الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من نفحات الشرق *
داوِ الكلوم يا شرق، فما زلنا كلَّما استشفينا بك نجد الراحة والعافية، ونظفر بالأدوية الشافية؛ وما زلنا كلما استنشقنا ريحًا استنشيْنا رَندك وعرارك، وكلّما استورينا زندًا استمجدنا مَرْخَك وعَفَارك، وما زالت أفئدتنا تهوي إليك فتصافحها حرارة الإيمان، وبرد اليقين، ورَوْح الأمان، وما زلت تُتحفنا مع كل بازغة منك بالنور اللائح، والشعاع الهادي، وما زال يتبلج علينا من سناك في كل داجية فجر، وتسري إلينا من صباك في كل غماء نفحات منعشة.
…
وافنا يا شرق مع كل نسمة منك تهبّ، ومع كل بريد من قِبلك يخبّ، بأثارة مما أبقت الأيام فيك من آثار السماء، فقد انقطعت الصلة- في غيرك- بينها وبين الأرض، منذ طمعت أوربا في استعمار كواكبها، وتعفيرها بأوضار مادّيتها، وهل تنقل أوربا إلى السماء يوم تستعمرها إلا مخامرها ومواخيرها وآثامها وفواحشها؟ وكَذَبَتْهم الكذوب، فإن الصعود إلى السماء خيال يسري في ظلّ حقيقة، وباطل يجري في عنان حق، وحلم من أحلام العلم، أخطأت تعبيره علماء المادّة، وحقّقه محمد مرّة واحدة، في تاريخ البشرية، ووضّح التفكير الإسلامي تفسيره في تلك المرحلة الأولى بالعروج الروحي إلى الملإ الأعلى، والجوَلان الفكري في ملكوت السماوات، فلولا هداية الإسلام إلى اجتلاء أسرار السماء، وتوجيه العقول إلى فتح مغاليقه، وربطه بالأرض بواسطة الروح، لما لاح هذا الخيال في ذهن مفكر، ولا طاف طائفه بعقل عاقل، وكذب الطرفان، وصدقت الواسطة، الأوّلون قادهم
* نشرت في العدد 164 من جريدة «البصائر» ، 23 جويلية سنة 1951.
الإعجاب بالكواكب إلى عبادتها، والآخرون قادهم إلى استعمارها، والإسلام كذب الأولين، وسيسفِّه الآخرين
…
...
ما زالت فيك- يا شرق- ملامح من الخير، ومخايل من الفضيلة، ومشابه من عبقرية العقول التي حلّت مشكلات العلم، ووسّعت آفاق المعرفة، وخطّت خطوط الفن الأولى، ومن الأرواح التي اتّسمت بالطهر، واضطلعت بالأمانة، وعبرت البرزخ الإنساني إلى أفق الملائكة، فساوق نغمها بكلام الله زجلهم بتسبيحه، فاتسق منهما إيقاع حدَتْ به ركب الإنسانية إلى منابع الخير، ومشارع الحق، ومراتع الجمال، ثم
…
إلى الجنّة.
يا شرق، فيك من كل مكرمة عرق، فاجْر على أعراقك الكريمة، ففي تربتك نبت الإيثار والتضحية، ومن أرضك انبجست الرحمة والرفق، ومن آفاقك هبّت النجدة والغوث، وعلى أديمك دبّت النبوّة والحكمة، ومن سمائك تنزّلت البيّنات الفارقة بين الهدى والضلال، وعنك أخذ الناس المكارم والمراشد، ومنك امتاروا أغذية الأرواح، واستبضعوا طرائف العلم
…
آسِ جراحنا، وإن كنت مثخنًا من ملوكك المغرورين، وكبرائك المفسدين وعلمائك الضالين، بألف جرح؛ فلا يحزنك أنهم عقّوك وشقّوك؛ ولا يقعد بك عن أداء رسالتك أنهم أضاعوك وباعوك، وأنهم أكلوا خيرك، وعبدوا غيرك، ولا يرعك أن على كل فَنن من دوحتك ديكًا منهم يدلّ الثعلب بصياحه، وغرابًا يجلب الشؤم بنعيبه، فامض على نهجك، ودعهم للزمان الذي يقيم الأمت، ويقوّم السمت؛ ولا تبال أيةً سلكوا، ولا بأي واد هلكوا؛ فما هم من النسبة إليك في الصميم المهذّب، وإنما هم دخلاءُ تغرّبوا، ونبيط تعرّبوا، وفي كنائنك من الشباب من يتجافى عن دَدِه، لتعمير غدك بغده، ومن الكهول من فُرّ عن تجربة، وخلص تبرًا من أتربة، ومن الشيوخ من سلخ عمره لحماك حارسًا، ووقف دهره لسرّك دارسًا؛ فاستعدِ هؤلاء على أولئك، وكاثر الضالين بالمهتدين، وارْم البطان الفجرة، بالعجاف البررة، ترْم الخبيث بالطيب، وتغسل الدرن بالصيب، وإذًا لا يلبثون فيك إلا قليلًا.
***
نأسى عليك يا شرق أن تتقاذفك الأقدار، فتنقلب من عبادة الأصنام الحجرية، إلى عبادة الأصنام البشرية، فمتى تنهض بمن يكسر هذه في الآخرين، كما كسر محمد أخواتها في الأولين؟
…
أناديك: داوِ الكلوم، وقد فعلتَ، فأنعشت نفسًا ظامئة إلى ريِّك وريَّاك، متطلعةً إلى سهيلك وثريّاك، وإياي أعني، فقد كنت في هذا العيد الأخير على الحالة التي وصفتها صادقًا في كلمة العدد الماضي، من ضيق النفْس، وحرج الصدر، والامتعاض لحالة المسلمين، وظهوري بين الناس بوجه ضاحك ووراءه قلب حزين، فجاءني الشرق أو جادني بما كانت مواقعه مني (مواقع الماء من ذي الغلة الصادي).
أثقل ما يعرض لنفس الحرّ شيئان: أن يحزن والناس كلهم في فرح، وأن ينقبض وهم جميعًا في مرح؛ وكذلك كنت في أيام العيد الماضي، لولا نفحات من الشرق، آمنت معها بكل ما كان يزعمه الشعراء لنسيم الصبا من آثار
…
خلصتْ إليّ من إخوان الصدق في الشرقين، رسائل تحمل التهنئة بالعيد، بأسلوب جديد، غير ذلك الأسلوب الرثّ المبتذل الميت الذي عرفناه وألفناه، ولكنه يُفشي اليقظة ويصف الداء والدواء، ويجمع الأمل والعمل، ويسمو بالفكر والروح، ويربط الكاتب والقارئ بشعور واحد، ويعدي نفسًا من نفس، فكأنما مسّتها منها كهرباء، ويفيض كل لفظ منه بمعاني الاتصال الروحاني، فتحسّ النفس المكروبة أن لها من أختها مؤنسًا في الوحدة، ومعينًا على الشدّة، ومثبّتًا عند زيغ الأبصار وزلزلة الأقدام، وكذلك كنت بعد وصول رسائل التهنئة إليّ من جدة والمدينة والموصل وبغداد وباكستان ودمشق وبيروت والقاهرة والهند وجاوة، فكنت أقرأها تهنئة، فأجدها تسلية.
سلم جناحاك يا طائرة البريد، وبلغ قائدك ما يريد، ووُقيت شرّ العواصف الهوج، والفُجاءات الموبقة، وسلكت من السماء سبلًا، معبّدة ذللًا، فلولاك ما وصلت النجدة في حين الحاجة إليها، وقد سمعنا بنقلك الشفاءَ إلى مريض البدن، في ساعة من الزمن. أأنتِ كذلك مع مرضى الأرواح؟
…
وحيّا الله أولئك الإخوان على بعد الدار، لكأنهم علموا أن على الجانب الغربيّ رجلًا يهتم بهم أبدًا، فاهتمّوا به يومًا، ولكنّه يوم كألف سنة، فأزاحوا عن نفسه، همًّا ناصبًا، وجاءوه بفن من الترويح تواطأوا فيه على نهج، فكأنهم استملوه من لسان واحد، وكأنهم علموا البلوى، فجاءوا بالدواء ومعه السلوى، وخصّ الله بتحياته المباركة أولئك الذين زادوا
على التهنئة بالعيد تهنئة العربية "بالبصائر"، وتهنئة «البصائر» بجهادها وبالمكانة التي تبوّأتها في القلوب، ووددت- والله- لو تجرّدت رسائلهم من إطراء هذا العاجز، وتنزيله منزلة هو أعلم الناس بأنه لا يستحقها، وإذن لنشرت منها ما ينبّه القرّاء إلى ما تفعله الأخوّة الإسلامية التي ننشدها، ونعمل على تثبيت قواعدها، وإلى المدى الذي بلغته «البصائر» في ربط القلوب، وتوحيد الاتّجاه، وتضييق دائرة الخلف في الدين والدنيا، وتوسيع ميدان التعارف، ثم في نقل الجزائر من (باب النكرة) إلى (باب المعرفة)
…
...
إن أنسَ شيئًا من تلك المعاني العلوية فلن أنسى تلك الرسالة التي كتبها الأستاذ محمد هارون المجدّدي، سكرتير السفارة الأفغانية بالقاهرة، نيابة عن والده المسلم الصادق السفير محمد صادق المجدّدي، ولن أنسى، ما حييت ما لمس إحساسي الديني من تلك الرسالة، وهو اعتذاره عن والده بعذر غريب عند المفتونين منا من ربائب الحضارة الغربية، وهو:"أنه ذهب إلى المسجد الأقصى ليُقيم سنة "الاعتكاف " في العَشر الأواخر من رمضان، كدأبه في كل عام"
…
سفير دولة إسلامية يفارق مركزه الرسمي، ويترك أشغاله الرسمية، ويخالف سنّة زملائه، ويشدّ الرحال إلى ثالث المساجد الثلاثة، ليقيم فيه سنّة إسلامية، هي أفضل السنن في تزكية النفس، وتطهيرها من المكدّرات، وفي تصفية الأرواح، وتلطيف كثافتها، شرعت في شهر رمضان لتكون نفس المؤمن بمقربة من الله في الدائبين، على حين يختار بعض ملوك المسلمين، وكثيرٌ من كبرائهم هذا الشهر للسفر إلى أوربا لينتهكوا حرماته، ويتقرّبوا بنفوسهم الخاطئة إلى آثامها وشهواتها، وعلى حين يقيم غيره من سفراء الدول الإسلامية حفلات (الكوكتيل) بأموال المسلمين، يبيعون فيها دينهم وفضائلهم الشرقية بالثمن البخس، ويتقرّبون بها إلى أسيادهم الأوربيين الذين ما سادوهم باطّراح الدين، وإنما سادوهم بالخلق المتين، والمحافظة على الخصائص الموروثة، والأخذ من كل شيء بلبابه لا بقشوره.
لعمر الحق
…
إن اعتكاف سفير مسلم للعبادة في أحد المساجد الثلاثة، لحجة من حجج الله، على الملوك والوزراء والكبراء الذين فرّطوا في دينهم فخسروه وما ربحوا الدنيا، ثم كانوا وبالًا على أممهم، وسبة لدينهم.