الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التعليم العربي والحكومة *
- 9
-
ثم ماذا؟
…
ثم يقول هذا المشروع الذي لم يرزَق براعة الاستهلال، ولا دليل الحياة من الاستهلال:
"المادة الثالثة: تخضع المعاهد التي يشمل برنامج تعليمها كل أو بعض مواد التعليم الابتدائي المشار إليها في المادة 27 من قانون 1887، لنصوص المادتين الثانية والثالثة من قانون 27 نوفمبر 1944 الخاص بنظام التعليم الحرّ في الجزائر، ولا يطلب من المعلّمين أي شرط ليعلّموا في هذه المعاهد مواد غير مذكورة في المادة 27 من قانون 18 جانفي 1887".
ولسنا بصدد شرح هذه المواليد المختلفة في الأعوام، المتجمعة في أنها ظلم وظلام؛ مقنّعات بقناع النظام. وإن هذه الإحالات المتكرّرة لتكفي وحدها في التعقيد، وخفاء المراد عن المريد، وكلها قوانين كانت نائمة، وكانت الحكومة عنها صائمة، فلم توقظها في وقت من الأوقات، مثل ما أيقظتها في هذه السنوات الأخيرة. لأنها كانت تظن أنها سلاح لغير قتال ولا معركة، لأن الأمّة كانت تغطّ في النوم أيضًا، فما حاجة الحكومة إلى تلك القوانين؛ وإنما وضعتها للاحتياط وقطع الشك
…
فلما جدّ جد الأمّة في هذه السنين، وفتحت أعينها على تراث منهوب، وحق مغصوب، ومدّت أيديها للاسترجاع والتجديد، مدّت الحكومة يدها إلى تلك القوانين تحرِّكها وتوقظها، وتغذّيها بالزيادات والملحقات؛ ومن أشنع هذه الزيادات ما وُلد في طالع النحس، وهو ما قرّرته لجنة التحرير القومي يوم كانت الدولة الفرنسية كلها في الجزائر، وكانت فرنسا كلها تضطرم ثورةً وحربًا. ففي ذلك الوقت الحرج الذي ينسى فيه الخليل خليله، لم تنسنا لجنة التحرير القومي، وكافأت الأمّة
* نشرت في العدد 73 من جريدة «البصائر» ، 28 مارس سنة 1949.
الجزائرية على الإحسان بالإساءة، وعلى المعونة بالخذلان، وعلى الدم بالهدم والهضم؛ وكان الهضم عامًّا لجميع الحقوق، ولكن التعليم العربي نال الحظ الأوفر من هذه الهضيمة، إذ رمته لجنة التحرير القومي بقانونين، وإن لم تكن لها قوّة "التقنين": أحدهما قانون 6 أوت 1943، والثاني قانون 27 نوفمبر 1944؛ وقد ذكرا في هذا المشروع، وأدرجا في مقدّمته، مع القوانين التي يجب الاعتماد عليها، والرجوع إليها: وإن التشريع في أيام الحرب للأمور الاجتماعية، كالتعليم مثلًا يخطئه التوفيق ويحالفه السفه والخطل، لأن زمن الحرب زمن ضرورة وترخص واستثناء، فما يصلح فيه لا يصلح في غيره، وحالة الحرب حالة اضطراب في العقول والأفكار، ليس معها هدوء ولا استقرار، فما شرعته تلك العقول، أو أنتجته تلك الأفكار، لا يكون إلا شدّةً أو انتقامًا أو بلاءً مبينًا. بل نقول: إن عمل لجنة التحرير القومي، أو عمل الحكومة الفرنسية في تلك الأيام في مثل هذه الشؤون، يعد كالعمل يوم القيامة، لا ينفع الأبرار، ولا يضرّ الفجّار.
إن أوجع الضربات المسدّدة للتعليم العربي، من هذا التشريع "الحربي" ما فرضه على المدارس العربية من تعمير خمس عشرة ساعة في الأسبوع بتعليم اللغة الفرنسية.
سألني المفاوض الرسمي- وهو يحاورني في هذه النقطة من المشروع- عن رأي في هذه الساعات الخمس عشرة، وعما يمكن أن نقبله منها، فقلت له: إننا لا نرضى في هذا الباب بشيء يزاحم لغتنا، ويضايق تعليمنا، وبيّنت له في تعليل ذلك الأسباب الآتية:
أولًا: إن مدة التعليم عندنا هي خمسة أيام في الأسبوع، فإذا قسمنا عليها خمس عشرة ساعة كان حاصل القسمة ثلاث ساعات لكل يوم؛ فماذا يبقى لتعليمنا العربي؟
ثاينًا: إن تعليمنا ديني، وفيه حفظ القرآن، وحفظ حصّة من القرآن يستغرق ثلاث ساعات من اليوم، فماذا يبقى لتعليم الدين والعربية؟
ثالثًا: إن أولياء تلامذتنا إنما جاؤونا بأولادهم لتعلّم العربية والدين، ولا نحقّق رغبتهم إلا بتعليم أبنائهم ست ساعات كاملة.
رابعًا: إن أغلب تلامذتنا يتركّب من المطرودين من المكاتب الفرنسية بدعوى مجاوزة السن القانونية، أو بدعوى ضيق الأمكنة عنهم، وفي الجمع لهم بين تعليمين إضاعةٌ للتعليمين معًا.
خامسًا: إن تعليمنا ابتدائي، وما عهدنا تعليمًا ابتدائيًّا يجمع بين نوعين من التعليم.
سادسًا: إن مدارسنا تنفق عليها الأمّة، وهي محدودة الموارد المالية. فمن أين ننفق على طائفة تساوي عدد معلّمي العربية؟ لا نقدر نحن على الإنفاق، ولا نرضى بأن تنفق
الحكومة على هؤلاء المعلّمين، إذا رضيت هي بذلك، لأننا نعلم مقاصدها من ذلك، ونعرف عواقب ذلك، ومن عواقبه التدخل والتحكم والتسلّط والإفساد.
سابعًا: إن أولادنا الذين يتعلمون في المكاتب الفرنسية ست ساعات في اليوم لا ينجح منهم تسعون في المائة، لفساد مقصود في البرنامج، واختلال متفق عليه في النظام، فكيف ينجحون أو يستفيدون من ثلاث ساعات في اليوم؟ إلا إذا كان المقصود مضارّة كل من اللغتين للأخرى، وهو ما نقوله ونعتقده ونؤّيده بالشواهد.
ثامنًا: إن للّغة الفرنسية مدارسها وحكومتها وملايينها وقوّتها، فما معنى هذه المضايقة؟ وما معنى هذه المزاوجة التي لا تفيد واحدةً منهما؟
ولتحقيق السبب الخامس من هذه الأسباب وتيسيره علينا جاء المشروع بعد كلامه السابق متصلًا بقوله:
"يستطيع عميد جامعة الجزائر بصفته مديرًا عامًّا للتعليم الوطني في القطر كله أن يضع تحت تصرّف مديري المدارس، حين يطلب منه ذلك، المعلّمين الذين ينقصونهم لتعليم المواد التي تدرس إجباريًّا باللغة الفرنسية"
…
لم نسمع كلمة (إجباريًّا) إلا هنا، وفي مدارسنا التي شدناها بأيدينا، وأنفقنا عليها أموالنا، ونعلم فيها ديننا ولغتنا؛ أما في مدارس الحكومة فلم نسمع كلمة إجباريًّا أبدًا؛ وإلى الآن، وبعد قرن وزيادة، لم تشرع فرنسا قانونًا يقضي بتعليم المسلمين تعليمًا إجباريًّا كما هو الشأن في أبنائها، وكما هو الشأن عند جميع الأمم، وبقيت هذه المنقبة مدّخرة لدور لجنة التحرير، فتقرّر جعل تعليم اللغة الفرنسية إجباريًّا، ولكن في مدارسنا لا في مدارس الحكومة
…
ثم يختم المشروع بهذه المادة التقليدية وهي:
"المادة الرابعة: وزير التعليم الوطني ووزير الداخلية مكلّفان كل في ما يخصّه بتنفيذ هذا القانون الذي سينشر في الجريدة الرسمية للجمهورية الفرنسية، وفي الجريدة الرسمية لحكومة الجزائر".
ولكن المشروع أدركه الغرق، ولم يعدُ أن يكون حبرًا على ورق؛ وقد رضيت المفاهمة فيه، مع أنه لا يتضمن إلا جزءًا من مطالبنا لئلا يقال: إننا متعنّتون، وكنت على يقين من أول خطوة بأن المفاهمة ستخفق. كما أخفقت قبلها المفاهمة التي تولّاها الأستاذ التبسي وصاحباه، لأننا انتهينا من فهم الإدارة الجزائرية إلى الدرجة التي لا يطلب بعدها علم. ولكنني ناقشت صاحبي في نقط المشروع الأساسية وهي: الرخصة، وسلطة الحاكم في
التعطيل، وأسباب التعطيل، وفرض خمس عشرة ساعة في الأسبوع للفرنسية، وبيّنت له رأينا فيها بشدة وصراحة، ثم رفضت المفاهمة في المشروع بحذافيره، وفي جملته وتفصيله، وأبى لي ديني أن أعطي الدنية فيه، وأبت لي عروبتي أن أقرّ الضيم للغتي، وأبى لي شرف الجمعية وشرف العلم، أن أتمادى في مفاهمة ضالة عقيمة في حق طبيعي ثابت، وأن أجاري الاستعمار في الهبوط إلى هذه التوافه في وقت تطلعت فيه الشعوب التي هي أقل منا شأنًا وأحطّ درجة إلى التحرّر من قيود الاستعمار.
رفضتُ المفاهمة ونفّذت قرارات الجمعية في سير التعليم إلى نهايته، وللحكومة أن تسقط السماء علينا كسفًا، وأن تتجنّى علينا ما شاء لها التجنّي والظلم.
وبعد، فهذه صورة من هذه القضية كلها حقائق. وليست هي كل القضية، وإنما هي جوانب منها تأكدت الحاجة إلى بيانها فبينّاها على النمط الصحفي الذي يفيض على نزوات، الألم، ودواعي الضغط، لا على النسق التاريخي الذي يبيّن الأسباب ويبني عليها النتائج، ويشرح ويتقصّى؛ وإذا كانت في هذه الكلمات كلمة شديدة فإنما ذلك لشدة الدافع إليها، ولعلّ القرّاء الغضاب الساخطين لا يقنعهم هذا الأسلوب الليّن المتساهل، وعذري إليهم أنني لم أقصد إلى الإثارة والاستفزاز، وإنما قصدت أولًا إلى التنبيه الهادئ، وعمدت إلى تقرير الواقع لا إلى إقراره.
أما النتيجة
…
وأما رأيي فـ
…