألوف من القتلى العزّل الضعفاء، وإحراق قرى وتدمير مساكن، واستباحة حُرُمات ونهب أموال، وما تبع ذلك من تغريم وسجن واعتقال؛ ذلكم هو يوم 8 ماي.
ومن يكون البادئ يا ترى؟ آلضَّعيف الأعزل، أم القوي المسلّح؟
…
لكَ الويل أيها الاستعمار! أهذا جزاء من استنجدته في ساعة العسرة فأنجدكَ، واستصرخته حين أيقنتَ بالعدم فأوجدك؟ أهذا جزاء من كان يسهر وأبناؤك نيام، ويجوع أهله وأهلك بطان، ويثبت في العواصف التي تطير فيها نفوس أبنائك شَعاعًا؟ أيشرّفك أن ينقلب الجزائري من ميدان القتال إلى أهله بعد أن شاركك في النصر لا في الغنيمة ولعلّ فرحه بانتصارك مساوٍ لفرحه بالسلامة، فيجد الأب قتيلًا، والأم مجنونة من الفزع، والدار مهدومة أو محرقة، والغلة متلفة، والعرض منتهكًا، والمال نهبًا مقسمًا، والصغار هائمين في العراء؟
…
يا يوم!
…
لله دماء بريئة أُريقت فيك، ولله أعراض طاهرة انتُهكت فيك، ولله أموال محترمة استُبيحت فيك، ولله يتامى فقدوا العائل الكافي فيك، ولله أيامى فقدن بعولتهن فيك، ثم كان من لئيم المكر بهنّ أن مُنعن من الإرث والتزوّج، ولله صبابة أموال أبقتها يد العائثين، وحُبست فلم تُقسم على الوارثين.
…
يا يوم!
…
لك في نفوسنا السمة التي لا تمحى، والذكرى التي لا تُنسى، فكنْ من أية سنة شئت فأنت يوم 8 ماي وكفى. وكل ما لك علينا من دَين أن نُحي ذكراك، وكل ما علينا لك من واجب أن ندوّن تاريخك في الطروس لئلا يمسحه النسيان من النفوس.