الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التعليم العربي والحكومة *
- 10
-
وأما بعد، فهذه فصول، بعض أجزائها حكاية صادقة، وبعضها تجريح مؤلم، وبعضها رأي صريح، وبعضها نقض هادئ. وفيها جمل ثائرة، وكلمات بالغضب فائرة، وليس فيها تجنّ ولا تعنّت، وليس فيها تساهل في الحق ولا تنازل عن بعضه. فإن عابها البعض بأن فيها تطويلًا في مسألة قصيرة، أو بكاءً في غير مأتم، أو تباكيًا يُشمت العدو، أو أخذًا بقديم من التشكي ينافي روح العصر الذي شبّ عن طوق الصغائر، وخبّ في طلب العظائم والكبائر. فعذر هذا العائب أنه نائم أو غائب، أو جاهل للحال، أو جار مع الخيال.
وكل هؤلاء لم يبتلِ بمثل ما ابتلينا به، من أمّة خدّرها الاستعمار، حتى صيّرها آلات استثمار، ورماها بالجهل وكله علل، وراضها على الأميّة وهي شلل، فنسيتْ نفسها وماضيها، وجهلت حاضرها ومستقبلها، وعميتْ عليها الأنباء، وثقُلت عليها الأعباء، ومن حكومة غلب عليها العناد، وغاب عنها الرشاد، ومن حكام يحكمون العاطفة، وهي غضب وحقد، ويجرون مع الهوى، وهو تشفّ وانتقا، ويخدمون مبدأ، وهو استعمار واستعباد، ومن ابتُلي بمثل ما ابتُلينا به حمد منه الإكثار، واستحسن التطويل، فإن أفاد فهو بيان وتوكيد، أو لا فهو بثّ يريح، ونفث يشفي.
…
أما الحقيقة التي يجب أن تعرفها أمّتنا من هذه المعركة، ويجب أن تشيع فيها شيوع الحقائق المسلمة، ويجب أن يأخذ كل فرد منها حظه من معرفتها، فهي أنها صراع بين الإسلام والمسيحية، ظهرت آثاره في جانبين: في جانبنا بهذا الصبر المستميت، وهذا
* نُشرت في العدد 74 من جريدة «البصائر» ، 4 أفريل سنة 1949.
التصلب الشديد، وفي هذه المقاومة العنيفة التي يعدّها الخوالف تهوّرًا منا وجنونًا، وظهرت آثاره في الجانب الحكومي بهذا التصامّ عن الحق، وهذا التصميم على الباطل، وهذه البرامج التي تظهر كل يوم لحرب التعليم العربي- الإسلامي، ومن فروع هذا البرنامج الواسع- الانهماك في تشييد مئات المكاتب وفتح مئات الأقسام، لتسع أولادنا فتشغلهم بتعليمها عن تعليمنا، وتُعطّلهم عن تعليم مفيد بتعليم ناقص لا يؤهّلهم لشيء من طرق الحياة ووسائلها، وإنما يؤهّلهم لشيء واحد وهو الاستعباد المريح للسيد
…
إذ لا يحصلون من وراء هذا التعليم إلا على كلمات يلوكونها بالفرنسية ويفهمون بها عن الحاكم إذا أمر، وعن المعمّر إذا زمجر، ومن فروعه هذه الأقسام الليلية التي فتحتها الحكومة في هذه السنة، بعد ما مهّدت لها في التي قبلها، وجنّدت فيها جيوشًا من المعلّمين بمرتبات إضافية، لتفتن بها الشبان منا والأحداث عن تعلّم لغتهم ودينهم؛ ومن فروعه هذه المكائد التي تنصبها لطلبة العربية الذين يعرفون القراءة والكتابة لتستهويهم بالوظائف وتُغريهم بالمرتبات.
فهذه- ومثلها كثير- كلها حيل تحوكها الحكومة لتقطع بها الطريق على التعليم العربي الديني، وتسدّ المنافذ على طلّابه. وأين كانت هذه الحكومة بالأمس القريب يوم كان تسعون في المائة من أبنائنا يهيمون في أودية الأميّة؟ أكانت عاجزة بالأمس عما قدرت عليه اليوم؟ إنها كانت بالأمس أقدر منها اليوم على التثقيف العام، وعلى فرض التعليم الإجباري، وكانت أقوى وأقوم، وكانت أنعم بالًا، وأكثر فراغًا. ولكنها كانت مغتبطة بحال المسلم من الجهل والأميّة، وكانت تمهّد له سبيلها، وكانت تتمنّى أن لا يفتح عينه على العلم، وأن لا يفتح عقله للعلم؛ فلما أفاق من غفوته، ونهض من كبوته، وأقبل على الحلم، جاءت تخادعه بهذه البرامج التي ذكرنا بعض فروعها لتلهيه بالقشور عن اللباب، وتُريه النافذة وتمنعه من ولوج الباب.
فلتحذَر الأمّة هذه المظاهر الغرّارة فإنها كالسراب، يخدع الظامئ ولا يرويه. وإن مثل الحكومة كمثل الشيطان إذ قال للإنسان أكفر، فلما كفر قال إني بريء منك.
إن الحكومة تعتمد، في الوصول إلى غايتها في هذا الباب على الساحر الأكبر وهو المال، تغوي به وتُغري وتغرّ، وتخيّل إلى الناس من سحره أنها تنفع وهي تضرّ، وإذا رجع الأمر إلى المال فالحكومة هي الفائزة بلا شك. لأن المال بيدها لا بيدنا. فلم يبق للأمّة من سلاح تدافع به الحكومة وتُبطل به سحر المال إلا الإيمان والكرامة والعزيمة والإصرار، وهذه كلها من أوائل ما يغرسه الإسلام في نفس المسلم.
…
إن الذين ينظرون من الأشياء إلى ظواهرها، ويقفون عند السطحيات، ويرون أن هذا الصراع أمر عاديّ مما يقع بين الحاكم والمحكوم، إذ كان أمر الأول لا يقوم إلا على
القوّة، وعلى العنف في تلك القوّة، وكان أمر الثاني لا يستقيم لحاكمه إلا بالخضوع والانقياد؛ فإن خرج عن هذا الطور فإلى المقاومة، ما أمكنت المقاومة؛ فإن تمرّد أحيانًا فلكي يستريح من العذاب النفسي؛ فإن زاد فذلك عرق الحرية ينبض في القلب أو في اللسان، لتثبت وجودها، ولتدل على نفسها بنفسها.
أما المتعمّقون في التفكير فيرون أن هذه المعركة غير عادية، وإنما شأنها ما ذكرناه، وهو أنه صراع بين الإسلام والمسيحية. فالحكومة- وإن كانت لائكية في الاسم- مسيحية في المعنى والنسبة والأعمال والمظاهر، والاستعمار كله مسيحي، يخفي ذلك ما يخفيه فتفضحه الشواهد والشهود؛ والعنصر اللاتيني في هذا الباب هو إمام الأئمة وقطب الأقطاب.
إن إلحاحنا في المطالبة بحرية التعليم العربي، وبحرية المساجد وإرجاعها مع أوقافها إلى أهلها، وباستقلال القضاء الإسلامي عن القضاء الفرنسي، لأن هذه الثلاثة هي بعض حقوقنا في الحياة، ولا يكمل الجانب الديني منها إلا بهذه الثلاثة مجتمعةً متلازمةً؛ وحرية التديّن حق طبيعي لكل إنسان، وليست الحياة الدينية هي كل حقوقنا. بل هناك الحياة الدنيوية، أو الحقوق السياسية، وهي حق طبيعي أيضًا لنا ولكل إنسان. أثبته الله، ويريد الاستعمار محوه. وما أثبته الله فما له من ماح.
هذه الحقوق السياسية هي نقطة الإشكال في نظر الاستعمار، فهي التي تقضّ مضجعه، وتفسد عليه تخيلاته، وترميه بالمقعد المقيم؛ حتى أصبح يتوهم أن كل صيحة هي دعوة إليها، وأن كل لفظة كناية عنها. وأن كل طريق مؤدّية إليها؛ وحكومة الجزائر سادنةُ الاستعمار، بهذه الديار، مصابة بعارض مزمن، من هذا الخيال المزعج، فهي تصرفنا عن حقوقنا السياسية بكل صارف، وهي تود- بجدع الأنف- أن تمنعنا من التفكير فيها؛ ولو استطاعت لمنعت طيفها أن يلمّ بنا في المنام؛ وهي لذلك تسدّ الذرائع الموصلة إليها، وتحاربنا في الوسائل، لتصدّنا عن المقاصد؛ وهي لذلك تتعمّد إقحام السياسة في كل أعمالنا، وتسمّي كل شيء مما نقول ونعمل سياسة، حتى قراءة القرآن وتأدية الصلاة والصوم والحج، وهي لذلك تدُسّ أنفها في كل أمر ديني، فتتمسّك بالمساجد وأوقافها، وتتحكّم في رجالها، وتسيطر على الحج ووسائله، و (تحجّج) كل عام متصرّفًا فرنسيًا وقائدًا نصف فرنسي وعدة أعوان جواسيس، لتشكّل منهم في سفينة الحج (حوزًا ممتزجًا)(1) بجميع خصائصه وأشخاصه، حتى يشعر المسلم الجزائري أن يد الاستعمار لا تفلته في البر والبحر، وفي مكة والمشاعر
…
1) الحوز الممتزج، هو كل ناحية في القطر الجزائري، سكانها مسلمون، أو معظم سكانها مسلمون، ويُسَمّيه الفرنسيون: Commune mixte، والمتصرّف هو الحكم المستبد الذي يحكم هذه الناحية ويسمّونه: Administrateur، والقانون الذي يستمد منه أحكامه هو قانون الأخذ بيمينه الذي يبيح له أن يضرب الأهلي ويسجنه بغير محاكم.
إن الحكومة تسمّي أعمالنا الدينية سياسة لتحاربنا بذلك، كما يلبس القوي خصمه الضعيف لباس الجندي، ويقلّده شبه سلاحه ليقول للناس: إنه جندي، وإنه شاكي السلاح، وإنه مقاتل. وإنه يريد أن يقتلني فيستبيح بذلك قتله
…
ووقفنا عند حدود المطالبة بالحقوق الدينية الطبيعية فلم يعن ذلك شيئًا، وتدرّجنا من اللين إلى الشدّة، فلم ينفعنا ذلك فتيلًا، وجارينا الظروف أحيانًا، فلم يجدِ ذلك نقيرًا، وجاوزنا الحدود أحيانًا، لنستعين بشيء على شيء ولنتخذ من الأشدّ وسيلةً للأخفّ فلم يفد ذلك قطميرًا، وتطوّر الزمان وتطوّرت الأمّة، وتعدّدت المقتضيات، ولكن الحكومة جامدة ودار ابن لقمان على حالها؛ ورجعنا إلى تجارب ربع قرن ندرسها، ونعتصر منها ما نجعله أساسًا لأعمالنا من جديد، وقاعدةً لمستقبلنا ومستقبل ديننا ولغتنا وأبنائنا، فكانت نتيجة الدرس أنه لا أظلم من الظالم إلا من يخضع لظلمه ويحترم قوانينه الظالمة.
أما الرأي الشجاع العاقل الحصيف الموزون بميزان العدل والحق، ولا يضيره أن يكون هو الرأي الأخير، ولا أن يكون رأيَ (العبد الفقير). فهو أن نجمع ونصمّم، ونعتمد على أنفسنا، ونتوكّل على ربّنا، ونتعلّم ديننا ولغتنا وكل ما يخدمهما من علوم وفنون، من البدايات إلى النهايات. لأن ذلك ألزم لحياتنا ووجودنا من الطعام والشراب. ولا نبالي بمخلوق يقف في الطريق، ولا بحقود يغصّ من حقده بالريق.
واذلّاه
…
واذلّاه
…
أما يكفينا ضعةً وهوانًا أن نستجدي ونمد أكف (الشحاتين) في شؤون ديننا؟
لا استجداء في الدين بعد اليوم- أيتها الأمّة- إن كنت مؤمنة بالله واليوم الآخر، وبمحمد وبالقرآن، وعفا الله عما سلف من ذلك.
أما نحن فقد كنا علماءَ دين، ودعاة علم وتربية، وزرّاع خير ورحمة، ولكن الحكومة تعدّ هذا كله سياسة، وتعتبرنا لأجله سياسيين: فليكن ذلك، ولنكن علماءَ وسياسيين، ولنكن كل شيء ينفع أمّتنا ويحمي ديننا ولغتنا.
ما دمتَ لا تجد صاحبك إلا حيث تكره، فمن العدل أن لا يجدَك صاحبك إلا حيث يكره.