الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القضية ذات الذنب
…
الطويل *
- 2
-
…
وها هم أولاء قد وضعوا القضية في جدول أعمال المجلس الجزائري، ولا نبحث عن الدواعي لهذا (الاستعجال) لأننا نعلمها، وخطب رئيس المجلس في جلسة الافتتاح فذكرها، وهو- في هذه الدورة- مسلم، فهل يرجو الراجون أن يكون من اسمه ودينه وجنسه أعوانٌ لرئاسته على فصل هذه القضية على وجه يرضي هذه العناصر الأربعة فيه؟ وخطب الوالي العام في ذلك الافتتاح فذكرها وخصها بالتنويه من بين أعمال المجلس، ونحن نعلم أن الخطبتين تحدّرتا من غمام واحد، أو نحتتا من معدن واحد، وأن ما تمنع الكياسةُ ذكرَه في خطبة الوالي يُباح ذكره في خطبة الرئيس، لذلك قرأنا في خطبة الرئيس من التعريض بنا ما لم نقرأه في خطبة الوالي، ونشهد أنه تعريض لطيف في ذوقنا، وإن كان خشنًا في قصد الرئيس.
وبادر المجلسُ فألّف اللجنة التي تنظر القضية وتبحثها، ونشر أسماءَ رجالها من القسمين (1)، وتسامح في هذه المرّة فأدخل في اللجنة رجالًا كانوا مذودين عن حياض اللجان، فكأن طائفًا من الديمقراطية طاف بهذا المجلس، أو كأن خاطرةً من الوحي تنزّلت عليه، أو كأن هاتفًا من وراء الغيب هتف به: أنْ أثبتْ وجودَك
…
فإن استطاع المجلس أن ينقل القضية من ذيل الجدول إلى رأسه، اتّحدت القرائن على أن هناك اتجاهًا جديدًا ولو في هذه القضية بخصوصها، وكل الفضل في هذا الاتجاه راجع إلى الظروف.
…
* نشرت في العدد 176 من جريدة «البصائر» ، 15 ديسمبر سنة 1931.
1) من القِسْمَين: كان المجلس الجزائري مؤلفًا مناصفة من الجزائريين والفرنسيين.
ولكل عاقل أن يسأل: لماذا يتوقف هذا المجلس في هذه القضية على تقديم الحكومة إياها وعرضها عليه؟ مع أن البرلمان الفرنسي وكل تنفيذها إليه لا إلى الحكومة، ولماذا يتربّص بها هذه المدّة الطويلة؟ مع أنها أهم من جميع القضايا التي عُرضت عليه في خلال السنوات الثلاث الماضية، والجواب معلوم، يكاد لوضوحه أن يحكمَ على السائل بأنه
…
غير عاقل.
ومع كل هذه البوادر فإننا لا نظن أن الحكومة جادّة في فصل القضية فصلًا نهائيًّا تبتّ فيه الحبال، وتقطع العلائق، وتقيم به العدل في نصابه، وتسوّي به بين الأديان، وتُرضي به أمة كاملة مطالبة بحقها، جادّة في الحصول عليه
…
لا نظن ذلك بها
…
لأن لها طبعًا غير الطبائع، ولأن لها في هذه القضية تاريخًا حافلًا بالمداورات، ولأن لها سمعًا ألف التصامّ عن سماع كلمة الحق حتى صمّ بالفعل؛ ومن أراك من نفسه الإصرار على الباطل، وهو يعلم أنه باطل، فقد أرشدك إلى عدم الثقة به إن ادّعى أنه رجع إلى الحق، ولا نظن أن المجلس يستطيع أن يفعل في القضية شيئًا، ما دام زمامه في يد الحكومة، وما دام غيرَ مستقل الإرادة.
…
إن الأصلَ في هذه المجالس أنها تصارع الحكومات، وتناقشها الحساب، وتردّها إلى الصواب، وتحارب النزعات الفردية، كل ذلك لأنها تأوي من الأمّة إلى ركن شديد، أما المجلس الجزائري فإن شأنه غريب، وأمره عجيب.
إننا- مع احترامنا لأشخاص هذا المجلس- لا نسكت عن الانتقاد لوضعه ولأعماله، ولا نمسك عن سوْق النصائح إليه، وإن كانت مرّةً في ذوقه، ثقيلةً على سمعه، ولا نتملّقه ليكون في جانبنا أو يجريَ على هوانا، فإننا قوم لا نرضى أن تكون لنا منّة على الحق، ولا نرضى أن تكون لأحد علينا منّة في الإعانة على خدمة الحق، لأن الحق للجميع، وفوق الجميع، وإنه لا خصم لنا في هذه القضية نحاول الانتصارَ عليه، وإنما نحاول نزع حق من غاصب وهو الحكومة، وإرجاعه إلى صاحبه وهو الأمّة، فمن أعاننا في هذا السبيل فقد أعان الحق وأعان الأمّة وأعان نفسه.
…
أصبحنا لا ندري أهما شيئان أم شيء واحد. هذه الحكومة بصبغتها وأعمالها، وهذا المجلس بوضعه وتشكيله، وأسباب تشكيله، ووسائل تشكيله، الأسماء تختلف، والعلائق تأتلف، والأوضاع غريبة، واللبيب يفهم.
ولقد كنا نسأل فصلَ الحكومة عن الدين، فطوّحتْ بنا التصاريف إلى حالة أوشكنا معها أن نسأل فصل الحكومة عن المجلس، لأن تحرير المجلس من سيطرة الحكومة عليه هو الخطوة الأولى في فصل الدين عن الحكومة.
إن الشرط الأساسي للفصل أن لا يكون للحكومة برنامج خاص في القضية، وأن لا يكون للموظفين الدينيين برنامج خاص فيها، لأنهم أبناء الحكومة، وللأب حق الاعتصار في بعض أموال بنيه، أو لأنهم عبيدُها، والعبد وما ملك لسيّده.
أما إذا كانت الحكومة تقدّم للمجلس ملف القضية، وفيما هو (ملفوف) فيه برنامجها الخاص، وعلى أحد وجهيه طابع الرغبة، وعلى الآخر طابع الرهبة، وكأنه لباسُ جندي، يزعج بشارته، قبل أن يزعج بإشارته، وكأنه يقول للمجلس:"نفذني لأني برنامج الحكومة" ثم يستشهد ببرامج الأنصار التي تشهد له (وقد قرأنا منها ثلاثة). أما إذا كان الأمر هكذا فهو أكبر دليل على أن الحكومة لا تنوي الفصل، وإنما تنوي ضده، وما هذه الحركة الجديدة منها إلا فعلة من فعلاتها المعروفة التي تذرّ بها الرماد في العيون، وتطيل بها العلل، حتى تجلب للعاملين الملل.
نذكّر المجلس بأن الفصل مقرّر في صُلب الدستورين الفرنسي والجزائري، فليس له ولا من وظيفته النظر فيه، ونحذّره من هذه الأحابيل التي تلبس الحق بالباطل، فتخيّل إليه أن هذه الكيفية فصل، وما هي إلا الوصل القديم أعوزته شهادة رسمية قانونية، فجاء يلتمسها من المجلس بالحيلة
…
...
أما نحن فما زلنا في هذه القضية على مذهبنا القديم، لم يتغيّر لنا فيها رأيٌ، ولم يتجدّد لنا فيه نظر، وأنَّى يتغيّر الرأي أو يتجدّد النظر في قضية دينية إلهية، تضفي على كل ملابساتها لبوس الدين الذي لا تغيّره الأزمنة، ولا تؤثّر فيه الأحداث، ولا تتجدّد فيه النظريات، والدين السماوي كالسماء: علو وصفاء، وظهور بلا خفاء، وحقائق ثابتة، ونسب غير متفاوتة، وحركات منظّمة، وأحكام مقوّمة، فإن خفيت السماء فمن الغيم، وهو من الأرض، وإذا خفيتْ حقائق الدين فمن الجهل أو من الضيم، وهما من سوء العرض، وكما أن السماء نور تحجبه الأرض عن نفسها، فالدين السماوي رحمة يحيلها البشر نقمة وشرًّا بما تكتسب أيديهم من موبقات، وتبتكر عقولهم من ضلالات.
وقد شرحْنا هذه القضية فيما رفعناه إلى الحكومة من مذكرات، وآخرها مذكّرة ماي سنة 1950، وفيما كتبناه على صفحات هذه الجريدة، وإنه لكثير، وبينا الحقائق، وأقمنا
الأدلّة، وضربنا الأمثال، وبسطنا الحلول وقرّبناها إلى الأذهان، فكنا في ذلك كله كمن ينادي صخرة صمّاء، فإذا دلّت هذه الحركة القائمة اليوم على أن الآذان تفتّحت لسبب ما فإننا سنلقي فيها اليوم ما ألقيناه أمس.
لم نزل واقفين عند حدود مذكّرتنا في ماي سنة 1950 لم نتقدم عنها ولم نتأخر، فإن كان عندنا جديد، فهو أن كل حلّ يبقي للحكومة أثرًا في شؤون ديننا فهو حل باطل، وأن كل فصل ينطوي على الحيلة فهو- في نظرنا- لغو، لا يقنعنا ولا يرضي الأمّة، وأن كل تشريك للموظفين الدينيين في الرأي والنظر فهو تشريك للحكومة، كما حققناه في تلك المذكّرة.
…
إن الفصل الحقيقي الذي نريده هو تسليم الدين الإسلامي إلى أهله المسلمين، فإن أحسنوا فيه فلأنفسهم، وإن أساؤوا فعلى أنفسهم، كما يفعل المسيحي في دينه، واليهودي في دينه، وكذَب وفجر من زعم أننا دعاة فوضى، وهل في العالم من يمجّد النظام مثل المسلم الذي راضه الإسلام على آدابه وتعاليمه؟ وهل يوجد أحكمُ من ذلك النظام الذي بينّاه وأشرنا به في مذكّرتنا؟ وكذَب وفجر من ادّعى أننا مختلفون في أصل ديننا، فإن كان بيننا خلاف فهو من آثار الاستعمار، لا من آثار الإسلام، والحكومة الاستعمارية هي زارعة الخلاف بيننا، وهي التي تسقيه كلما ذبل، وتغذّيه كلما ضعف، وكذَب وفجر من قال إن جمعية العلماء تريد احتكار القضية لنفسها، وما جمعية العلماء إلا الأمّة المسلمة، وما أعمالها إلا تثبيت الإسلام، والدفاع عنه، فإن وُجد في الأمّة من يخالفها اليوم فسيوافقها في الغد القريب، لأنها تدعو إلى القرآن، وأي مسلم يخالفها في هذا؟ وتدعو إلى سنة محمد، وأيّ مسلم ينكر عليها هذا إلا من ينطق بلسان الاستعمار؟
…
كلّ فصل على دغل فنحن ننكره ونحاربه، وسنتمادى على مقاومتنا له، وسنبقى- كما كنا- عاملين على تحرير ديننا، ننتقل مع خصومنا من ميدان إلى ميدان، حتى نلقى الله أو يحكم بيننا وبينهم بالحق، وهو خير الحاكمين.