الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شهر رمضان
…
أثر الصوم في النفوس*
ــ
الإسلام دين تربية للملكات والفضائل والكمالات، وهو يعتبر المسلم تلميذًا ملازمًا في مدرسة الحياة، دائمًا فيها، دائبًا عليها؛ يتلقّى فيها ما تقتضيه طبيعته من نقص وكمال، وما تقتضيه طبيعتها من خير وشر، ومن ثم فهو يأخذه أخذ المربّي في مزيج من الرفق والعنف، بامتحانات دورية متكرّرة، لا يخرج من امتحان منها إلا ليدخل في امتحان؛
وفي هذه الامتحانات من الفوائد للمسلم ما لا يوجد عشره ولا معشاره في الامتحانات المدرسية المعروفة.
وامتحانات الإسلام متجلِّية في هذه الشعائر المفروضة على المسلم، وما فيها من تكاليف دقيقة، يراها الخليّ الفارغ أنواعًا من التعبّدات تتلقَّى بالتسليم، ويراها المستبصر المتدبّر ضروبًا من التربية شُرعت للتزكية والتعليم؛ وما يريد الله ليضيِّق بها على المسلم، ولا ليجعل عليه في الدين حرجًا؛ ولكن يريد ليطهِّره بها، وينمّي ملكات الخير والرحمة فيه، وليقوّي إرادته وعزيمته في الإقدام على الخير، والإقلاع عن الشر، ويروّضه على الفضائل الشاقة، كالصبر، والثبات، والحزم، والعزم، والنظام، وليحرِّره من تعبُّد الشهوات له وملكها لعنانه، وما زالت الشهوات الحيوانية موبقًا للآدمي، منذ أكل أبواه من الشجرة، حكمة من الله في تعليق سعادة الإنسان وشقائه بكسبه، ليحيا عن بيّنة، ويهلك عن بيّنة.
في كل فريضة من فرائض الإسلام امتحان لإيمان المسلم، ولعقله، وإرادته، ودع عنك الأركان الخمسة، فالامتحان فيها واضح المعنى بيّنُ الأثر، وجاوِزْها إلى أمّهات الفضائل التي هي واجبات تكميلية، لا يكمل إيمان المؤمن إلا بها، كالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والصدق في القول والعمل، والصبر في مواطنه، والشجاعة في ميدانها، والبذل في سبله، فكل
* نُشرت في العدد 43 من جريدة «البصائر» ، 12 جويلية سنة 1948.
واحدة، أو في كل واحدة منها امتحان تكميلي للإيمان، تعلو فيه قيم، وتهبط قيم، وفي التوحيد امتحان لليقين، واليقين أساس السعادة، وفي الصلاة امتحان للإرادة، والإرادة أصل النجاح، وفي الحجّ امتحان للهمم بالسير في الأرض، وهو منبع العلم، وفي الصوم امتحان للصبر، والصبر رائد النصر، ونحن نريد من الامتحان هنا معناه العصري الشائع.
غير أن الصوم أعسرها امتحانًا، لأنه مقاومة عنيفة لسلطان الشهوات الجسمية ومقاومُ الشهوات في نفسه أو في غيره قلما ينتصر، فإن انتصر فقلما يقف به الانتصار عند حدّ الاعتدال، بل كثيرًا ما يجاوزه إلى أنواع من الشذوذ والتنطع تأباها الفطرة والعقل، وهذه الروح المقاومة في الصوم هي التي راعتها الأديان والنحل، فجعلت الصوم إحدى عباداتها، تروّض عليه النفوس المطمئنة، وتروّض به النفوس الجامحة؛ ولكن الصوم في الإسلام يزيد عليها جميعًا في صوره ومدّته، وفي تأثيره وشدّته، فمدّته شهر قمري متتابع الأيام، وصورتُه الكاملة فَطْم عن شهوات البطن والفرج واللسان والأذن، وكلّ ما نقص من أجزاء ذلك الفطام فهو نقص في حقيقة الصوم، كما جاءت بذلك الآثار الصحيحة عن صاحب الشريعة، وكما تقتضيه الحكمة الجامعة من معنى الصوم. فلا يتوهمنَّ المسلم أن الصوم هو ما عليه العامّة اليوم من إمساك تقليدي عن بعض الشهوات في النهار، يعقبه انهماك في جميع الشهوات بالليل، فإن الذي تشاهده من آثار هذا الصوم العرفي إجاعة البطن، وإظماء الكبد، وفتور الأعضاء، وانقباض الأسارير، وبذاءة اللسان، وسرعة الانفعال، واتخاذ الصوم شفيعًا فيما لا يحبّ الله من الجهر بالسوء من القول، وعذرًا فيما تبدر به البوادر من اللجاج والخصام والأيمان الفاجرة!! كلا
…
إن الصوم لا يكمل، ولا تتم حقيقته، ولا تظهر حكمته ولا آثاره إلا بالفطام عن جميع الشهوات الموزّعة على الجوارح، وللأذن شهوات في الاستماع، وللعين شهوات في امتداد النظر وتسريحه، وللسان شهوات في الغيبة والنميمة، ولذّات في الكذب واللغو والتزويق: وإن شهوات اللسان لتربو على شهوات الجوارح كلها، وإن له لضراوة بتلك الشهوات لا يستطيع حبسه عنها إلا الموفَّقون من أصحاب العزائم القويّة، وأن تلك الضراوة هي التي هوّنت خطبه حتى على الخواص فلم يعتبروا صوم اللسان من شروط الصوم؛ وأعانهم على ذلك التهوين تقصير الفقهاء في تعريف الصوم، وقصرهم إياه على الإمساك عن الشهوتين، وافتتانهم بالتفريعات المفروضة، وغفلتهم عما جاء في السنَّة المطهرة من بيان لحقيقة الصوم وصفات الصائم.
…
صوم رمضان محك للإرادات النفسية، وقمع للشهوات الجسمية، ورمز للتعبد في صورته العليا، ورياضة شاقّة على هجر اللذائذ والطيّبات، وتدريب منظّم على حمل المكروه من جوع وعطش وسكوت، ودرس مفيد في سياسة المرء لنفسه، وتحكّمه في أهوائها،
وضبطه بالجِدّ لنوازع الهزل واللغو والعبث فيها، وتربية عملية لخلق الرحمة بالعاجز المعدم، فلولا الصوم لما ذاق الأغنياء الواجدون ألم الجوع، ولما تصوّروا ما يفعله الجوع بالجائعين، وفي الإدراكات النفسية جوانب لا يغني فيها السماع عن الوجدان، ومنها هذا، فلو أن جائعًا ظلّ وبات على الطوى خمسًا، ووقف خمسًا أخرى يصوّر للأغنياء البطان ما فعل الجوع بأمعائه وأعصابه، وكان حالُه أبلغ في التعبير من مقاله، لَما بلغ في التأثير فيهم ما تبلغه جوعة واحدة في نفس غني مترف.
لذلك كان نبيّنا إمام الأنبياء، وسيّد الحكماء، أجود ما يكون في رمضان.
…
ورمضان نفحة إلهية تهُبّ على العالم الأرضي في كل عام قمريّ مرّة، وصفحة سماوية تتجفى على أهل هذه الأرض فتجلو لهم من صفات الله عطفه وبرّه، ومن لطائف الإسلام حكمته وسرّه، فلينظر المسلمون أين حظهم من تلك النفحة، وأين مكانهم في تلك الصفحة.
ورمضان "مستشفى" زماني يجد فيه كلّ مريض دواءَ دائه، يستشفي فيه مرضى البخل بالإحسان، ومرضى البِطنة والنعيم بالجوع والعطش، ومرضى الجوع والخصاصة بالشبع والكفاية.
ورمضان جبّار الشهور، في الدهور، مرهوب الصولة والدولة، لا يقبل التساهل ولا التجاهل، ومن غرائب شؤونه أن معظم صائميه من الأغفال، وأن معظم جنده من الأطفال، يستعجلون صومه وهم صغار، ويستقصرون أيامه وهي طوال، فإذا انتهك حرمته منتهك بثّوا حوله الأرصاد، وكانوا له بالمرصاد، ورشقوه ونضحوه، و (بَهْدلوه) وفضحوه، لا ينجو منهم مختفٍ في خان، ولا مختبئ في حان، ولا ماكر يغِشّ، ولا آو إلى عشّ، ولا متستّر بحُشّ (1): ولا من يغيّر الشكل، لأجل الأكل، ولا من يتنكّر بحجاب الوجه، ولا بسفور الرأس، ولا برطانة اللسان، كأنما لكل شيء في خياشيمهم رائحة، حتى الهيئات والكلمات، وهم قوم جريحهم جُبار الجرح، وقتيلهم هدر الدم.
سبحان من ضيّق إحصارَه
…
وصيّر الأطفال أنصارَه
وحرّك الريحيْن بُشرى به
…
رُخاءَه الهيْنَ وإعصاره
…
1) الحش: الكنيف.
ورمضان- مع ذلك كله- مجلى أوصاف للوُصاف: حرم أهل المجون مما يرجون، وحبس لهم من مطايا اللهو ما يُزجون؛ وأحال- لغمّهم- أيام الدجون، كالليالي الجون؛ فترِحوا لتجلّيه وفرحوا بتولّيه، ونظموا ونثروا، وقالوا فيه فأكثروا، وأطلّ على الشعراء بالغارة الشعواء فهاموا وجنُّوا، وقالوا فافتنّوا، قال إمامهم الحكمي: إن أفضل يوم عنده أول شوال؛ وقال الغالون منهم والقالون ما هو أشبه بهم. ولو لم يكن لآخرهم "شوقي" إلا، "رمضان ولَّى"
…
لكفته ضلّة، ودخنًا في اليقين وعلّة، والرجل جديد، وله في العروبة باع مديد، وفي الإسلام رأي سديد؛ وفي الدفاع عنه لسان حديد؛ ونحن نعرفه، فلا نَفْرقه.
أما المعتدلون والمراءون فمنهم القائل:
شهر الصيام مبارك
…
ما لم يكن في شهر آب
خفت العذاب فصمته
…
فوقعت في عين العذاب
ومنهم القائل:
يا أخا الحارث بن عمرو بن بكر
…
أشهورًا نصوم أم أعواما
طال هذا الشهرُ المبارك حتى
…
قد خشينا بأن يكون لِزاما
أما الوصف العبقري، والوادي الذي طم على القَريّ، فهو قول الحديث الموحَى:«الصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ» ، وحديث الصادق:«لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ» ، وحديث الصحيح:«لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ» . وقول الكتاب المكنون: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} .