الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إبليس ينهى عن المنكر
!
…
*
من خصائص المدرسة الاستعمارية الفرنسية في تخريج تلامذتها أنها لا تجري على منهاج المدارس العلمية في الاعتداد بالسنوات والدرجات، ثم الاعتماد على الشهادات والإجازات، إنما تجري على المنهاج الطُرقي الحديث في تربية المريدين، وهو منهاج عجيب، مبنيٌّ على اختصار الوقت واختزال الطريق واستعجال النفع من المُريد لا للمُريد، من أوجُه الشبه بين المدرستين الاستعمارية والطرقية الحديثة اللتين اصطحبتا في النشأة، وتقارضتا النصر والمعونة، أنّ العلم ليس شرطًا في واحدة منهما، بل ربّما كان الجهل شرطًا في صحة الانتساب إليهما، وفي كمال الاكتساب منهما؛ وما معنى الخصوصية إذا لم يكن هذا؟
…
وإنما مبنى الأمر فيهما على المواهب والحظوظ (وعلى اللحظات) من أساتذة الأولى ومشائخ الثانية؛ فلحظة من الأستاذ ترفع التلميذ درجات، ولحظة من الشيخ تدفع المريد إلى النهايات، هذا كله باعتبار الأصل العام، ثم تأتي الشروط الإيجابية والسلبية في كل فرد؛ وأهمّها في الإيجاب الاستعداد للشرّ في التلميذ، وأهمّها في السلب التجرّدُ من الدين والفضيلة، وتأتي بعد الأهمّ مهماتٌ في الطرفين، كالسمع والطاعة والإخلاص، وكالتسليم في المشخِّصات الإنسانية، وموت الضمير الآدمي، وإخماد الشعل الفكرية وقطع العلائق الفطرية مع القوم والجنس والوطن.
هذه المدرسة الاستعمارية تهيئ تلامذتها أو مريديها للشر، وتروّضهم عليه في حال تطول قليلًا، أو تقصُر جدًّا، على نسبة استعداد التلميذ، وإنما تروّض نفوسهم على الشر بالجملة، فإذا جاء دور التفصيل لم يعجزها أن تُلبس الفاتك منهم لباسَ الناسك، وتقلِّد الراعي وظيفة الداعي، وتسِمَ الخلي بسِمَة الوليّ؛ وتحرّك لسان الماكر بورد الذاكر، وتؤزّر أولاد الحرام بإزار الإحرام، وتخلع على الصعلوك ألقابَ الملوك.
* نشرت في العدد 143 من جريدة «البصائر» ، 19 فيفري سنة 1951.
من تلامذة هذه المدرسة الاستعمارية النجباء المقدمين، تلميذ بالمغرب الأقصى، قفز قناطر الامتحان بخطوة، وغبّر في وجوه أساتذته بلهوة، وقطع أسئلتهم المتنوّعة الكثيرة بهذه الجمل القصيرة، وهي:
"أنا روح الاستعمار وسرّه وحقيقته المشخِّصة، وإنه لو لم يكن في الدنيا استعمار لكنتُ وحدي استعمارًا قائمًا بذاته، ولو انقطع الاستعمار- لا قدّر الله- فسأكون أنا وحدي حافظ أنسابه، ووارث أسلابه، وقيّم أبوابه، والمتعبِّد بتلاوة كتابه، وأنا وحدي المثال المحقِّق لقاعدته، وأنا وحدي الدليل على خروج الاستعمار من صورته الذهنية إلى حقيقتة الخارجية، وإنني كنت أرجو أن أكونه لو لم يكن، فلما أخطأني من ذلك ما أخطأ ابن أبي الصلت من النبوّة، لم أكن كابن أبي الصلت، بل كنت أول المؤمنين به، الذابِّين عن حياضه، المغرّدين كالذبابة في رياضه، الناشرين لدينه، العاملين على امتداد سلطانه، وإنني عاهدت نفسي على أن أكونَ للاستعمار ما كان أبو مسلم الخراساني للمنصور، أو ما كان طاهر بن الحسين للأمين، وساءا مثلًا
…
أين يقعان منِّي؟ وأين يقع المنصور والأمين من المستعمرين الميامين؟
…
فاجعلوني سيِّدًا أكنْ لكم عبدًا؛ وأعينوني بقوة أجعل لكم بين البربر وبين العرب رَدْمًا، ثم لآتينّكم منهم بطوابير تملأ البوابير" (1).
هذه ترجمةُ جوابه في الامتحان الكتابي
…
ويَلمّه (2) محظأ نار، وشيطان استعمار
…
إن تلميذًا يسابق أسئلةَ الأساتذة بهذا الجواب، لَحقيق أن يفعلَ ما فعله الحاج التهامي الجلاوي، أو لَحقيق أن يكون هو- نفسُه عينُه- الحاج التهامي الجلاوي
…
وهبْه هو هو أو هو إياه، فما هو على الحقيقة بالتهامي كما سمّاه أبواه، ولا بالجلاوي كما عزاه من عزاه، ولا بالشريف المزواري كما يصفه المادحون الكذبة وإنما هو شر مهيأ للمغرب الإسلامي منذ كان هو، ومنذ كان للاستعمار فيه وجود، وهو سلاح من الباطل مجرّد في وجه الحق كلّما نأمتْ نأمتُه، وجلت عن السكوت ظُلامته، وما أمرُ هذه الأسلحة الاستعماريَّة بسِرّ، فقد فضحناها بأقوالنا، ثم فضحت نفسها بأعمالها، ثم فضحها الاستعمار بسوء استعمالها، فلم يبقَ إلا التفكير الجدّي والعمل الحازم لفلِّها وإبطال فعلها، وإنّ من المؤسف أن الخلاص منها لا يكون إلا مع الخلاص من أصلها الذي تفرّعت عنه، ومن مادتها التي تمدّها بالنماء والبقاء، وإن ذلك لما يعمل له العاملون الصادقون المخلصون.
ولا بعدَ من خير وفي الله مطمع، ولا يأس من روح وفي القلب إيمان.
…
1) البوابير: جمع "بابور" وهو الباخرة.
2) أصلها ويل أمّه ثم خففت بحذف الهمزة واتصلت الكلمتان في الكتابة.
قبل أسابيع معدودة قام هذا الرجل التهامي الذي ليس من تهامة، ولا كرامة، بأخبث ما تقوم به أحط صنيعة استعمارية في أرض الله؛ وتسامى إلى مقام ينحطُّ عنه أمثاله من الآلات البشرية الرخيصة؛ وتطاول إلى أفُق من يتطاول إليه يجد له شهابًا رصدًا، وإننا لا ندري من أي حاليْه نعجب: أمن تطاوله ذاك، وأين السّمك من السمّاك؟ أم من مجيئه في مقام واحد بنقيضتين، تَلعَنُ إحداهما الأخرى؟ فقد أظهر نفسه في الأولى فاتكًا جريئًا، وفي الثانية ناسكًا بريئًا، فشهدت الثنتان بأنه آفِك مبطل في الثنتين.
أراد في الأولى أن يظلم الناس ولا يتظلَّموا، وأن تبسط يداه فيهم بالضر والشر ولا يتكلَّموا، وأن تكون آيةُ الحق منسوخةً لأجله، وتاج الأمة المغربية الماجدة موطئًا لرجله
…
ويلُمّه مرةً أخرى! لقد جاء بها شنعاء صلعاء؛ ثمّ ماذا؟ وأن يكون لأولئك المستضعفين الذين أشقاهم القدر به وبحكمه وغشِّه وظلمه، كجهنم لمن حلّ فيها
…
يستغيثون فلا يغاثون.
وأراد في الثانية أن يكون محاميًا للدين وظهيرًا ووليًّا ونصيرًا وكافلًا ومُجيرًا، وممن يريد أن يمنع المتظلمين؟
من مرجعهم الأسمى، وحماهم الأحمى، سلطانهم الشرعي "محمد بن يوسف".
وممن يريد أن يجير الدين؟
من مجيره
…
بل من جاره المنيع الجناب، بل من ملجئه وعصمته، السلطان "محمد ابن يوسف".
ويلُمه مرة ثالثة! أمِن الدين الذي يدافع عنه أن يظلم الناس، ثم يحول بين فرائس ظلمه وضحايا عدوانه، وبين رفع ظلاماتهم إلى سلطانهم وسلطانه؟
أمن الدِّين الذي يدافع عنه ما سارت به الركبان من أعماله المنكرة وموبقاته المشتهرة؟
أمِنَ الدين، أن يكون عدوًّا لأنصار الدين، وظهيرًا لأعداء الدين؟
وما لنا نتشدّد مع الرجل كل هذا التشدّد، وما لنا لا نُعذر إليه، فنسأل أيّ دين يعني؟
فإن كان يعني دين محمد بن عبد الله، قلنا له ما قاله عمر لعقبة ابن أبي معيط:
حنَّ قَدَح ليس منها، وقلنا له: ليس الإسلام بعشِّك فادْرج، وليست دارُه بدارك فاخرجْ، وقلنا له: واضيعة الإسلام إن كنت أنت ناصره! وقلنا له: ما لك وللإسلام بعد أن تجرّدت من فضائله، وتعرّيت من آدابه، وقفزت حدوده. كأنها- عندك- درجات الامتحان
…
وإن كان يعني نحلة الشاب الظريف (3)، أو دين صالح بن طريف (4)، قلنا: ما أشبه الباطل بالباطل، وما أحقّ العاطل بنصرة العاطل!
…
لم يفُتْ هذا المخلوق العجيب إلا أن يغلط يومًا فيدخل أحد مساجد مراكش الجامعة (ولو جامع الفناء
…
مثلًا) فيصعد المنبر في يوم جمعة، وبخطب الناس، فيتباكى كما يتباكى بعض الناس عندنا، ويتشاجَى كما يتشاجون، ولا غرابة
…
فهما رضيعا لبان، وسليلا أمومة، وخرِّيجا مدرسة، وبذلك- فقط- يصبح الحاج التهامي من "رجال الدين"
…
3) شاعر جزائري تلمساني كان في المائة السادسة للهجرة، في شعره معان قد تكون من شطحات الخيال ولكن ظواهرها ملحدة.
4) متنبئ ظهر في مدينة تامسنّا بالمغرب الأقصى ووضع لنفسه قرآنًا سخيفًا سمّى سوره بأسماء غريبة، وفتن به كثيرًا من القبائل البربرية، وكان ظهوره في خلافة هشام بن عبد الملك في سنة 127 وأصله من قبيلة برغواطة البربرية، أخباره في ابن خلدون والقرطاس والاستقصاء.