الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إستهلال *
اللَّهُمَّ بِاسْمِكَ نَبْتَدِي، وبِهَدْيِكِ نَهْتَدِي، وَبِكَ يَا مُعِينُ، نَسْتَرْشِدُ وَنَسْتَعِينُ، وَنَسْأَلُكَ أَنْ تُكَحِّلَ بِنُورِ الْحَقِّ بَصَائِرَنَا، وَأَنْ تَجْعَلَ إِلَى رِضَاكَ مَصَائِرَنَا، نَحْمَدُكَ عَلَى أَنْ سَدَّدْتَ فِي خِدْمَةِ دِينِكَ خُطُوَاتِنَا، وَثَبَّتَّ عَلَى صِرَاطِ الْحَقِّ أَقْدَامَنَا.
وَنُصَلِّي وَنُسَلِّمُ عَلَى نَبِيِّكَ الَّذِي دَعَا إِلَيْكَ عَلَى بَصِيرَةٍ، وَتَوَلَّاكَ فَكُنْتَ وَلِيَّهُ وَنَصِيرَهُ، وَعَلَى آلِهِ الْمُتَّبِعِينَ لِسُنَّتِهِ، وَأَصْحَابِهِ الْمُبَيِّنِينَ لِشَرِيعَتِهِ.
اللَّهُمَّ يَا نَاصِرَ الْمُسْتَضْعَفِينَ انْصُرْنَا، وَخُذْ بِنَوَاصِينَا إِلَى الْحَقِّ، وَاجْعَل لَّنَا فِي كُلِّ غَاشِيَةٍ مِنَ الْفِتْنَةِ رِدْءًا مَنَ السَّكِينَةِ، وَفِي كُلِّ دَاهِمَةٍ مِنَ الْبَلَاءِ دِرْعًا مِنَ الصَّبْرِ، وَفِي كُلِّ دَاجِيَّةٍ مِنَ الشَّكِّ عِلْمًا مِنَ الْيَقِينِ، وَفِي كُلِّ نَازِلَةٍ مِنَ الْفَزَعِ وَاقِيَّةً مِنَ الثَّبَاتِ، وَفِي كُلِّ نَاجِمَةٍ مِنَ الضَّلَالِ نُورًا مِنَ الْهِدَايَةِ، وَمَعَ كُلِّ طَائِفٍ مِنَ الْهَوَى رَادِعًا مِنَ الْعَقْلِ. وَفِي كُلِّ عَارِضٍ مِنَ الشُّبْهَةِ لَائِحًا مِنَ الْبُرْهَانِ، وَفِي كُلِّ مُلِمَّةٍ مِنَ الْعَجْزِ بَاعِثًا مِنَ النَّشَاطِ، وَفِي كُلِّ مَجْهَلَةٍ مِنَ الْبَاطِلِ مَعَالِمَ مِنَ الْحَقِّ الْيَقِينِ، وَمَعَ كُلِّ فِرْعَوْنَ مِنَ الطُّغَاةِ الْمُسْتَبِدِّينَ مُوسَى مِنَ الْحُمَاةِ الْمُقَاوِمِينَ.
*ــ*ــ*
وهذه جريدة «البصائر» تعود إلى الظهور بعد احتجاب طال أمدُه، وكما تعود الشمسُ إلى الإشراق بعد التغيب، وتعود الشجرة إلى الإيراق بعد التسلب، فلا يكون اعتكارُ الظلام، وإن جلل الأفقَ بسواده، إلا معنًى من معاني التشويق إلى الشمس، ولا يكون صر الشتاء،
* نشرت في العدد 1 من جريدة «البصائر» ، 25 جويلية سنة 1947.
وإن أعرَى الأشجار باشتداده، إلا خزنًا لقوة الحياة في الأشجار، والشمس موجودة، وإن غابت عن نصف الكون، والشجرة حية، وإن أفقدها الصرّ جمالَ اللون، كذلك صحيفة «البصائر» ، احتجبتْ صورتها عن العيان، وإن كانت حيةً في النفوس، ممثلة في الأفكار، وإن في احتجابها لصُنعًا إلهيًّا، يدركه أيقاظ الشواعر، وأحياء الضمائر، وهو إذكاءُ الشوق إليها، فقد كان الشوق إليها يتجدد في أخريات كل أسبوع، فتطفئه قعقعة البريد، واتصالُ المراد بالمريد، فأصبح الشوق إليها- بعد احتجابها- يتجدد في كل يوم.
ولقد اشتدّ شوقُ العالم الإصلاحي إلى جريدته، واتصل حنينه، وطال انتظاره، وأصبح - لتعلقه بها- يوجه العتابَ القاسي إلى المسؤولين عنها. لأنه كان يرى فيها مددًا من النصرة وفيضًا من القوة، وكانت أعدادُها تحمل إليه حقائقَ الدين الإسلامي، ونفحات البيان العربي، وكان يرى من مقالاتها صواعق مرسلةً على المبتدعة والظالمين، ويجدُ في قراءتها سلوةَ الظاعن وأنسَ المقيم.
إن «البصائر» في حقيقتها فكرةٌ استولت على العقول، فكانت عقيدةً مشدودةَ العقد ببرهان القرآن، ثم فاضت على أسلات الألسنة فكانت كلامًا مشرقَ الجوانب بنور الحكمة، ثم جاشت على أسنة الأقلام، فكانت كتابةً في صحيفة، والذي تعطل من «البصائر» إنما هو المظهر الأخير من مظاهرها، وما كان للظلم وإن مَدّ مده، وجهد جهدَه، ولا للحوادث وإن بلغت الغايةَ من الشدة أن تنال من العقائد نيلًا، وإنما تصيب الألسنة بالسكات إلى حين، وتبتلي الأقلامَ بالتحطيم إلى أوان، وإن الصحف في لسان العرف كالصحائف في لسان الدين، منها صحائف الأبرار، وصحائف الفجار، لذلك كان من حظ الأولى الابتلاءُ بالتعطيل والتعويق.
…
جريدة «البصائر» هي أحد الألسنة الأربعة الصامتة لجمعية العلماء، تلك الألسنة التي كانت تفيض بالحكمة الإلهية المستمدة من كلام الله وكلام رسوله، والتي كانت ترمي بالشرَر على المبطلين والمعطلين، وكانت كلما أغمد الظلمُ لسانًا منها سل الحق لسانًا لا ينثلم ولا ينبو، وتلك هي: السنة، والشريعة، والصراط، والبصائر: أسماءٌ ألهم القرآنُ استعمالها، وفصَّلت القرائح الملتهبة، والأقلام المسددة إجمالها، وصدق واقعُ العيان فالها، وما زالت جمعية العلماء تتلمح العواملَ الإلهيةَ في كل ما تأتي وما تذر، وتستند على الإلهامات الربانية حتى في أسماء صُحفها، ولا مكذبةَ فما أخطأها التوفيق ولا مرة.
وإذا كُتبَ للصُحف الثلاث الأولى أن تستشهدَ في المعترَك، وهي في ميعة الصبا، مقبلةً غيرَ مدبرة، لم تخِس بأمانة، ولم تُزَنّ بخيانة، فقد قدر "للبصائر" أن تعمر وأن تحتك بالزمن
وأحداثه سنين، فكمُلت الخبرة واستحكمت التجربة، وكان تعطيلها لأوائل هذه الحرب مثلًا شرودًا في الحفاظ والإباء، ومنقبةً بكرًا في الكبرياء والعزة، ذلك أنه لما تجهَّمت الأيام، وتنكرت الأحداثُ، واستبهمت المسالك، ولوّح لها أن تجريَ على ما يراد منها، لا على ما تريد، قالت ما قالته الزباءُ قبلها "بيدي لا بيد عمرو"، وخار الله للقائمين عليها في ذلك التعطيل، كما خار لهم من قبل في تقرير السكوت (1)، ولعمري ان التعطيل لخيرٌ من نشر الأباطيل.
إذ "تقرير السكوت" من غرر أعمال جمعية العلماء، ومن آرائها التي تشظَّتْ عنها صدَفةُ الحكمة، ومن شواردها التي لا تضاد إلا ببعد النظر، فقد وقاها ذلك التقرير مزالقَ لا يتلاقى فيها رضا الله برضا المخلوق، ولقد كانت الجمعية تعلمُ أن القوةَ التي تستطيع الإسكاتَ لا تستطيع الإنطاق، ولأنْ يسكتَ العاقل مختارًا، في وقت يحسن السكوت فيه، خير من أن ينطق مختارًا في وقت لا يحسن الكلام فيه، وكل نَطْقة تمليها الظروف لا الضمائر تثمر سكتةً عن الحق، ما من ذلك بدّ.
ألا إن فرسانَ الكلام والأقلام، كفرسان النزال والعراك في كثير من الخصائص، وكما أنّ الكمي المعلم يضيق بالفاقة ذَرعه، فتهون عليه بيضته ودرعه، وهيهات أن يهون عليه سيفه ورمحه، لأن وظيفة البيضة والدرع أن يحفظا على الكميّ في ساعة الروعْ مهجته، وهي أهونُ مفقود في تلك الساعة. أما وظيفة السيف والرمح فهي الإنكاءُ في العدو، والإنكاء في العدو هو الغاية التي تنتهي إليها شجاعة الشجاع. كذلك حملةُ الألسنة والأقلام يجبُ أن يكونوا، ليحققوا التشبيه الذي تواطأت عليه آداب الأمم، فلتأتهم المصائب من كل صوب، ولتنزل عليهم الضرورات من كل سماء، وليخرجوا من كل شيء إلا من شيئين: القلم واللسان
…
إن بيع القلم واللسان أقبحُ من بيع الجنديّ لسلاحه.
إن جمعية العلماء حين قررت السكوتَ حافظت على هذين ولم تتسامح في تسخيرهما لأحد، وتركت أحداثَ الدهر تعملُ عملها، على أنها ما سكتتْ عن درس ديني أو علمي، ولا عن نصيحة رشيدة، ولا عن موعظة حسنة، وإنما قررت السكوتَ عن كل ما يقال لها فيه: قولي.
1) لما أعلنت الحرب العالمية الأخيرة اجتمع أعضاء المجلس الإداري لجمعية العلماء ليقرروا ما يلزم لمستقبل الجمعية احتياطًا لأنهم خشوا أن تمنعهم التدبيرات العسكرية من الاجتماع واللقاء في أثناء الحرب فيكون كل عضو محبوسًا في بلدته وربما كلف كل عضو بتصريح أو بإبداء رأي لا يتفق مع مبادئ الجمعية، فاتفقوا على تقرير السكوت سدًّا للباب بمعنى أن كل من سئل وحده أو كلف بشيء مما يرجع إلى الجمعية سكت ولم يجب بشيء.
ولقد جاذبني أطرافَ هذه القضية في الأشهر الأولى من بداية الحرب كبير من رجال الحكم، كان يضم يديه على سلطة واسعة، مدنية وعسكرية، وألحّ عليّ، في صراحة- أن أخرج من الصمت إلى الكلام باسمي أو باسم الجمعية- (وهو يعني سكوتًا خاصًّا وكلامًا خاصًّا) فقلت له من كلام طويل: إننا كنا في السلم نتكلم فيُقلقُكم كلامُنا، وإننا سكتنا في الحرب فأقلقكم سكوتنا، ففي أيّ موضع نكون بين هذين؛ وتنبه ضميره الإنساني عند سماع هذا الكلام فلمحتُ عليه آثارَ الاقتناع، ولكن ضميره العسكري أبى عليه إلا أن يجرِيَ بالمسألة إلى آخر الشوط.
وإن الإنصاف ليتقاضاني- وقد مرت على المحاورة سبعُ سنين- أن أذكر له لطفَ الحديث وأدبَ الخطاب وتمجيد الصراحة، ولا أحاسبه على الضمير العسكري، لأنني أعلم أن الاستعمار يشرك بين الأقوياء والضعفاء في إفساد الضمائر.
…
هذا فصل قصير تحكيه «البصائر» من تاريخ حياتها الأولى ومن حسن الختام لتلك الحياة، فخورةً مزهوةً بأنها بذَّتْ أخواتها الشهيدات بما جلتْ من محاسن الإسلام والعربية، وبما جاهدتْ في سبيلهما، وبما مهدتْ للإصلاح الديني من عقبات، وبما لقيت في صراع الاستعماريْن الروحي والبدني من مكاره، وبما حوته حقيبتها من ذخائر العبر والتجاربب، وبما قدمتْ من صالحات لحياتها الثانية.
…
كنا نعلم مبلغ تشوّف الأمة إلى جريدتها، وكنا معها نعلل النفسَ بالآمال، فلما أحيينا سنةَ الاجتماعات العامة السنوية في السنة الماضية أعلنا للأمة وعدًا بإصدار «البصائر» أولًا، و"الشهاب" ثانيًا، وضربنا لذلك موعدًا محدودًا قدرناه بإعداد العدد اللازمة.
فتهللت أسرّةُ السامعين، وطفح البشرُ على وجوههم، وتنوقلت الأحاديث بتلك البشرى في القطر كله، فانتعشت الآمال، وجليت الأقلام التي علاها الصدأ من طول ما أغمدت، وما كنا حين وعدنا بهازلين ولا معللين، وإنما كانت دواعي الرجاء عندنا غالبة، وقوة التصميم والحزم فينا متوفرة، وما تجلت لنا الحقائق من أول مرحلة، وهي الحصول على الرخصة، إلا بعدَ أن شرعنا في إعداد العدة لإنجاز الوعد، فكذبتنا الظنون، واعترضتنا المعاكسات القانونية، ولما ألغي اشتراط الرخصة أبقت بعدها ما يقوم مقامها في التعسير والإرهاق، وهو الورق الذي لا يعطى إلا (برخصة) فحاولنا الحصولَ عليه ولكن بغير جدوى،
ثم جاءت ثالثة الأثافي، وهي المطبعة، وفي هذه المحاولات التي حاولناها بحرص ونشاط انقضت سنة كاملة، ومن العبث أن نطيلَ القولَ فيها، وأن نعيدَ الحديثَ عنها والتشكي منها.
…
ها إن نومة «البصائر» - على طولها- أصبحتْ كإغفاءة المهموم في قصرها وفائدتها بفضل الصبر والأناة، وها هي ذي عادت إلى الحياة، ووخزتها الخضرة من جوانبها، فسلوها كيف تركت جمعية العلماء وكيف وجدتها؛ وسلوها حين فتحت عينيها عن الوجود الثانى، ماذا عرفتْ وماذا أنكرتْ من الناس والأحوال؛
أما عن الناس وأحوالهم فقد عرفتْ هذا الشعورَ الفياضَ من الأحياء المستضعفين بحقهم في الحياة، وهذا الإصرارَ الدائبَ على المطالبة به، وهذا المنطقَ الحكيمَ الذي يترجم تلك المطالبة، وهذا البغضَ المتأججَ للاستعمار وحماته، والاستعباد ودعاته، وهذا الإجماعَ المنعقدَ بين الضعفاء على الأخذ بتلابيب الأقوياء، حتى يؤدوا الحق إلى طلابه، كأن الضعف رحمٌ شابكة بينهم، فهم يتباروْن في وصلها والبر بها، إلى كيت وكيت مما أيقظته المصائب بعد همود، وأذكتْ نارَه الحوادث بعد خمود، وكان ليد الله فيه الأثر الذي لا ينكر.
وأنكرتْ هذا الجفاف الذي انتهى بعواطف الأقوياء إلى درجة التحجر، وهذا التنمر الحيواني الذي يظهره الاستعمار ليخيف به الفرائسَ حتى تسكنَ إلى حين، وهذه الديمقراطية الزائفة التي اتخذها أدعياؤها حبالة صيد، ووسيلة كيد. ولاكوها بألسنة مقطوعة الصلة بالقلوب، وأصبحت في أفواههم كالعلك يمضَغ ولا يزدرد، وهذا النفاقَ السياسي الذي غطى على فضيلة الصراحة، فلم يصفُ معه ضمير، ولم يصدق معه لسان، ولم تثبت عليه ثقة، وهذه الأساليب الإدارية العوجاء التي فضحها الحق فما زادت في مقاومته على أن فضحتْ نفسها، وأنكرتْ- آخرَ ما أنكرت- هذا الجو القاتم الذي منع الراحةَ والهدوءَ، وسلب السكونَ والاطمئنان، وبعث القلقَ والاضطراب إلى هنات وهنات، أسخفها معاملة الإدارة الجزائرية لجريدة «البصائر» . فقد مرت سنةٌ و «البصائر» تطالب بحقها في الحياة، وحظها من الورق، ولم تحصُل بعدَ هذا الزمن الطويل على طائل.
هذا بعض ما عرفت «البصائر» وأنكرتْ من الناس وأحوالهم؛ فأما جمعية العلماء وكيف كانت وكيف هي الآن، وما هي مواقفها في مبادئها وما يمس مبادئها، فهي الميادين التي حَييتْ جريدة «البصائر» لاقتحامها، فانتظروا فستُجلّي لكم الحقائق كما هي، وستفضح المخبآت التي كثر فيها لغط اللاغطين، وستكشف الدعاوى الزائفةَ التي تجري بها ألسنة المضللين.