الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل الدين عن الحكومة (18)
…
ومن فروعها صوم رمضان *
ــ
…
وما زلنا نحن والحكومة الجزائرية ننظر إلى هذه القضية بعينين، إحداهما حولاء
…
ونتناولها بعقلين، أحدهما مؤوف.
أما أحد العقلين فيتلقى الوحي من القوّة التي تعمي عن الرشد، ويمتص الغذاء من الحقد المتأصل الذي يضل عن الهدى، وينحط إلى الغرائز الحيوانية يأخذ عنها مثله السفلى، ويبني العلائق بين الناس على العنصرية والتفوق والسيادة، ويرجع بطبقات البشر كلها إلى قسمين، قوي آكل، وضعيف مأكول، ولا ثالث، ويذهب في الألفاظ ومعانيها ولوازمها مذاهب غريبة عن متعارف اللغات، فظلم القادر لا يسمى ظلمًا، لأنه صدر من قادر، وقتل الأرواح لا يسمى قتلًا، ما دامت الأجساد تتحرك، واهتضام الأديان السماوبة لا يسمى كفرًا، لأنّ القوّة إله ثان، نبيُّه هذا العقل، وكتابه ينحصر في آية: لا صلة بين السماء والأرض، وشريعته مبنية على قاعدة: كن قويًّا واصنع ما شئت. ثم يستشهد منطق العقل العام، وسنن الكون وطبائع البشر فتخذله.
وأما العقل الآخر فتؤيده حكمة الله العليا في الأديان، وهي أن لكل طائفة دينها الذي ربطتها به الوراثة والاختيار، ولكل دين أهله الذين عقدت بينهم وبينه الفطرة والذوق، يصرفونه بأنفسهم، لأنهم أعرف بعقائده، وأعلم بآدابه، وأبصر بشروطه وأسبابه، وأفقه في وسائله ومقاصده، وأقوم على أحكامه، فهم لذلك أملك به وأجدر بتصريف شؤونه، وتظاهره سنة التطور التى انتهت ببعض الأمم إلى أن تعد من الرشد ابتعاد الحكومات عن سياسة الدين، ولو كان أصيلًا فيها، وكانت أصيلة فيه، وإيكاله إلى رجاله المنقطعين له، واقتصارها على سياسة الدنيا، ويشهد له أن أعظم حكومات هذا العصر، وهما أمريكا وانكلترا، تعدان من أسباب عظمتهما حرية الأديان والمعتقدات، وتفسران ذلك بترك
* نشرت في العدد 157 من جريدة «البصائر» ، 28 ماي سنة 1951.
الشؤون الدينية لأهلها، وتوزيع اختصاصات الدنيا والدين بحيث لا تختلط إحداهما بالأخرى، وإننا لنجد بذورًا من ذلك في أساس تكوين الدولة الإسلامية، وإن اختلفت الحالتان في الدواعي والمرامي، ونلمح ذلك في تخصيص الإمامة برجال، والقضاء برجال، وإمارة الحج برجال، ونعتقد أنه لو طالت بعمر حياة وتمهد له ما يريد من إعداد الأمة وتربيتها- لخطا خطوات في توزيع الأعمال، وتقييد سلطة العمال، حتى ينتهي ذلك بطبيعة الحال إلى انفراد رجال الحكم بسد الثغور، وهو عمل عسكري، وتأمين السابلة وهو عمل اقتصادي، وإقامة الحدود، وهو عمل قضائي، وترك أمور الدين المحضة إلى علماء الدين المنقطعين له علمًا وعملًا، وليس معنى هذا سقوط التكاليف الدينية عن الطبقات الأخرى، ولا التساهل فيها، كما تفيده كلمة "حرية التدين" في هذا العصر، وإنما كلامنا في تسيير شؤون الدين، وهو موضوع الحديث، كذلك ليس من معناه أن لا تساس الأمة باسم الدين، كما هو مفهوم "حكومة تيوقراطية"، فالإسلام أضمن للعدل والمساواة، وأحفظ لمصالح البشر الخاصة والعامة من أن يتبرم به متبرم، أو يعد الحكم باسمه "تيوقراطيًّا".
وهذا صوم رمضان
…
عبادة دينية محضة، وهي أبعد العبادات عن الماديات التي تغري بتدخل الطامعين في شؤونه، فهو أشبه بالفقير الذي ليس معه من المال ما يغري اللصوص بالاعتداء عليه، إذ ليس له من الأوقاف ما يقيمه كالصلاة والمساجد، ولا يفتقر في إقامته وأدائه إلى سفينة أو طائرة تنقل إليه، ولا إلى رخصة انتقال تثير غريزة التحكم، ومع ذلك كله فإن الحكومة الجزائرية عزّ عليها أن تفلته، وعز عليها أن لا تشارك فيه إلّا ببضع كيلوات من "الزلابية"
…
فألحقته في العهد الأخير، بالحج والمساجد، كما ألحقت "فزّان" بمستعمراتها، وتلك شنشنة الاستعمار- واللاتيني منه على الخصوص- يعتبر الأوطان والأديان والأرواح والأبدان- وما هو لله وما هو للشيطان- شيئًا واحدًا يجب أن يخضع لجبروته ويدخل في سلطانه.
حَلَا لهذه الحكومة المسيحية اللائكية معًا، الجمهورية الديكتاتورية معًا، الجامعة بين الأضداد، الضاربة دون حرية الجزائر بالأسداد- أن تحارب الله في دينه الإسلام، فتنتهك حرماته، وتأكل تراثه أكلًا لمًّا، وتتخذ رجاله خَوَلًا لها، تستخدمهم في أغراضها بماله، وتنصب من نفسها مرجعًا لهم دون أهله، ثم تعمد إلى الحج فتبيحه لمن تشاء، وتحرمه على من تشاء، وتضع العواثير في طريقه، وتكوّن جمعية من أتباعها باسم "أحباس الحرمين"، بعد أن لم تبقِ منها أثرًا ولا عينًا، إمعانًا في السخرية بالإسلام وأهله، وتشارك المسلمين في أداء هذا الركن "بجهد المقل" من حاكم مسيحي وخليفة وقائد وكاتب وجاويش وجماعة من الجواسيس، يحصُون على الحجاج أنفاسهم، ويُلقون في أذهانهم أن البحر والسفينة، ومكة وشعابها كلها مستعمرات لهذه الحكومة.
عزّ عليها أن تنقض أركان الإسلام ركنًا ركنًا ويبقى هذا الركن- وهو الصوم- خارجًا عن نفوذها، ورأت نقصًا في سمعتها، وغميزةً في كرامتها أن تفلت شعيرة الصوم من قبضتها، واهتبلت الوقت الذي اشتدت فيه مطالبتنا بالأوقاف والمساجد وحرية الحج، فمدت يدها إلى الصوم، تعبث فيه بالكيد، وتُفسده بالحيلة، وكأنها تريد أن تلهينا بشيء عن شيء، وكأنها تقول لنا: يا طالبي النهاية، ارجعوا إلى البداية
…
دبت حركتها إلى صوم رمضان دبيبًا خفيًّا من هذه الثغرة التي أصبحت شرًّا على المسلمين، ووبالًا على دينهم، وهي وظيفة الفتوى والقضاء، فكونت من رجالها فيهما "لجنة الأهلة" فأصبحوا يتحكمون في هلال رمضان المسكين وحده يثبتونه وهم في جحورهم، أو يخفونه وهو في كبد السماء، اتباعًا لوحي مرسوم لا يتعدونه، ثم أمدّت تلك اللجنة بسلاح من القانون وهو اعتبار الأعياد الإسلامية رسمية، تعطل فيها الأعمال الحكومية والمهنية والصناعية، وما شرعت ذلك القانون حبًّا في الإسلام، واحترامًا للمسلمين، وإنما شرعته لتلجئ الموظفين والعمال المسلمين إلى اتباع رأي لجنتها في الصوم والإفطار، إذا اختلفت الآراء، وتهيّئ الجزائر للانقطاع عن الأقطار الإسلامية، وتتوصل بذلك إلى بسط نفوذها على هذا الركن، وتقطع العلاقة بين الجزائر وبين العالم الإسلامي، وتحاول- من جديد- تكوين "إسلام جزائري"، بعد أن أخفقت التجارب القديمة.
تدخلٌ مفضوح أضافته الحكومة إلى أعمالها القديمة، وتدخلاتها الأثيمة في شؤون ديننا، لتثبت به سلطتها عليه، وأضفناه نحن إلى قائمة ما نكشف عليه من كيدها، وما نقاومه من ظلمها، فلا هي ترعوي، ولا نحن نسكت، فعلى الأمة أن تتفطن لهذه المكايد الشيطانية، وتزنها بآثارها، وتعتبرها بعواقبها، فإن هذه الحكومة لا تعمل عملًا إ، وله غاية وعاقبة، ثم لا تكون الغاية إلّا هدمًا لركن من أركان ديننا، ولا تكون العاقبة إلّا ريحًا لها وخسارًا لنا، وإن الحزم أن نبت هذه الحبال التي تمدها منا إلينا، وأن نعاملها بالقطيعة وأن نتولى صومنا بشهادتنا وأعيننا، وبالاتباع لإخواننا المسلمين حيثما كانوا، إذا بلغتنا أخبارُهم على وجه شرعي صحيح
…
وبكل ما نملك من الوسائل.
إن آثار الاستعمار فينا هي التي جعلتنا سريعي التأثر بدواعي الفرقة، وقد نجح في تفريقنا في الدنيويات لأنه يملك أسبابه، فرجع إلى الدينيات يزيدنا فيها تفريقًا على تفريق، فعلى الأمة أن تحذر هذه الفخاخ المنصوبة، وأن ترجع في مسألة الصوم والأعياد إلى أحكام دينها وحِكَمه، وأن ترفع الخلاف بالرجوع إلى الحق.