الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حقائق *
أقربُ الأعمال إلى التمام والنفع والإثمار ما بني منها على التجربة الاستقرائية الممحّصة، ومن بنى عمله على غير هذه القاعدة فهو مخادع أو مخدوع، وهذا زمن "اجتماعي" لا يؤمن للفردية بوجود، ولا يخضع لها في حكم، ولا يعوّل عليها في عمل، وقد انتقلت فيه الأعمال العامة من أيدي الأفراد إلى أيدي الجماعات والجمعيات، فازدادت تلك القاعدة تمكنًا وتأكّدًا؛ ووجب على الجماعات العاملة أن تراعيها في أعمالها حتى لا تفشل وتخيب؛ وإن فشل الأفراد أهون وأبعد عن ردّ الفعل من فشل الجماعات.
من أراد أن يخدم هذه الأمّ فليقرأها كما يقرأ الكتاب وليدرسها كما يدرس الحقائق العلمية. فإذا استقام له ذلك استقام له العمل، وأمن الخطأ فيه، وضمن النجاح والتمام له؛ فإن تصدّى لأيّ عمل يمسّ الأمّة من غير درس لاتجاهها ولا معرفة بدرجة استعدادها كان حظه الفشل.
وأنا رجل ممن هيّأتهم الأقدار لخدمة هذه الأمّة في نواح دقيقة شريفة لا يقبل فيها الزيف، ولا يتسمح فيها مع الباطل؛ من هذه النواحي ما هو أمانة تؤدّى بلا تصرّف، وما علينا إلا أن نقول ونُبلغ، وما على الأمّة إلا أن تسمع وتطيع؛ وهذا هو الدين في سلطانه الأعلى، ومنها ما يقتضي المسايرةَ والمجاراةَ لاستعداد الأمّة، وهذا هو الجانب الاجتماعي، ومنه التعليم.
فأزعم أنني جرّبت ودرست، وأنني قرأت هذه الأمّة وفهمتها كما أقرأ الكتاب وأفهمه، وما هذا ببعيد ولا كثير على من خدم أمّةً ولابسها عشرات السنين معلّمًا مدرّسًا واعظًا خطيبًا، محاضرًا ينتزع مواضيعَ محاضراته من وجوه الجمهور قبل أعمالهم؛ وقد خرجتُ من
* نُشرت في العدد 47 من جريدة «البصائر» ، 30 أوت سنة 1948.
هذه الدراسة الطويلة بنتائج جليلة يجب أن تدوّن وأن تكون دستورًا للعاملين، ولست بصدد تدوينها هنا، وإنما أسجل واحدة هي بسبيل مما نحن فيه؛ وهي أن هذه الأمّة أصبحت كالتاجر الحذر من تقلب الأسواق، لا يصارف إلا يدًا بيد؛ ومرجع ذلك فيها إلى أسباب معقولة، فقد ألحّ عليها الدجّالون باسم الدين قرونًا، وراضوها على أن تعطيَ ولا تأخذ، ولا تسأل لماذا؛ حتى قامت حركة الإصلاح الديني واكتسحت التخريف فحرّرت الأمّة من أولئك الدجّالين؛ ثم ظهر في الميدان دجّالون في صورة أخرى وباسم آخر وهو السياسة؛ والصنفان يلتقيان في نقطة، وهي أن بضاعتهما وعود غرارة، وبروق كاذبة، وخيالات لا حقيقة لها، وأماني لم تسلك لها وسائلها. ومقدّماتٌ لم تربط بها نتائجها؛ لا إصلاح لما فسد من الأخلاق، ولا تقوية لما ارتخى من عرى الأخوّة، ولا بناءٌ لكيان الأمّة بالتربية الصالحة والتعليم النافع؛ ويلتقيان أيضًا في نقطة أخرى وهي محاربة العلم ورجاله، ومقاومة التعليم بجميع أنواعه؛ والباعث للفريقين على هذا واضح، وهو أن العلم نور، وهم يعملون في الظلام، والعلم إيقاظ للأمّة، وهم يريدون بقاءها في النوم لينالوا منها ما يريدون؛ وقد فات كلًّا من الفريقين أن الإلحاح على الفريسة يخلق منها مفترسًا، وأن كثرة الوخز تثير الإحساس الكامن؛ وقد أصبحت هذه الأمّة على كثرة الوخز حسّاسةً مهتاجةً لا تصدّق إلا بالواقع، ولا تؤمن إلا بالمحسوس لما ألحّ عليها التدجيل الذي يعد ولا ينجز، والدجّالون الذين يأخذون ولا يعطون؛ وإن هذا الخلق ليزداد فيها تمكّنًا على الأيام؛ وسينتهي بها إلى أن تصفّي حسابها مع من لم يصفِّ حسابه معها، ولا يغترّ المغترّون بهذه الظواهر الهادئة، فما هي إلا أواخر فورة، وأوائل ثورة، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} .