المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌معهد عبد الحميد بن باديس * - آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي - جـ ٣

[البشير الإبراهيمي]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثالث

- ‌مقدمة الطبعة الثالثة من "عيون البصائر

- ‌ الرمز القرآني:

- ‌ الإبداع البياني:

- ‌ العمق العرفاني:

- ‌ الفكر العقلاني:

- ‌ السياق التّارِيخاني:

- ‌السياق التاريخي (1947 - 1952)

- ‌مقدمة الطبعة الثانية من "عيون البصائر

- ‌ 1

- ‌ 2

- ‌ 3

- ‌ 4

- ‌ 5

- ‌ 6

- ‌ 7

- ‌ 8

- ‌ 9

- ‌ 10

- ‌مشاعل حكمة

- ‌إستهلال *

- ‌من الحقائق العريانة *

- ‌ التعليم العربيّ

- ‌ والصحافة العربية

- ‌والنوادي

- ‌ والمساجد وأوقافها

- ‌جمعية العلماء: أعمالها ومواقفها *

- ‌ 1

- ‌عملها في توجيه الأمة:

- ‌عملها للعروبة:

- ‌موقفها من السياسة والساسة *

- ‌ 2

- ‌جمعية العلماء: أعمالها ومواقفها *

- ‌ 3

- ‌فصل الدين الإسلامي عن الحكومة الفرنسية فى الجزائز

- ‌قضية فصل الدين

- ‌الأديان الثلاثة في الجزائر *

- ‌طلائع ومقدمات

- ‌التقرير الحكومي العاصمي *

- ‌كتاب مفتوح إلى رئيس الجمهورية الفرنسية *

- ‌هل دولة فرنسا لائكية *

- ‌فصل الدين عن الحكومة…*- 1

- ‌فصل الدين عن الحكومة- 2

- ‌فصل الدين عن الحكومة- 3

- ‌فصل الدين عن الحكومة- 4

- ‌فصل الدين عن الحكومة (5)

- ‌فصل الدين عن الحكومة (6)

- ‌فصل الدين عن الحكومة (7)

- ‌فصل الدين عن الحكومة (8)

- ‌فصل الدين عن الحكومة (9)

- ‌فصل الدين عن الحكومة (10)

- ‌التعليم القضائي:

- ‌الوظائف القضائية:

- ‌السلطة العليا:

- ‌محاكم الاستئناف:

- ‌الدين المظلوم *

- ‌فصل الدين عن الحكومة (11)

- ‌فصل الدين عن الحكومة (12)

- ‌فصل الدين عن الحكومة (13)

- ‌فصل الدين عن الحكومة (14)

- ‌فصل الدين عن الحكومة (15)

- ‌فصل الدين عن الحكومة (16)

- ‌فصل الدين عن الحكومة (17)

- ‌فصل الدين عن الحكومة (18)

- ‌فصل الدين عن الحكومة (19)

- ‌فصل الدين عن الحكومة (20)

- ‌القضية ذات الذنب…الطويل *

- ‌القضية ذات الذنب…الطويل *- 2

- ‌كتاب مفتوح

- ‌كلمتنا عن الأئمة *

- ‌وشهد شاهد *

- ‌حرية التعليم العربيوحرية الصحافة العربية

- ‌إلى أبنائي الطلبة

- ‌اللغة العربية في الجزائر

- ‌حقائق *

- ‌بوركت يا دار *

- ‌المعهد الباديسي *

- ‌التعليم العربي والحكومة *- 1

- ‌التعليم العربي والحكومة *- 2

- ‌التعليم العربي والحكومة *- 3

- ‌التعليم العربي والحكومة *- 4

- ‌التعليم العربي والحكومة *- 5

- ‌التعليم العربي والحكومة *- 6

- ‌التعليم العربي والحكومة *- 7

- ‌التعليم العربي والحكومة *- 8

- ‌التعليم العربي والحكومة *- 9

- ‌التعليم العربي والحكومة *- 10

- ‌معهد عبد الحميد بن باديس *

- ‌مدارس جمعية العلماء *

- ‌إلى أبنائنا المعلمين الأحرار *

- ‌كلمات واعظة لأبنائنا المعلمين الأحرار *- 1

- ‌كلمات واعظة لأبنائنا المعلمين الأحرار- 2

- ‌حقوق الجيل الناشئ علينا *

- ‌حقوق المعلّمين الأحرار على الأمّة *

- ‌اختلاف ذهنين في معنى التعليم العربي *

- ‌دروس الوعظ في رمضان *

- ‌الكلمة الأخيرة للأمّة *

- ‌المشاكلالإجتماعية

- ‌من مشاكلنا الاجتماعية (1)

- ‌من مشاكلنا الاجتماعية (2)

- ‌دعوة صارخة إلى إتحاد الأحزاب والهيئات *

- ‌دعوة مكررة إلى الإتحاد *

- ‌عواقب سكوت علماء الدين عن الضلال في الدين *

- ‌ثلاث كلمات صريحة *

- ‌ إلى الأمة:

- ‌ إلى تلامذة الزيتونة والقرويين

- ‌ إلى أولياء أولئك التلامذة

- ‌من مشاكلنا الإجتماعية (3)

- ‌من مشاكلنا الإجتماعية (4)

- ‌جمعية العلماء والسياسةالفرنسية بالجزائر

- ‌ذكرى 8 ماي *- 1

- ‌ذكرى 8 ماي *- 2

- ‌الأسابيع في عرف الناس *

- ‌أفي كلّ قرية حاكم بأمره

- ‌عادت لعترها لميس *

- ‌الشك في الإيجاب…نصف السلب *

- ‌لجنة "فرانس - إسلام" *- 1

- ‌لجنة "فرانس - إسلام" *- 2

- ‌ويح المستضعفين *

- ‌حدّثونا عن العدل فإننا نسيناه *- 1

- ‌حدّثونا عن العدل فإننا نسيناه *- 2

- ‌حدّثونا عن العدل فإننا نسيناه *- 3

- ‌ويحهم…أهي حيلة حربية

- ‌أين موقع "بسكرة" من أفريقيا الشمالية

- ‌كلمتنا عن إدارة البريد *

- ‌جمعية العلماءوالمغرب العربي

- ‌أفي كل حي، عبد الحي

- ‌عيد العرش المحمدي العلوي *

- ‌موجة جديدة *

- ‌ليبيا، موقعها منا *

- ‌ليبيا، ماذا يراد بها

- ‌إضراب التلامذة الزيتونيين *

- ‌إبليس ينهى عن المنكر

- ‌إبليس يأمر بالمعروف

- ‌أرحام تتعاطف *

- ‌سكتُّ…وقلت

- ‌عروبة الشمال الافريقي *

- ‌جمعية العلماءوفلسطين

- ‌فلسطين (1)

- ‌فلسطين (2)

- ‌فلسطين (3)

- ‌فلسطين (4)

- ‌فلسطين (5)

- ‌فلسطين (6)

- ‌فلسطين (7)

- ‌فلسطين (8)

- ‌فلسطين (9)

- ‌جمعية العلماء والشرقوالإسلام

- ‌عيد الأضحى *

- ‌هجرة النبوّة من مكة إلى يثرب *

- ‌شهر رمضان

- ‌معنى العيد *

- ‌من وحي العيد *

- ‌الإسلام *

- ‌من نفحات الشرق *

- ‌محنة مصر محنتنا *

- ‌يا مصر

- ‌أثر الأزهر في النهضة المصرية *

- ‌ ثلاثة كتب:

- ‌كلمات مظلومة *

- ‌الشاب الجزائري كما تمثّله لي الخواطر *- 1

- ‌الشاب الجزائري كما تمثّله لي الخواطر *- 2

- ‌الشاب الجزائري كما تمثّله لي الخواطر *- 3

- ‌الشاب الجزائري كما تمثّله لي الخواطر *- 4

- ‌سجع الكهّان *- 1

- ‌سجع الكهّان *- 2

- ‌سجع الكهّان *- 3

- ‌سجع الكهّان *- 4

- ‌سجع الكهّان *- 5

- ‌سجع الكهّان *- 6

- ‌سجع الكهّان *- 7

- ‌شخصيات

- ‌عبد الحي الكتاني *

- ‌محمد الطاهر بن عاشور وعبد الحميد بن باديس

- ‌ 1

- ‌ 2

- ‌دمعة على المنصف *

- ‌إلى الزاهري *

- ‌الأستاذ الشيخ محمد بهجة البيطار *

- ‌بدء معرفتي به:

- ‌محمد خطاب *

- ‌ذكرى مبارك الميلي *

- ‌أثارة من أعمال رابح الفرقاني

- ‌لمحة من أخلاق الشاعر محمد العيد

- ‌السلطان محمد بن يوسف *

- ‌ذكرى عبد الحميد بن باديس *

- ‌الفضيل الورتيلاني *

الفصل: ‌معهد عبد الحميد بن باديس *

‌معهد عبد الحميد بن باديس *

((عذري فيما يراه قرّاء هذا المقال من نقص في الإبانة، وتشويش في البناء، وتفاوت بين الأجزاء، وبُعد عن المعهود من مثلي في مثله، أنني كتبته في أثناء أسفار، في عشرات من القرى، وفي عشرات من الحالات التي تعتري المسافر، المنهوك الأعصاب من المحاضرات والأحاديث، فجاء المقال وعليه نفض من روح كاتبه، وفيه رُقع ولمع وألوان شتى، وجاء كصاحبه يلهث تعبًا، وكأنه مريض بالسكر، وقد حاولت تنقيحه فأبت الشواغل، وزاحم الواغل

فتركته كما هو)):

أيتها الأمّة: وإليك يُساق الحديث. هذا موقف الحساب على الأموال والأعمال، وهذا سجله الحافظ للدقائق والجلائل، يُمليها على الأجيال الحاضرة، ويحدّث بها الأجيال المقبلة، متصلة الإسناد، مؤّيدة بالشهود والشواهد، ويسوءنا- والله- أن يتحدّث عنا بتقصير في الواجب، أو يشهد علينا بتضييع للحق، وإضاعة للفرصة، أو يسجّل علينا نقص القادرين على التمام.

إن المرء حديث بعده، وإن الأمّة أحاديث متسلسلة؛ وفيما يتركه الأول للأخير المال والمتاع، وفيه العلم والفضائل وفيه الأحاديث

وإن الأحفاد وأحفادهم لا ينسون نقصنا لكمالهم، ولا يغضون عن مقابحنا لمحاسنهم، ولا يصفحون عن زللنا لبرّهم بنا؛ ولكنهم سيحاسبون فيناقشون الحساب، وإن هذه النهضة التي بدت مخايلها لا يغطّي كمالها الأخير نقصها الأول، وإن ترعرع في مثل رونق الضحى شبابها، وتفرّعت في أزكى المنابت أفنانها.

إن أحفادنا- يوم تتصل أسبابهم بأسباب هذه النهضة- سيتحدثون عنها وعنا، وسيوفوننا الحساب على أعمالنا لها، وعلى آثارنا فيها حمدًا وذمًّا، كما نتحدّث نحن عن أجدادنا الأدنين والأبعدين، ونذكر ما بنوا وشادوا، وما نقضوا وتبَّرُوا.

* نُشرت في العدد 90 من جريدة «البصائر» ، 5 سبتمبر سنة 1949.

ص: 252

فاخْشَي- يا أمّة- يومًا يعرض فيه هذا الطور من أطوارك على أخلافك، ويُمتحن هذا الساف (1) الأول من بنائك، بأيدي أبنائك؛ فيجدون النقص هنا، والعوج هناك، والتهافت هنالك، ثم ينظرون فيجدون الأساس قد وُضع على دِمنة

ذلك هو الفضوح، وتلك هي سخنة العين.

إن التاريخ سيكتب عن يومك هذا أنه ميلاد نهضة، وفجر انقلاب، وبدء تجديد ستنتزع منه هذه الشهادة انتزاعًا لا خيرة فيه، لما في طبيعة يومك هذا من الغلوّ والإسراف، والإخلاء (2) والإسفاف، ولما فيه من الدعاوى الدعية، والشهادات غير المرعية؛ فاحرصي على سدّ الخلل وتقويم العوج ما استطعت، وأكثر مما تستطيعين، حتى تكون الشهادة قريبة من الصدق.

إن عمل الأجداد للخير والنفع، وبناءهم الباقيات الصالحات للعلم، مفخرةٌ للأحفاد، وحفز لهممهم، وتقصير للمسافة عليهم، وتقليل من الجهد والنصَب، وغرس وتمهيد؛ فضعي- أيتها الأمّة- في أيدي أبنائك ما يفاخرون به، وابني لهم ما لا يحتاجون معه إلى الترميم.

إن برّ الآباء للأبناء أساسٌ لبرّ الأبناء للآباء فأقرضوا أبناءكم البرّ الحسن تجدوه مضاعفًا ويؤدّوه إليكم ومعه فائدته وريعه.

ولو أن آباءنا وأجدادنا الأدنين بنوا لنا المدارس لأراحونا من هذه المتاعب التي نلقاها في بناء المدارس، ولصرفنا هذه الجهود في ما بعد البناء من تثمير وتعمير؛ ولكنهم- عفا الله عنهم- عاشوا لأنفسهم في شبه غيبوبة عن زمنهم، يتعلّلون بالخيال، ويلوذون من الحرور بالظل الزائل، ولم يعيشوا لنا، ولا فكّروا فينا، ولا أقرضونا شيئًا يذكّرنا بهم، فماتوا غير مذكورين، ولا مشكورين، وتركونا نمشي بأجرد ضاح؛ ولولا بقية من مساجد القدماء في الأمصار لوجدنا آباءنا يصلّون في الشوارع والأسواق؛ إن أسلافنا الصالحين كانوا مسلّطين على هلكة أموالهم في المصالح العامة، وفي بناء المآثر للأعقاب، وكانوا كلهم بمقربة من قائلهم:

إذا حال حولٌ لم يكنْ في بيوتنا

من المال إلا ذكره وفضائله

يلتقون معه في الذكر والفضائل؛ أما نحن فإن أموالنا تذهب في أعراس الإنسان، وأعراس الشيطان، وفي المآتم والخصومات، وفي المواخير والحانات، وفي فضول الحياة وقشورها، وفي خسائس اللذات والشهوات، ولو أن هذه الأمّة أوتيتْ رشدَها، وأنفقت جزءًا مما تنفقه

1) الساف هو السطر من البناء يضعه البنّاء حجرًا بجنب حجر ثم يملأ الفراغ بالطين أو الكلس وصغار الحجارة ثم ينتقل إلى ما فوقه وهو الساف الثاني.

2) الاخلاء من الشاعر هو خلو شعره من المعاني المبتكرة، فإذا كان الشاعر كذلك قيل هو يخلي.

ص: 253

في شهواتها على المصالح العامة، لم يبق في هذا الوطن أمّي ولا مريض ولا عاطل ولا فقير. ولكن الخذلان الذي لا غاية وراءه أن غنيّنا ينفق مئات الألوف على لذّاته وشياطينه، فإذا سُئل بذل القليل، في مشروع جليل، أعرض ونأى بجانبه.

هذا المعهد أمانة الله بيننا وبينك- أيتها الأمّة- وعهد العروبة والإسلام في عنقنا وعنقك، وواجب العلم علينا وعليك، وحق الأجيال الزاحفة إلى الحياة من أبنائنا جميعًا، فأيّنا قام بحظه من الأمانة، ووفى بقسطه من العهد، وأدّى ما عليه من الواجب، واستبرأ لذمّته من الحق؟

لا منّة لنا ولا لك على الله ودينه، وما عظم من حرمات العلم، وما أوجب من رعاية الأبناء، وإنما علينا أن نتعاون جميعًا، كل بما قسم الله له، وقد اقتسمنا الخطتين، فقمنا وقعدت، واجتهدنا وقصرت، قمنا بقسطنا من الواجب حق القيام، فدعوْنا ما وسعت الدعاية، وبينا ما وسع البيان، وعلمنا ما أمكن التعليم، ونظّمنا إلى حيث تبلغ غاية التنظيم، ووعدْنا فأنجزنا الوعد، وأخذنا الأمر بقوّة، لأن زمنك قويّ لا يرضى بصحبة الضعفاء.

نحن إنما نبني لك، ونفصّل على مقدارك، ونرشدك إلى ما يجب أن تكوني عليه لتستبدلي حالةً بحالة، ولبوسًا بلبوس.

عصرُك عصر نهوض، ومن لم يجارِ فيه الناهضين كان في الهالكين؛ وقد بدت عليك مخايل النهوض وقال الناس قد نهضت، فحق القول، ولم يبق للنكوص مجال، وما عن هوى نطقنا، ولا عن غشّ صدرنا، حين قلنا لك: إنك لا تنهضين إلا بالعلم، وإن نهضة لا يكون أساسها العلم هي بناء بلا أساس ولا دعامة.

إن النهضات الأصيلة لا تعرف القناعة، ولا تدين بها، ولا ترضى بالتقلّل والتبلّغ، وإنما هي القوّة والفوران، والتأجّج والجيشان، والبناء والرم، والأكل اللم، وصدْم ثابت بسيار، ودفع تيار بتيار.

إن قليلًا للنهضة- في باب العلم- معهد يضم ستمائة تلميذ، في أمّة تعدّ بعشرة ملايين، تسعة أعشارها ونصف عشرها أميّون.

وإن قليلًا للنهضة مائة وثلاثون (3) مدرسة ابتدائية في قطر واسع الأرجاء مترامي الجنبات.

3) كان هذا عدد المدارس الحرّة التي أنشأتها جمعية العلماء بمال الأمّة في السنة التي صدر هذا العدد في شهورها، وقد بلغ عدد تلك المدارس في سنة 1955 قريبًا من أربعمائة مدرسة. وبلغ عدد تلامذة تلك المدارس قريبًا من خمسة وسبعين ألفًا بين ذكور وإناث.

وبلغ عدد المعلمين في السنة المذكورة الأخيرة قريبًا من سبعمائة.

ص: 254

وإن قليلًا للنهضة- ولو كانت في مبدئها- أربعون ألف تلميذ يتعلّمون المبادئ الأولية من لغتهم ودينهم من مجموع من الأطفال يبلغ مليونين لا يعرفون منها ولا من غيرها شيئًا.

وان قليلًا للنهضة عشرات من الملايين تنفق على العلم، بجانب مئات من الملايين تصرف في الشهوات والكماليات والمحرّمات.

دعوْنا هذه الأمّة- بعد تحقّقنا للقابلية فيها- إلى التعليم العربي الابتدائي، لأنه الخط الذي تبتدئ منه النهضات العلمية، فلبّتْ لا وانيةً ولا عاجزة، وشادت له من المدارس ما يفخر به الفاخر، ويغصّ به الشانئ الساخر، وتمكّنت منها الرغبة في هذا النوع من التعليم إلى درجة أمنَّا معها الانتكاس والرجوع إلى الوراء؛ ولكن هذا العدد من المدارس لا يتناسب مع النسبة العددية للأمّة، ولا مع طول الركود السابق للنهضة، ولا يفي بالحاجة اللازمة، ولا بدّ من مضاعفة السير لمن تأخر كثيرًا عن القافلة.

ثم خطوْنا بها خطوة ثانية ثابتة إلى الأمام، لأن التعليم الابتدائي وحده لا يكفي همًّا ولا يشفي ألمًا، وإنما هو مفتاح للعلم، وارتفاع عن الأميّة، وإنّ وراءه لدرجات إن لم يؤدّ إليها كان عقيمًا وكان عاطلًا؛ وإن للوقوف عنده والقناعة به لآفات، منها زهد الجيل في العلم، وفتور هممه فيه، وفساد تصوّره له؛ فكانت هذه الخطوة هي المعهد الباديسي.

وهذا المعهد- على عظمته، وظهور نتائجه من أول يوم- ليس إلا معهدًا تجهيزيًّا يحتضن المتخرّجين من السنة الخامسة الابتدائية، ومن ماثلهم من ذوي الجهود الخاصة، فيقوّيهم في الدينيات علمًا وعملًا، وفي القرآن حفظًا وفهمًا، ويروّض ألسنتهم على القراءة والخطابة، وأقلامهم عن الإنشاء والكتابة، وعقولهم على التفكير الصحيح، ويصوغهم صياغة أخلاقية متقاربة، ويشرف بهم على علوم الحياة من باب الرياضيات والطبيعيات، ويهيّئهم تهيئة صحيحة قوية للتعليم العالي، هذه هي حقيقته، لا نغلو في بيانها ولا نقصر، وإن أوائله في ذلك لمنبئة بأواخره.

وأقلّ ما يجب لنهضتنا التعليمية- إن كنا نريد النهوض جادّين- أن تكون لهذه المرحلة التجهيزية منها ثلاثة معاهد: بقسنطينة والجزائر وتلمسان، نجهّزها بالرجال، ونزوّدها بالمال، حتى يؤوي كل واحد منها ألف تلميذ؛ ولو تكافأت جهود جمعية العلماء في هذا السبيل، وجهود الأمّة، وتوافتْ على هدف واحد منه، لبرز هذا العمل الجليل في سنة واحدة من الزمن؛ وإنه لعمل جليل حقًّا، نراه نحن ويراه ذوو العزائم معنا قريبًا، ويراه المثبطون والعاجزون بعيدًا، وما هو ببعيد إلا عن هممهم

مرّت على المعهد سنتان نما فيهما وترعرع أضعاف ما كان مقدّرًا لوليد سنتين مثله، في أمّة كأمّتنا، وظرف كهذا الظرف، فما هي الأسباب في هذا النمو السريع؟

ص: 255

السبب يرجع إلى عدة عناصر: منها إخلاص القائمين عليه من رئيس ومرؤوس، وجدّهم وثباتهم، ومنها إيمان الباذلين للمال بالعلم، وإنه المنقذ الوحيد للأمّة، ومنها كون التعليم الابتدائي بلغ حدّه، وأصبحت مدارسه تُخرج العشرات من تلامذة السنة الخامسة، فيجدون أنفسهم- بعدما ذاقوا لذة العلم- محرومين من مواصلة التعليم، فوجدوا في المعهد شفاء من ألم الحرمان.

وسبب آخر نفساني، وهو قوّة المقاومة من عناصر الإصلاح لعناصر الإفساد، ومن قوى الخير لقوى الشر، فنشأ من ذلك مزيج من التأثر والتأثير، كان خيرًا وبركة على المعهد، وكان بعض السبب في هذا النمو السريع.

ظهر نجاح المعهد في الناحية المعنوية، فقد استولى على الأمد الأقصى من السمعة الصالحة، في الأوساط الصالحة من الأمّة، وأصبحت تنظر إليه نظر الإعجاب والتقدير، وتُعلّق عليه الآمال الكبار.

وظهر نجاحه في نتائج التعليم، فقد أتى في هذه السنة بالعجب العجاب، وكانت النتائج فوق المستوى العادي، في جميع السنوات، بل كان النجاح منقطع النظير في السنة الثانية، والسر في هذا النجاح هو أن شياطين الوسوسة صُفّدت في هذه السنة، وانقطع ما كانوا يزّينونه للطلبة ويروِّضونهم عليه من تلهية بالباطل، وتدلية بالغرور، ففاء الطلبة إلى الرشد، وأقبلوا على العلم، وباء الشياطين بالخزي والخذلان.

وظهر نجاحه في صحة التوجيه العقلي والفكري والخلقي لتلاميذه، فقد رأيناهم يأتون متأثّرين بأفكار ونزعات شتّى، فلا تمضي عليهم الأشهر الثلاثة الأولى حتى تلين مقادتهم للعلم، ويصبحوا منسجمين في الاتجاه، متقاربين في الأخلاق، معرضين عن اللغو، إلا النادر الذي لا حكم له.

وظهر نجاحه في الإدارة، فقد كانت مثالًا عاليًا في الضبط والحزم والنظام.

يعنى المعهد بالرياضيات والطبيعيات، ويجعل منها ذريعة إلى مقاصد سامية، كان التلميذ العربي محرومًا منها، لأن المعاهد العربية خالية منها، وقد قام المعهد في هذه السنة بتجربة موفّقة بلغت الغاية من النجاح، إذ تطوّع الدكتور عبد القادر بن شريف بإلقاء دروس في حفظ الصحة على تلامذة المعهد، مستعينًا بأشرطة سينمائية، فلقيتْ من الطلبة إقبالًا يفوق الحدّ، وتطوّع الصيدلي الأستاذ علاوة عباس بإلقاء دروس أسبوعية في علم وظائف الأعضاء

ص: 256

وتركيب الجسم، فكان لها من التأثير والإقبال مثل ذلك، وتطوّع الأستاذ محمد الجيجلي من أساتذة التعليم الثانوي الفرنسي بإلقاء دروس في الجغرافيا، وتطوّع الأستاذ محمد بن عبد الرحمن بإلقاء دروس في الحساب، فكان لهذه الدروس من الآثار الشيء الكثير، وإدارة المعهد عازمة على أن توسّع هذا البرنامج، وتزيد في حصصه الأسبوعية في السنة المقبلة، وهي تشكر هؤلاء الأساتذة على ما قدّموه للمعهد من معونة قيّمة صادقة.

أما السنة الآتية فنحن نعلم من الآن أنها ستكون أكمل وستكون أثقل: تكون أكمل بالتلامذة المدرّبين، والشيوخ المجرّبين، والإدارة المحنّكة، والنظام المحنّك، وتكون أثقل بالتكاليف المالية الجديدة، فالمعهد كما يقرأ القرّاء في تفاصيل الحساب من هذا العدد مدين بما يقرب من ستة ملايين من الفرنكات، وستؤدّى إلى أصحابها في أولّ السنة الدراسية إن شاء الله، ومفروض عليه أن يعمر السنة الأولى التي انتقل أبناؤها إلى السنة الثانية، بأربع طرائق لا تقلّ عن مئتي تلميذ، ومعنى ذلك أنه مضطر إلى إحضار مساكن لنصف هذا العدد على الأقل، وإلى إحضار أربعة أقسام للدراسة، وإلى إحضار أربعة مشايخ جدد للتدريس، وإنها لضرورة لا محيد عنها وعن تحمّل أثقالها، فعلى الأمّة أن تسمع وتعي، وعلى الذين عوّدونا إمداد المعهد بالمال، أن يضاعفوا إمدادهم، وعلى أصحاب البصائر الثاقبة، المفكّرين في المصير والعاقبة، أن يفكروا معنا في إيجاد وسائل للدخل القار، لحفظ حياة هذه المشاريع العلمية، فإن قيامها على ما تقوم عليه اليوم غير مضمون الاستمرار، ولا ضامن للاستقرار، ولنا في هذا الموضوع آراء أنضجتها الروية، ومخضها التمحيص، شرحناها للأمّة في المجامع الحاشدة، وسنجلّيها في «البصائر» لذوي البصائر.

ص: 257