المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌السياق التاريخي (1947 - 1952) - آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي - جـ ٣

[البشير الإبراهيمي]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثالث

- ‌مقدمة الطبعة الثالثة من "عيون البصائر

- ‌ الرمز القرآني:

- ‌ الإبداع البياني:

- ‌ العمق العرفاني:

- ‌ الفكر العقلاني:

- ‌ السياق التّارِيخاني:

- ‌السياق التاريخي (1947 - 1952)

- ‌مقدمة الطبعة الثانية من "عيون البصائر

- ‌ 1

- ‌ 2

- ‌ 3

- ‌ 4

- ‌ 5

- ‌ 6

- ‌ 7

- ‌ 8

- ‌ 9

- ‌ 10

- ‌مشاعل حكمة

- ‌إستهلال *

- ‌من الحقائق العريانة *

- ‌ التعليم العربيّ

- ‌ والصحافة العربية

- ‌والنوادي

- ‌ والمساجد وأوقافها

- ‌جمعية العلماء: أعمالها ومواقفها *

- ‌ 1

- ‌عملها في توجيه الأمة:

- ‌عملها للعروبة:

- ‌موقفها من السياسة والساسة *

- ‌ 2

- ‌جمعية العلماء: أعمالها ومواقفها *

- ‌ 3

- ‌فصل الدين الإسلامي عن الحكومة الفرنسية فى الجزائز

- ‌قضية فصل الدين

- ‌الأديان الثلاثة في الجزائر *

- ‌طلائع ومقدمات

- ‌التقرير الحكومي العاصمي *

- ‌كتاب مفتوح إلى رئيس الجمهورية الفرنسية *

- ‌هل دولة فرنسا لائكية *

- ‌فصل الدين عن الحكومة…*- 1

- ‌فصل الدين عن الحكومة- 2

- ‌فصل الدين عن الحكومة- 3

- ‌فصل الدين عن الحكومة- 4

- ‌فصل الدين عن الحكومة (5)

- ‌فصل الدين عن الحكومة (6)

- ‌فصل الدين عن الحكومة (7)

- ‌فصل الدين عن الحكومة (8)

- ‌فصل الدين عن الحكومة (9)

- ‌فصل الدين عن الحكومة (10)

- ‌التعليم القضائي:

- ‌الوظائف القضائية:

- ‌السلطة العليا:

- ‌محاكم الاستئناف:

- ‌الدين المظلوم *

- ‌فصل الدين عن الحكومة (11)

- ‌فصل الدين عن الحكومة (12)

- ‌فصل الدين عن الحكومة (13)

- ‌فصل الدين عن الحكومة (14)

- ‌فصل الدين عن الحكومة (15)

- ‌فصل الدين عن الحكومة (16)

- ‌فصل الدين عن الحكومة (17)

- ‌فصل الدين عن الحكومة (18)

- ‌فصل الدين عن الحكومة (19)

- ‌فصل الدين عن الحكومة (20)

- ‌القضية ذات الذنب…الطويل *

- ‌القضية ذات الذنب…الطويل *- 2

- ‌كتاب مفتوح

- ‌كلمتنا عن الأئمة *

- ‌وشهد شاهد *

- ‌حرية التعليم العربيوحرية الصحافة العربية

- ‌إلى أبنائي الطلبة

- ‌اللغة العربية في الجزائر

- ‌حقائق *

- ‌بوركت يا دار *

- ‌المعهد الباديسي *

- ‌التعليم العربي والحكومة *- 1

- ‌التعليم العربي والحكومة *- 2

- ‌التعليم العربي والحكومة *- 3

- ‌التعليم العربي والحكومة *- 4

- ‌التعليم العربي والحكومة *- 5

- ‌التعليم العربي والحكومة *- 6

- ‌التعليم العربي والحكومة *- 7

- ‌التعليم العربي والحكومة *- 8

- ‌التعليم العربي والحكومة *- 9

- ‌التعليم العربي والحكومة *- 10

- ‌معهد عبد الحميد بن باديس *

- ‌مدارس جمعية العلماء *

- ‌إلى أبنائنا المعلمين الأحرار *

- ‌كلمات واعظة لأبنائنا المعلمين الأحرار *- 1

- ‌كلمات واعظة لأبنائنا المعلمين الأحرار- 2

- ‌حقوق الجيل الناشئ علينا *

- ‌حقوق المعلّمين الأحرار على الأمّة *

- ‌اختلاف ذهنين في معنى التعليم العربي *

- ‌دروس الوعظ في رمضان *

- ‌الكلمة الأخيرة للأمّة *

- ‌المشاكلالإجتماعية

- ‌من مشاكلنا الاجتماعية (1)

- ‌من مشاكلنا الاجتماعية (2)

- ‌دعوة صارخة إلى إتحاد الأحزاب والهيئات *

- ‌دعوة مكررة إلى الإتحاد *

- ‌عواقب سكوت علماء الدين عن الضلال في الدين *

- ‌ثلاث كلمات صريحة *

- ‌ إلى الأمة:

- ‌ إلى تلامذة الزيتونة والقرويين

- ‌ إلى أولياء أولئك التلامذة

- ‌من مشاكلنا الإجتماعية (3)

- ‌من مشاكلنا الإجتماعية (4)

- ‌جمعية العلماء والسياسةالفرنسية بالجزائر

- ‌ذكرى 8 ماي *- 1

- ‌ذكرى 8 ماي *- 2

- ‌الأسابيع في عرف الناس *

- ‌أفي كلّ قرية حاكم بأمره

- ‌عادت لعترها لميس *

- ‌الشك في الإيجاب…نصف السلب *

- ‌لجنة "فرانس - إسلام" *- 1

- ‌لجنة "فرانس - إسلام" *- 2

- ‌ويح المستضعفين *

- ‌حدّثونا عن العدل فإننا نسيناه *- 1

- ‌حدّثونا عن العدل فإننا نسيناه *- 2

- ‌حدّثونا عن العدل فإننا نسيناه *- 3

- ‌ويحهم…أهي حيلة حربية

- ‌أين موقع "بسكرة" من أفريقيا الشمالية

- ‌كلمتنا عن إدارة البريد *

- ‌جمعية العلماءوالمغرب العربي

- ‌أفي كل حي، عبد الحي

- ‌عيد العرش المحمدي العلوي *

- ‌موجة جديدة *

- ‌ليبيا، موقعها منا *

- ‌ليبيا، ماذا يراد بها

- ‌إضراب التلامذة الزيتونيين *

- ‌إبليس ينهى عن المنكر

- ‌إبليس يأمر بالمعروف

- ‌أرحام تتعاطف *

- ‌سكتُّ…وقلت

- ‌عروبة الشمال الافريقي *

- ‌جمعية العلماءوفلسطين

- ‌فلسطين (1)

- ‌فلسطين (2)

- ‌فلسطين (3)

- ‌فلسطين (4)

- ‌فلسطين (5)

- ‌فلسطين (6)

- ‌فلسطين (7)

- ‌فلسطين (8)

- ‌فلسطين (9)

- ‌جمعية العلماء والشرقوالإسلام

- ‌عيد الأضحى *

- ‌هجرة النبوّة من مكة إلى يثرب *

- ‌شهر رمضان

- ‌معنى العيد *

- ‌من وحي العيد *

- ‌الإسلام *

- ‌من نفحات الشرق *

- ‌محنة مصر محنتنا *

- ‌يا مصر

- ‌أثر الأزهر في النهضة المصرية *

- ‌ ثلاثة كتب:

- ‌كلمات مظلومة *

- ‌الشاب الجزائري كما تمثّله لي الخواطر *- 1

- ‌الشاب الجزائري كما تمثّله لي الخواطر *- 2

- ‌الشاب الجزائري كما تمثّله لي الخواطر *- 3

- ‌الشاب الجزائري كما تمثّله لي الخواطر *- 4

- ‌سجع الكهّان *- 1

- ‌سجع الكهّان *- 2

- ‌سجع الكهّان *- 3

- ‌سجع الكهّان *- 4

- ‌سجع الكهّان *- 5

- ‌سجع الكهّان *- 6

- ‌سجع الكهّان *- 7

- ‌شخصيات

- ‌عبد الحي الكتاني *

- ‌محمد الطاهر بن عاشور وعبد الحميد بن باديس

- ‌ 1

- ‌ 2

- ‌دمعة على المنصف *

- ‌إلى الزاهري *

- ‌الأستاذ الشيخ محمد بهجة البيطار *

- ‌بدء معرفتي به:

- ‌محمد خطاب *

- ‌ذكرى مبارك الميلي *

- ‌أثارة من أعمال رابح الفرقاني

- ‌لمحة من أخلاق الشاعر محمد العيد

- ‌السلطان محمد بن يوسف *

- ‌ذكرى عبد الحميد بن باديس *

- ‌الفضيل الورتيلاني *

الفصل: ‌السياق التاريخي (1947 - 1952)

‌السياق التاريخي (1947 - 1952)

بسم الله الرحمن الرحيم

تعدو أطماع فرنسا في الجزائر إلى ما قبل سنة 1830 بوقت طويل، فقد بعث الملك الفرنسي شارل التاسع رسالة في 11 مايو 1572 إلى سفيره في استانبول فرانسوا دو نواي ( F. de Noailles) يأمره فيها أن يطلب من السلطان العثماني سليم الثاني أن يتخلَّى - مقابل مبلغ مالي سنوي- عن الجزائر ليعيِّنَ عليها أخاه دوق أنجو ( le duc d'Anjou) - ( الملك هنري الثالث فيما بعد)(1).

وإذا كانت هذه المحاولة قد فشلت، فإن فرنسا لم تيأس من تحقيق أمنيتها في الاستيلاء على الجزائر، فتعددت- منذ ذلك الوقت- خططها، وتنوّعت مشروعاتها، التي تتحدث جميعها عن استعادة هذه البلاد- الجزائر- للمسيحية (2).

وحقّق الفرنسيون أملهم باحتلال مدينة الجزائر سنة 1830، وبدأوا تنفيذ خطة مَحْوِ خصائص الجزائر الحضارية، من دين ولغة ومعالم تاريخية، ليسهل- زعموا- استعادة الجزائر للمسيحية، ولم يتوقفوا عن تنفيذ تلك الخطة- ساعة من نها ر- طيلة وجودهم بالجزائر. ولذلك اعتبر الإمام الإبراهيمي احتلال فرنسا للجزائر "حلقةً من الصليبية الأولى"(3)، وأنه "قَرْنٌ من

1) يزعم الفرنسيون أن طلَبَ مَلِكِهِمْ شارل التاسع كان بناءً على رغبة من الجزائريين!! وهو زَعْمٌ لا برها ن لهم عليه، ولا يصمد أمام أدنى نقد. انظر ذلك الزعم فى: Revue africaine، 5e année

N° 25، janvier 1861، pp.1 - 13

2) أحمد عزت عبد الكريم: دراسات في تاريخ العرب الحديث، بيروت، دار النهضة العربية، 1970، [ص:305].

3) انظر مقال "قضية فصل الدين .. لمحات تاريخية" في هذا الجزء من الآثار.

ص: 23

الصليبية نَجَم، لا جيش من الفرنسيين هَجَم" (4)، وأن هذه الصليبية لم تخف حِدَّتها، ولم يتغيّر لونها، ولم تضعف فَوْرَتُها بتعاقب السنين وتطور الأفكار؛ بل بقيت هي هي "تَجَمْهَرت فرنسا أو تَدَكْتَرت، أو اختلفت عليها الألوان بَياضًا وحمرة" (5).

كانت مواقعت علماء الجزائر من الوجود الفرنسي ببلادهم (1830 - 1962)، ومن خطة الفرنسيين لتنصيرها وفَرْنَستها مختلفة، ويمكن تقسيمهم إلى أربعة أقسام.

1 -

فريق منهم لم يستطيعوا صبرًا على محنة بلادهم، فغادروها إلى البلدان العربية والإسلامية، مثل المغرب، وتونس، ومصر، والحجاز، والشام، وتركيا. وهؤلاء إن لم ينفعوا بلادهم؛ فقد خدموا إخوانهم المسلمين في البلدان التي استقرّوابها، وأسهموا بنصيب طيب في نهضة تلك البلدان.

2 -

وفريق انعزلوا عن الناس، وابتعدوا عن المجتمع، وراحوا يتفرجون على محنة وطنهم، ويتَحَسَّرون على مأساة شعبهم، ويتأوَّلون في سلوكهم السلبي ذاك آية كريمة، هي قوله تعالى:{ .. لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ .. } . فمَثَل هؤلاء العلماء كَمَثَل العضو المشلول من الجسد؛ يراه الناس ولا يحسُّون أثره.

3 -

وفريق غلبت عليهم شِقْوَتهم، وضلوا عن علم، وهلكوا عن بَيِّنَة، فانْسَلَخوا من آيات الله التي آتاهم، واشتروا بها ثمنًا قليلًا، وخانوا الله ورسوله والمؤمنين، وتَحَيَّزوا إلى الفرنسيين الذين اتّخذوهم سُخْرِيًّا ضد شعبهم، ووطنهم، ودينهم.

4 -

وفريق فقهوا دين الله عز وجل، وصدقوا ما عاهدوا الله عليه، ولم يخونوا أماناتهم، فوقفوا إلى جانب شعبهم في مأساته، وحفظوا له خصائصه من الذَّوَبان، وثَبَّتُوا له مقوّماته الحضارية التي استردّ بها سيادته، واسترجع بفضلها استقلاله.

ومن هذا الفريق الإمام محمد البشير الإبراهيمي- رضي الله عنه وأرضاه- الذي ما إن استكمل تحصيله العلمي حتى عاد إلى وطنه، ليضع علمه وجهوده في خدمة شعبه، وليقود جهاده الحضاري وصراعه الفكري ضد الفرنسيين.

كان في مُكْنَةِ الإمام الإبراهيمي أن يعيش دنياه منَعَّمًا، وأن ينال منها نصيبًا موفورًا؛ لما آتاه الله من بسطة في العلم، واستبحار في المعرفة؛ كان في مستطاعه أن يبقى مكرَّمًا في مكة بالقرب من البيت المعمور؛ أو أن يَتَدَيَّر طيبَة الطيبة بجوار خير الخلق كلهم؛ أو أن يستقرّ معزَّزًا بدمشق؛ أو أن يستوطن القاهرة ويحوز في أزهرها مكانًا عليًا، أو أن يقيم

4) نفس المرجع.

5) نفس المرجع.

ص: 24

بتونس أو المغرب قريبًا من مسقط الرأس، وما كان- لو فعل- مَلُومًا ولا مَذْمومًا؛ ولكنه رفض ذلك كله، وفَضَّل الأَوْبَةَ إلى الجزائر، ليُحْيِيَ مواتها، ويبعثها من مَرْقَدِها، وُيزيل ظُلمَتَها، ويضيء ليلها، رغم معرفته بما كان ينتظره من معاناة، وما سيلاقيه من أذى مادي ومعنوي على يد الفرنسيين، الذين لا يترددون في البطش بمن يقف في طريق مخططهم الإدماجي التنصيري، وخاصة إذا كان هذا الواقف من نوع الإبراهيمي ووزنه وقيمته.

إن معظم هذه المقالات تعرض جوانب من مواقف الإمام الإبراهيمي في وجه ذلك المخطط، وتبيّن مدى شراسة الفرنسيين في تطبيقه، كما تعكس مدى استماتة الإمام في مقاومته، حتى إنه لَيُخَيَّل إلى القارئ أن الإمام مُقاتِلٌ يقاتل لا كاتب يُجادِل.

ومما يدل على تلك الاستماتة، وإدراك الإمام أن القضية قضية حياة أو موت، أن المرض أقعده، وألزمه الفراش أكثر من شهرين، وتشدَّدَ الطبيب في تعليماته له بلزوم الإخلاد إلى الراحة (6)؛ ولكنه تحدّى المرض، وألقى بتعليمات الطبيب وراء ظهره، وكتب "عشر مقالات في معاملة الحكومة (الفرنسية) للتعليم العربي، حتى سمّاه الأستاذ التبسي "المرض المنتِج"، وقال لبعض من ثقُلَت عليه وطأة تلك المقالات من صنائع الحكومة ما معناه: إنني لا أَرْضَى للإبراهيمي أن يُشاك بشوكة، ولكن هذه المقالات حَبَّبَت إليَّ طول مرضه مع سلامة العاقبة"(7).

إن هذا الجزء يضم صفوة المقالات التي كتبها الإمام افتتاحيات لجريدة البصائر أو مقالات رئيسية فيها فيما بين سنتَي 1947 - 1952. وهي مقالات اختارها الإمام نفسه، وأشرف على طبعها أول مرة سنة 1962، وقد حذفنا منها بعض المقالات (8) وأدرجناها في الجزء الرابع من هذه الطبعة، وهو الجزء الذي يحتوي على ما عثرنا عليه من مقالاته التي كتبها بين سنتَي 1952 و 1954، بعد سفره إلى المشرق العربي، كما حذفنا منه مقالة "مناجاة مبتورة .. " وألحقناها بالجزء الثاني، لأنه كتبها في أثناء اعتقاله بآفلو. وننبّه إلى وجود قصيدة للشيخ أحمد سحنون ضمن هذا الجزء، ولكن الإمام الإبراهيمي اعتبرها من "عيون البصائر"، وضمّها إلى مقالاته، وفي ذلك إشارة إلى عدة معانٍ منها:

* تقدير الإمام للشيخ أحمد سحنون، واعتراف بدوره في خدمة «البصائر» .

* تَوَسُّم الإمام الثبات في الشيخ أحمد سحنون، وهو ما أكَّدَتْه الأيام والحوادث.

* اعتبار الإمام أن القصيدة بنتُ فكره وإن لم تكن بنت قلمه.

6) انظر نهاية مقال "التعليم العربي والحكومة- 3" في هذا الجزء من الآثار.

7) انظر مقال "البصائر في سنتها الثالثة" في الجزء الثاني من هذه الآثار.

8) هذه المقالات هي: تحية غائب كالآيب- حكمة الصوم في الإسلام- من هو المودودي؛

ص: 25

* موضوع القصيدة، الذي هو الإشادة بالمركز العام لجمعية العلماء في الجزائر العاصمة، الذي أصبح محورَ النشاط الديني، والثقافي، والسياسي.

لقد تناولت هذه المقالات العَيْناء عدة قضايا كانت وما تزال موضع اهتمام، ومجال صدام إلى يوم الناس هذا، ولم يتغيّر منها إلا الأسلوب والوسائل.

تناول قضية فصل الدين عن الحكومة، وبرهن في مقالاته أنه لا حق لفرنسا في الإشراف على الدين الإسلامي، لأنها ليست دولة إسلامية، ولأن دستورها يُحرِّم عليها الإشراف حتى على دينها. فأي منطق يخوِّلُ لها الإشراف على الدين الإسلامي؛ ويصل الإمام إلى لُبِّ القضية؛ وهو أن إشراف فرنسا على الدين الإسلامي إنما هو بقصد محوه، ويستوي في هذا القصد جميع الفرنسيين، فـ"إلى الآن لم يرزقنا الله حاسّة ندرك بها الفرق بين فرنسي وفرنسي .. بل الذي أدركناه وشهدت به التجارب القطعية أنهم نُسَخٌ من كتاب؛ فالعالم، والنائب، والجندي، والحاكم، والموظف البسيط، والفلاح كلهم في ذلك سواء، وكلهم جَارٍ على جِبِلَّةٍ كأنها من الخَلْقيات التي لا تتغير، ومَن زَعَم فيهم غير هذا فهو مخدوع أو مخادع"(9). وننبّه هنا إلى أن بعض دعاة اللائكية في بلادنا يخدعون الشعب وُيوهِمُونه بأنهم إنما يدعون إلى مادعا إليه الإمام الإبراهيمي من فصل الدين عن الدولة. وكذبوا، وصدق الإمام الإبراهيمي. وهم في كذبهم كأسلافهم الذين تقوَّلُوا على الله، فقالوا إنه يقول:"لا تقربوا الصلاة .. "، ويقول:"فويل للمصلين .. ".

إن الإمام الإبراهيمي دعا إلى فصل الدين الإسلامي عن الدولة الفرنسية، لأنها دولة نصرانية في الجوهر، لائكية في المظهر، وفي كلتا الحالتين لاحق لها في الإشراف على الدين الإسلامي. أما اللائكيون عندنا فهَدَفُهُم هو القضاء على الإسلام في الجزائر، ودعوتهم هذه مرحلة من مراحل تحقيق ذلك الهدف.

وفي تناوله لهذه القضية المحورية، راغ الإمامُ الإبراهيمي على مخططيها ومنفّذيها ضَرْبًا باليمين، وسَقاهُم حميمًا وغسَّاقًا، جزاء وفاقًا.

وعلى رأس مخططيها المستشرق الفرنسي "لويس ماسينيون "، مهندس السياسة الفرنسية في الشؤون الإسلامية، ولا شك أن الإمام يعلم- منذ كان في الشام- مَدى تورُّط "ماسينيون" في المشروع الاستعماري، حيث عمل فترة في القنصلية الفرنسية ببيروت، وكان مكلَّفًا بمهمة قَذِرة؛ وهي شراء ذِمَم مَن لا ذمّة لهم، واستنزال هِمَم من لا همّة لهم، حتى سُمِّي "الصندوقْجِي"، كما كُلِّف سنة 1919 - من طرف وزارة الخارجية

9) انظر مقال "هل دولة فرنسا لائكية؛ " في هذا الجزء من الآثار.

ص: 26

الفرنسية- "بوضع نظام أساسي سوري بالاتفاق مع الأمير فيصل بن الحسين- ملك العراق لاحقًا - وقد استمرّ عمله ستة أشهر"(10).

ومن المعروف أن الإمام الإبراهيمي كان على علاقة طيبة مع الأمير فيصل، الذي دعاه إلى العودة إلى الحجاز للإشراف على شؤون المعارف، فاعتذر الإمام.

وقد كان ماسينيون يحقد على الإمام الإبراهيمي، لأنه كان يتصدّى لمخططاته ويكشفها، وقد وصل هذا الحقد إلى درجة لم يستطع ماسينيون معها كتمانه، فقال للدكتور جميل صليبا:"إن هذا الرجل- الإبراهيمي- من ألدّ أعدائي"(11).

ومن منفذي السياسة الفرنسية في الميدان الديني الطرقيون المنحرفون ورجال الدين الرسميون، وفي مقدمتهم "محمد العاصمي"، الذي أنْعَمتْ عليه فرنسا بمنصب مفتي الحنفية في الجزائر، وبما أن المذهب الحنفي لم يَبْقَ له وجود في الجزائر، فقد رأى الإمام الإبراهيمي أن هذه النسبة- المفتي الحنفي- ليست لأبي حنيفة، وإنما هي لبني حنيفة، قوم مسيلمة الكذاب.

وتناولت هذه المقالات قضية التعليم العربي ومعاملة الدولة الفرنسية له ولأصحابه، وكشف الإمام في هذه المقالات نية الفرنسيين، وهي أنهم يريدون تجريد الجزائريين من "وطنهم الفكري"، كما سلبوهم "وطنهم الجغرافي"، وكما يريدون سَلْبَهم وتجريدهم من "وطنهم الروحي".

من أجل ذلك جعل الإمام التعليمَ العربيَّ شُغلَه الشاغل، وهمَّه الدائم، وكان يعتبره قضية حياة، لا بقاء للشعب الجزائري إلّا به.

وفي هذا الإطار تناول الإمام قضية اللهجة البربرية التي لم تطرح في الجزائر منذ أشرقت أرضها بنور الإسلام، رغم أن كل الدول الإسلامية التي نشأت في الجزائر بربرية. وكشف الإمام الهدف الفرنسي من وراء الدعوة إلى البربرية، وتخصيص إذاعة لها، وهو أنه "سلاح مبتكر لحرب العربية ومكيدة مدبرة للتقليل من أهميتها، وحجة مصطنعة لإسكات المطالبين بحقّها في وطنها"(12)، "ومن عادة الاستعمار أن يحيي المعاني الميتة ليقتل بها المعاني الحية"، كما يقول الإمام الإبراهيمي.

10) عن أعمال ماسينيون في الشام، انظر: حسني سبح، خواطر وسوانح وعِبر، مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق، ج 3، مجلد 59، يوليو 1984، وج 4، مجلد 59، أكتوبر 1984، وانظر مقال:"لجنة فرانس- إسلام" في هذا الجزء من الآثار.

11) مجلة الثقافة، ع 87، الجزائر، مايو- يونيو 1983، [ص:37].

12) انظر مقال "موجة جديدة" ومقال "اللغة العربية في الجزائر عقيلة حرة .. " في هذا الجزء من الآثار.

ص: 27

وكما نال أعوان فرنسا وآلاتها المسخرة لضرب الدين الإسلامي قسطهم من تشنيع الإمام الإبراهيمي؛ نال أعوانها في حرب اللغة العربية نصيبهم من هجومه، خاصة وأن كثيرًا من هؤلاء الأعوان من أدعياء الوطنية ومحتكريها.

وتناول الإمام في بعض هذه المقالات بعض المشاكل الاجتماعية بالجزائر كمسألة الزواج، والطلاق، وقضية اتحاد الأحزاب الجزائرية.

لقد حثَّ الإمامُ الشباب على الزواج ورغَّبَهم فيه، وحذَّر من مزاحمة المرأة الفرنسية للمرأة الجزائرية في هذا الأمر "فحذار أن يكون شبابنا فرائس هذا الاستعمار الضعيف القوي"(13)، لأن الزواج عنده أشرف خدمة للوطن "إنكم لا تخدمون وطنكم بأشرف من أن تتزوّجوا، فيصبح لكم عرض تدافعون عنه، وزوجات تحامون عنهم، وأولاد يوسعون الآمال، إن الزوجة والأولاد حبال تربط الوطني بوطنه وتزيد في إيمانه

ولمَن تُخدم الأوطان، إذا لم يكن ذلك لحماية من على ظهرها من أولاد وحُرُم، ومَن في بطنها من رفات ورِمَم" (14). وتحدث عن الطلاق لا كما يتحدث عنه الفقهاء التقليديون. ودعا الإمام إلى التشدّد في إيقاع الطلاق لما ينجز عنه من مآسٍ، ويعقِّبُ على مبدإ "العصمة بيد الزوج" بأن "الإسلام لا يعطي هذه الحقوق أو هذه الامتيازات إلا المسلمَ الصحيح الإسلام القوي الإيمان

أما إعطاء هذه الامتيازات إلى الجاهلين المتحللين من قيود الإسلام فهو لا يقل شناعة وسوء أثر عن إعطاء السلاح للمجانين

إن العصمة امتياز لرجالكم، ما لم تطغوا فيه وتظلموا، فإذا طغيتهم فيه وجُرتم عن القصد، كما هي حالتكم اليوم، انتزعه منكم القضاء الإسلامي لو كان" (15).

أما مسألة اتحاد الأحزاب (16) الجزائرية لمواجهة الاستعمار الفرنسي فقد أبدأ الإمام فيها وأعاد، وقال فيها وأجاد، وسعى في سبيلها سعيًا كثيرًا، لأن ذلك الاتحاد هو المعقل الوحيد

13) انظر مقال "الشبّان والزواج" في هذا الجزء من الآثار.

14) المرجع نفسه.

15) انظر مقال "الطلاق" في هذا الجزء من الآثار.

16) لا يعني الإمام في الحقيقة إلا حزبين هما حزب الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري، وحزب حركة انتصار الحريات الديمقراطية، أما الحزب الشيوعي الجزائري فلم يكن له تأثير على الشعب الجزائري، وذلك بسبب إلحاده، ولكثرة الأوروبيين فيه، ولتنكره للقضية الوطنية، حيث لم يكن يؤمن بالانفصال عن فرنسا، وكل ما كان يعمل له هو أن تتخلص الجزائر من الاستعمار الفرنسي الأزرق لترتمي في أحضان أخيه الاستعمار الفرنسي الأحمر. بل لقد دعا الشيوعيون الجزائريون- في فترة من تاريخهم- إلى إلحاق الجزائر بالاتحاد السوفياتي. وحول هذه النقطة انظر ما جاء في جريدة "النضال الاجتماعى"( La lutte sociale) - الناطقة باسمهم- في عددها الصادر يوم 12 يناير 1923 في المقال المعنون « Que sera l'Algérie en 1950» ( ماذا ستكون الجزائر سنة 1950).

ص: 28

للقضية الجزائرية، والوسيلة الوحيدة لنجاحها، ومن أجل ذلك توجّه إلى الشعب الجزائري ودعاه إلى حمل الأحزاب على الاتحاد.

وينبغي الإشارة هنا إلى ما يردّده بعض المغرضين من أن الإمام الإبراهيمي كان يوالي حزب الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري؛ الذي كان في مواقفه بعضُ اللين تجاه فرنسا، ويناوئ حزب حركة انتصار الحريات الديمقراطية الداعي إلى الانفصال عن فرنسا.

والحقيقة هي أنه ما كان الإبراهيمي "بيانيًا " ولا "انتصاريًا "، ولكنه كان يعتبر نفسه والجمعية التي يرأسها "فوق الأحزاب"، ليكونا حَكَمًا بينها، إن تنازعت في شيء أو اختلفت في شأن.

كان الإمام الإبراهيمي يعلم أن مواقف أعضاء حزب الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري من ثوابت الشعب الجزائري يشوبها بعض الضعف، وأن مواقفهم السياسية يطبعها بعض اللين، وكل ذلك بسبب الثقافة الفرنسية التي تلقّوها (17)، وكان يعلم- أيضا- أن فيهم كفاءات علمية، وطاقات فكرية كان الشعب الجزائري في أمسّ الحاجة إليها، فكان الإمام بين أمرين: إمّا أن يهمل تلك الكفاءات، ويفرط في تلك الطاقات فلا تستفيد الجزائر منها، وإمّا أن يعمل على كسبها، ويجتهد في أن يعيدها إلى شعبها، ويُنقذها من ضلالها، فتصير أكثر إيمانًا بثوابت شعبها، وأَصْلَب في مواقفها السياسية، وهذا ما فعله الإمام. إنّ مَثَلَه في ذلك كَمَثَل الطبيب الذي يغشى المواطن الموبوءة لعلاج الناس وإنقاذهم من الوباء الفاتك. وقد أثبتت الأيام حِكمة تصرّف الإمام، وسدادَ رأيه، إذ اعترف كثير من أعضاء ذلك الحزب بأخطائهم، وتراجعوا عن مواقفهم السياسية، وانضموا إلى الثورة التحريرية.

وتحدّث الإمام عن سياسة القمع والإرهاب الفرنسية في الجزائر، فكشف دسائسها، وصوَّر فضائعها، وفضح وسائلها، فتناول ذلك الدستور في وصفه بـ"الأعرج" الذي فُرِض على الشعب الجزائري، وسَخِر من ذلك "البرلمان" الأخرس، ومن أعضائه، إذ رفض أن يسمّيهم نوّابًا، "مادامت الانتخابات بِالعِصِيِّ"، وندَّد بتلك الحملات الوحشية التي كانت تُرْعِبُ الآمنين، وتبطش بالمستضعفين. وفي هذا الإطار تندرج تلك المقالات المُعَنْوَنة بـ"ويح المستضعفين- حَدِّثونا عن العدل فإننا نسيناه 1، 2، 3 - ويحهم

أهي حملة حربية"، وهي مقالات لا يعلم كثير من الناس أنها كُتِبَت إثْر "الاعتقال للمئات من شباب

17) الحقيقة هي أن بعض أعضاء "حزب الشعب الجزائري"، الذي صار يسمى "حركة انتصار الحريات الديمقراطية" كانوا هم أيضًا - وما يزالون- مُسْتَلَبين، ولم تكن نظرتهم إلى الدين الإسلامي واللغة العربية، والاستقلال الحضاري، أفضل من نظرة أعضاء حزب الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري.

ص: 29

الأمة"، بعد اكتشاف مصالح الأمن الفرنسية- في مارس 1950 - المنظمة الخاصة ( l'organisation spéciale)، وهي منظمة سرية، أُنشئت سنة 1947، لتدريب الشبّان الجزائريين على الأعمال العسكرية، استعدادًا لإعلان الجها د من أجل تحرير البلاد.

وقد أنهى الإمام هذه المقالات بتأكيد ما دعا إليه سنة 1936 من "أن الحقوق التي أخذت اغتصابًا لا تسترجع إلا غلابًا "(18)، فقال مخاطبًا الشعب الجزائري:"إن القوم - الفرنسيين- لا يدينون إلا بالقوة، فاطلبها بأسبابها، وأْتِها من أبوابها، وأقوى أسبابها العلم، وأوسع أبوابها العمل، فخُذْهُما بقوة تَعِشْ حميدًا وتَمُتْ شهيدًا "(19).

إن الإمام الإبراهيمي ليس رجُلَ قطر مهما اتّسعت أرجاؤه، وليس رجُلَ إقليم مهما امتدّت أطرافه، ولكنه رجُل أمّة برَّحت به مِحَنُها، وصهرت جوانحه آلامها، وأمَضَّه هوانُها على الناس، فحمل أثقالها مع أثقال وطنه، فأجال فكره في قضاياها، وأسال قلمه في مشكلاتها، وعمل على أن يعيدها - كما شاء ربّها - {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} . وكان لها في كل ما كتب وقال وعمل من الناصحين.

وكانت قضية القضايا عنده هي فلسطين، التي صَوَّرها فأحسن صُوَرها، وجادل عنها فأتقن الجدال، إذ دَبَّج عنها مقالات لم يُبْلِها تعاقبُ الأيام، وعَنَت لها أئمة الكلام، وأعْجَزَت حَمَلَة الأقلام، وخضعَتْ لها كَمَلَةُ الأحلام، فقد جاء فيها بما لم يأت الأوائل من بيان رائع، وبرهان ساطع، ودليل قاطع، حتى قال عنها الأستاذ فايز الصائغ- أستاذ الفلسفة بالجامعة الأمريكية ببيروت، إنه "لم يُكتَب مِثلُها من يوم جَرَت الأقلام في قضية فلسطين"(20).

لقد كانت تلك المقالات آية في صدق لهجتها، وعُمْق معاناة كاتبها، فلم تترك خائنًا إلا كَشَفَته، ولا جَبانًا إلّا عيَّرَتْهُ، ولا بَخيلًا إلا وبَّخَته، ولا مقصِّرًا إلا عنَّفَتْه، ولا متقاعسًا إلا وَخَزَتْه، ولا خاذلًا إلا فضَحَتْه.

لقد دفع الإمامَ إلى الاهتمام بالقضية الفلسطينية أمران أساسيان هما:

1 -

إنها قضية دينية، ففلسطين هي أرض النبوّات التي لا إيمان لمن لا يؤمن بها، وهي موطن كثير من الرسُل الذين أُمِر المسلمون أن يؤمنوابهم جميعًا، وأن لايفرِّقوا بين

أحد منهم، وهي تضم ثالِث أقداس المسلمين، وهي قبلتُهم الأولى، والمستهدَفُ فيها - بَدْءًا وختامًا - هو الإسلام.

18) انظر مقال "الإصلاح الديني لا يتم إلا بالإصلاح الاجتماعي" في الجزء الأول من هذه الآثار.

19) انظر مقال "ويحهم أهي حملة حربية"، [ص:379].

20) انظر مقال "كيف تشكلت الهيئة العليا لإعانة فلسطين- 1" في الجزء الثاني من هذه الآثار.

ص: 30

- إنها تشبه القضية الجزائرية، فاليهود يريدون استئصال الفلسطينيين من فلسطين، كما يريد الفرنسيون استئصال الجزائريين من الجزائر.

من أجل ذلك، لم يكتفِ الإمامُ الإبراهيمي في قضية فلسطين بالقول، ولكنه سارع إلى الفعل، فشكَّل هيئة عليا لإعانة فلسطين (21)، وتبرَّع لها بأنفس ما يملك العالِمُ، وهو مكتبته (22)، وخَرَج من مالٍ اقترضه، ليُؤْثِرَ به- رغم خصاصته- مَن جاءه يستعينه على السفر إلى فلسطين للجها د (23).

ويضم هذا الجزء مقالات تناولت شخصيات مدحًا أو قدحًا. والإمام الإبراهيمي عندما يمدح شخصًا لا يمدحه لذاته مهما علت منزلته، أو غلت قيمته، ومهما عظم جاهه أو كَثُر ماله، أو غزُر عِلْمُه، ولكنه يمدح ما يجسده ذلك الشخص من وفاء لمبادئ الإسلام، وجهادٍ في سبيلها، وولاءً للأوطان وسعي في تحريرها، وهو عندما يذم شخصًا لا يذمّه لذاته، ولكنه يذم فعاله، ويُقَبِّح خِلالَه من انعدام مروءة، وسفالة همة، وخيانة الإسلام، وولاء لأعدائه، وتنكّر للأوطان وسعي في إذلالها.

لقد أشاد بالإمام ابن باديس، وكيف لا يستحق الإكبار والتمجيد من "أحيا أمة تعاقبت عليها الأحداث والغِيَرُ، ودينًا لابَسَتْه المحدثات والبدَعُ، ولسانًا أكلته الرطانات الأجنبية، وتاريخًا غطّى عليه النسيان، ومجْدًا أشاعه ورثةُ السوء، وفضائل قتلتها رذائل الغرب"(24)؛ وأشاد بالإمام محمد الطاهر بن عاشور، لأنه عَمِل لإصلاح "الزيتونة" التي أطفأ نُورها التقليدُ الأعمى، والكسلُ العقلي، والشلل الذهني، وسعى إلى إعادتها شجرة مباركة، يُضيءُ زيتُها، وتؤتي أكلها. ورَثَى "المنصف باي"، لأنه نَهَج لأمته نهْجَ الكرامة، وشرع لها سنن التضحية، وعلَّمَها "كيف تموت الأسود جوعًا وظمأ، ولا تطعمُ الأذى ولا تَرِد القذى". وأثْنَى على محمد خطاب، ذلك الرجل العصامي الذي أنفق من مال الله الذي آتاه، فبنى صروحًا للعلم، وشاد قلاعًا للدين، ولم يُلْهِه التكاثر في الأموال عن حقوق الأوطان. وانتصر للسلطان محمد الخامس في محنته، وفي الدفاع عن حقوق وطنه، لأنه أبَى أن يعطي الدنية في دينه، ورفض أن يكون عَبْدًا في صورة مَلِك

21) انظر مقال "الهيئة العليا لإعانة فلسطين" في الجزء الثاني من هذه الآثار.

22) انظر مقال "أما عرب الشمال الافريقي" في هذا الجزء من الآثار.

23) شهد بذلك الأستاذ حمزة بوكوشة- رحمه الله في مقاله "لحظات مع الشيخ البشير الإبراهيمي"، جريدة الشعب، عدد 2309، الجزائر، 21 مايو 1970.

24) انظر مقال "الرجال أعمال" في هذا الجزء من الآثار.

ص: 31

أما الذين أساءوا بما علموا، فقد كان لهم الإمامُ بالمرصاد، ومنهم عبد الحي الكتّاني، الذي "هو مكيدة مدبَّرة، وفتنة محضَرَة .. " اتّخذه الاستعمار الفرنسي سُخْرِيًّا، يفرِّقُ به الصف، ويشتت به الرأي، ويوهن به العزم، ويُضِلُّ به عن سواء السبيل، ويسوق على يده الويل.

يقول الإمام الإبراهيمي:

لا نرتضي إمَامَنا في الصَّفِّ

ما لم يكن أَمَامَنا في الصَّفِّ

وإن هذه المقالات تؤكد أن الإمامَ كان في مقدمة صفوف أمّته وشعبه، يقود أنصار الحق، ويضرب الأمثال للناس في الصدع بالحق، والثبات عليه، وعدم التفريط فيه مهما تكن الابتلاءات، وتتوالَ الامتحانات.

إن من أهمّ أسباب نجاح الإمام الإبراهيمي في أداء الأمانات الثقيلة التي حَمَلَها، ولم يَؤُدْه حِفْظُها، أنه لم يكن يسعى لدنيا يصيبها، أو لزعامة زائفة ينالها، ولكنه كان يجاهد في سبيل رفعة الإسلام، وفي سبيل استعادة سيادة الجزائر، وفي سبيل عزة المسلمين.

إن هناك "زعماء" ادّعوا الجهاد في سبيل تلك المبادئ، ولكن الأيام سرعان ما كشفتهم، وتبيّن أنهم يقولون فيها بأفواههم ما ليس في قلوبهم، وظهر للناس أنهم ما كانوا يعملون إلا لتحقيق أغراض شخصية، ونيل مآرب آنية، بل إن منهم من قضى بقية حياته في حماية أعداء شعبه، ولذلك لفظهم الناس، وأهملهم التاريخ، فلم يُرفع لهم ذكر، ولم يكتب في فضلهم سطر، ولم يُخلَّد لهم اسم.

تمتاز هذه المقالات بالأسلوب الجميل، والمعنى الجليل، والهدف النبيل، والرأي الأصيل، وعمق التحليل، ودقة التعليل، فاستحقّت أن تُسَمَّى "عُيُونًا"، واستحقّ مُنْشِئُها أن يقال فيه:

قليل منك يكفيني ولكن

قليلك لا يقال له قليل

وأن يقال أيضًا:

هيهات لا يأتي الزمان بمثله

إن الزمان بمثله لبخيل

سمَّى الإمام الإبراهيمي هذه المقالات "عيون البصائر"، وإن لكلمة "العين" في لغة يعرب لَمَعانٍ كثيرة، منها: العين، نبع الماء، والماء هو مصدر الحياة، فكأن "عيون البصائر"

ص: 32

"ماءً فكريًا"، تحيا به العقول، كما تحيا بالماء الحقول، وقد كانت عيون البصائر "ماءًا حيويًا" ضد "الأفكار الميتة" التي يشيعها الطرقيون والضُّلّال، وضد "الأفكار القاتلة" التي يبثّها أرباب "المَخابِر الفكرية" الفرنسية، وأتباعهم من "المسلمين".

والعين، هي آلة الإبصار التي تمنع المرء من الوقوع في المطبات، والاصطدام بالأشياء، وقد كانت هذه المقالات "عيونًا " أبصر بها الجزائريون طريقهم، ورأوا بها عدوَّهم، وأبصروا بها حقائق دينهم ودنياهم. والعين هو النفيس من كل شيء، وقد كانت هذه المقالات وستبقى من أنفس ما دَبَّجَتْه الأقلام، وأبدعته الأحلام، من معاني فحْلَة في عبارات جزلة.

وقديمًا قيل:

وقلَّما أبصرتْ عيناك ذا لَقَب

إلا ومعناه- إن فكَّرْتَ- في لقبه

وإن صاحب هذه الآثار هو "محمد البشير طالب الإبراهيمي".

فـ"محمد"، اسم مفعول من "التحميد"، والإمام يستحق ذلك لعظيم فِعالِه، وجَليل خِلاله. و"البشير"، فقد كان الإمام بشيرًا لوطنه وقومه، زرع فيهم الأمل، ودعاهم إلى العمل، وأخرجهم من اليأس، وجعل لحياتهم هدفًا نبيلًا يسعون إلى تحقيقه، ويكدحون في سبيله. و"طالب"، وقد كان الإمام طالبَ حق لوطنه، وطالب كرامة لقومه، وطالب عز وسؤدد لأمته. و"الإبراهيمي"، وقد قَبَض الإمام قَبْضَةً من جهاد أبيه إبراهيم (25) عليه السلام ضد الشِّرْك والضلال، فعاش داعيًا إلى التوحيد، دالًّا على الله بآيات كتابه المسطور، وعجائب كتابه المنظور.

رحم الله الإمام الإبراهيمي، وجزاه عن جهاده الجزاء الأوفى، وجعلنا أهلًا لحمل تراثه.

محمد الهادي الحسني

البليدة (الجزائر)، 16 أفريل 1997.

ص: 33