الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حقوق الجيل الناشئ علينا *
…
للجيل الآتي علينا حقوق أوّلية مؤكّدة، لا تبرأ ذممنا منها عند الله، ولا تسقط شهادة التاريخ علينا بها، إلا إذا أدّيناها لهم كاملةً غير مبخوسة؛ وملاك هذه الحقوق أن نعدّهم للحياة على غير الطريقة التي أعدّنا بها آباؤنا للحياة.
الأخلاق والآداب والأفكار والإحساسات والاتجاهات العامة والمشخّصات الخاصة، هي "الأمتعة" التي يرثها جيل عن جيل، ومنها يتكوّن مزاجه صحةً واعتلالًا، فماذا ورثنا عن آبائنا؛ وماذا نورّث أبناءنا منها؟
ليس من العقوق أن نقولَ: إن آباءنا لم يورثونا شيئًا نافعًا من هذه الأمتعة، وليس من العقوق أن تقول: إن أباك خلفك فقيرًا
…
إذا كان عاش فقيرًا، ومات فقيرًا. بل من الإنصاف لهم أن نقول: إنهم ورثونا هذه الصفقة الخاسرة التي هي رأسُ مالنا اليوم، من أخلاق لا تزنُ جناحَ بعوضة، وآداب لا تستقيم عليها حياة، وأفكار بدائية لا تجول في المدار الواسع من الحياة، وعقول تقدّر فتخطئ، وتدبِّر فتبطئ، وإحساسات مذبذبة، واتجاهات خاطئة مدبّرة؛ وغير ذلك مما تركنا غرباءَ عن عصرنا وأهل عصرنا، وصيّر الحياةَ منا في غير دار إقامة
…
فهل يحسن بنا أن نورّث بنينا هذا السقط من الأمتعة بعد شعورنا ويقيننا بعدم كفايتها للحياة؟
يعذر هذا الجيل الذي نحن منه، بأنه استلم التركة العامة أدوات معطلةً، وأسلحةً مفلولة، وأجهزةً بالية، من جيل انتهى به زمنه إلى درجة من الإفلاس المادّي والأدبي، صيّرته في غير زمنه، ولكنه لا يعذر إذا سلّمها- كما هي- إلى الجيل الآتي ويقترف جريمةَ غش لا تغتفر إذا حمل أوزاره وأوزار أجيال قبله على الجيل الآتي، بعد أن كشف عررها، وتبيّن ضررها.
* نشرت في العدد 145 من جريدة «البصائر» ، 5 مارس سنة 1951.
فتح جيلنا هذا عينه، في ظلمات متضرّبة، بعضها فوق بعض، تتخللها بروق معشية، ورعود صاخة، ثم رجع بصره فإذا ذئاب تتخطف، وصوالجة تتلقّف، وطفيليات أنبتها الدهر في دمنته، ثم رجع البصر كرتين فإذا أمامه مسافاتٌ مما قطع السائرون؛ ثم طلب الحياة، فإذا سبلها وعرة، والصراط إليها أرقّ من الشعرة، وما زال هذا الجيل يتعثّر في أذيال الماضي، ويتخبّط في ظلمائه، ويحمل من أثقاله ما يقعد به كلّما رام النهوض، وإن أثقل ما يعانيه من تلك الأوزار، اختلافُ الرأي حتى فيما تبينت طريقته، ولجاج الفكر حتى فيما ظهرت حقيقته.
حرام علينا أن نرضى للجيل الآتي بما لم نرض به لأنفسنا، وأن نجرّعهم هذا الحنظل الذي تجرّعناه، وأن نلوّث نفوسهم البريئة بهذه القاذورات، وأن نبتليهم بما ابتلانا به آباؤنا من أدواء التفرّق المهلك، والأنانية الكاذبة، والغرور المدلي، والتنكّر للقريب، والخضوع للغريب.
حرام علينا أن نقلّدهم هذه الأسلحة المسمومة فيتفانون كما تفانينا، ويذوق بعضهم بأسَ بعض، ويشقون جميعًا ويسعد بشقائهم الغير.
حرام علينا أن نسلم إليهم شيئًا من هذه التركة التي يجب أن تنفقَ في جهاز الميت فتدفنَ معه ويأمن الأحياء شرّها، إذا لم ينالوا خيرَها.
…
السبيل القويم الذي يؤدي إلى حفظ الجيل الجديد من هذه الشرور المتوارثة، وإلى توثيق عرى الأخوة بين أفراده، وإلى توحيد أفكاره ومشاربه واتجاهاته، وإلى تصحيح فهمه للحياة، وتسديد نظرته إليها، وتشديد عزيمته في طلبها- هو المدرسة العربية التي تصقل الفكر والعقل واللسان وتسيطر عليها، وتوجيه الجيل الناشئ إلى الإسلام والعرب، وإلى الشرق والروحانية، فعلى هذه المدرسة يتوقّف جزء كبير من ذلك الواجب الثقيل، وعليها يتوقف حظ كبير مما نرجوه لهذا الجيل؛ وبهذه المدرسة نستطيع أن نبرئ ذممنا من حقوق أبنائنا وأن نكفر عن سيئات اجترحتها أجيالنا الماضية.
لا نغالط أنفسنا فنزعم لها أن هذه اليقظة البادية الآثار، المتفشية في الجيل القديم، كافية في توجيه الجيل الجديد إلى الخير، وفي توحيد ميوله على الخير؛ أو نزعم لها أن هذا الحظ التافه الذي حصلنا عليه من التعليم الأجنبي يغنينا أو يعيننا في هذا الصدد؛ أو نزعم لها أن الحالة الحاضرة للمدرسة العربية توصل إلى هذه النتيجة المرغوبة.
فاليقظة موجودة، ولكنها لم تصل- بعدُ- إلى الصحو الصاحي، وما زالت تغالبها بقايا من النوم الثقيل الطويل، والتعليم الأجنبيّ- على تفاهته في الكيف وقلته في الكمّ، وعلى اضطرارنا إليه وإقبالنا عليه- يسبقه جهل، وتقترن به آفات، وتعقبه مفاسد، وهو- على ذلك كله- يفتح عينًا، ليعمي عينًا ومن بلغ إلى غايته منّا أصبح بالطبيعة متنكّرًا لماضيه ودمه وقومه، لأن ذلك التعليم وجده فارغًا فملأه بما يشاء هو، لا بما نشاء نحن
…
وأما حالة المدرسة العربية الحاضرة فهي محل الشاهد.
ما هي الغاية من المدرسة العربية الحديثة؟
ما دُمنا من بناة هذه المدرسة، ومن أول الداعين إليها، والقائدين لحركتها، والواضعين لبرامجها، والمشرفين على كل دقيقة وجليلة فيها، والمعرّضين للبلاء في سبيلها، ففينا من الجرأة ما يدفعنا إلى الجواب عن هذا السؤال.
الغاية من هذه المدرسة هي تربية هذا الجيل وتعليمه.
وغاية الغايات من التربية هي توحيدُ النشء الجديد في أفكاره ومشاربه، وضبط نوازعه المضطربة، وتصحيحُ نظراته إلى الحياة، ونقله من ذلك المضطرَب الفكري الضيّق الذي وضعه فيه مجتمعه، إلى مضطرَب أوسعَ منه دائرة، وأرحب أفقًا، وأصحّ أساسًا، فإذا تمّ ذلك وانتهى إلى مداه طمعنا أن تخرج لنا المدرسة جيلًا متلائمَ الأذواق، متّحدَ المشارب، مضبوط النزعات، ينظر إلى الحياة- كما هي- نظرةً واحدة، ويسعى في طلبها بإرادة متحدة، يعمل لمصلحة الدين والوطن بقوة واحدة، في اتجاه واحد.
غاية التعليم هي تفقيهه في دينه ولغته، وتعريفه بنفسه بمعرفة تاريخه، تلك الأصول التي جهلها آباؤه فشقوا بجهلها، وأصبحوا غرباء في العالم، مقطوعين عنه، لم يعرفوا أنفسهم فلم يعرفهم أحد.
فهذه هذه الغاية السامية التي في تحقيقها نجهد ونكدح، وللوصول إليها نعمل، وفي العمل لها نلقى الأذى، وفي الأذى فيها نلقى راحة الضمير واطمئنان النفس، وببلوغها- إن شاء الله- نكون قد أدّينا الأمانة، وقضينا المناسك، وكفّرنا عن جريمة التقصير، وفزنا بالعاقبة فحمدنا السرى.
وبماذا يتم تمامُ هذه الغاية؟
لا يتم هذا على وجهه المثمر إلا بتوحيد منهاج التربية وبرنامج التعليم، ولا يتم توحيد المنهاج والبرنامج إلا بتوحيد الإدارة، ولا يتمّ توحيد الإدارة إلا بتوحيد الإشراف العام، درجات متلازمة سبقتنا بها الأمم التي بنتْ حياتها على تجربة النافع والأخذ بالأنفع، فقطعت الأشواط البعيدة في الزمن القريب.
وهذه هي المعاني التي دعتنا إلى جمع المدارس العربية تحت إدارة واحدة، وإشراف واحد، وإلى حشر المعلمين تحت لواء واحد، لِعِلْمنا أن توحيد الغايات لا يأتي إلا بتوحيد الوسائل.
يسوءنا- والله- ويسوء الحق، أن تكون الحقيقة في هذه القضية أوضحَ من الشمس، وأن يكون رأينا فيها بعيدًا من اللبس، ثم يتمارى بعض الناس فيها فيشاقّوننا في الرأي والعمل، وتأبى بعض الهيئات إلا أن تنفرد بمدرسة أو بضع مدارس، ويأبى بعض أبنائنا الطلبة أن يكونوا إلا ملوكَ طوائف: إمارة بلا عمارة، وزعامة بلا دعامة: كلّ ذلك لدواع من الجبن، أو بواعثَ من الحسد أو دوافعَ من الغرور والأنانية، أو كلّ ذلك مضروبًا بعضُه في بعضه؛ ومن ادّعى منهم خلافَ هذا فلا يصدّقه الناس، لأن قاعدة السبر الأصولي لا تقتضي إلا هذا، لو رزق الله إخواننا هؤلاء عقولًا تزن الأمورَ بعواقبها، وإخلاصًا يذيب الحسد، ويذهب بالأنانية، لعلموا أن الخير كل الخير في الاجتماع، وأنّ القوة كلّ القوة في الاتحاد، وأن الخروج على الجماعة أهلكَ من قبلنا وهم في نهاية القوة. فكيف لا يهلكنا ونحن في نهاية الضعف؟ وأن الثمرات التي نرجوها من المدرسة للجيل الجديد لا تأتي مع هذا التفرّق والتشتيت، وأن من يريد الإصلاح فليدخل فيما دخل فيه الناس، وليعالج- مخلصًا- من الداخل، أما محاولته للإصلاح وهو خارج فليست إلا هدمًا وتخريبًا، وأن الجيل الذي تخرجه هذه المدارس المتغايرة المتنافرة لا يأتي إلا متغايرًا متنافرًا، لا يزيد شيئًا عن خرّيجي الزوايا في العهد القديم، لا يجمعهم من الخلال إلا أبلغها في تفريقهم وهو تعصّب كل تلميذ لزاويته، والحلفُ برأس شيخها، وبئس الجيل جيل يكون هذا مبلغه من التربية والعلم، وبئس المربّون نحن إن رضينا لهم هذه المنزلة.
…
اثنتان يجب توحيدهما وإصلاحهما بحزم وشجاعة وإخلاص، وإلا كنّا جانين على النهضة ومستقبلها، غاشين للأمة في أطفالها وشبابها، متسببين لها في خسارة رأس مالها الضخم، والثنتان هما: هيئات المدارس، وهيئات الكشافة
…