الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مدارس جمعية العلماء *
نجوم متألقة في ليل الجزائر الحالك، منها الكبيرةُ ومنها الصغيرةُ؛ ولكل واحدة حظها من اللألاء والإشراق، وقسطها من الإضاءة لجانب من جوانب هذا الوطن الذي طال في الجهل ليله، وأقام بالأمية ويله.
حياةُ الأمم في هذا العصر بالمدارس، ما في هذا شك، إلا في قلوب ران عليها الجهل، وغان عليها الفساد؛ ونفوس ختم عليها الضلال، وضرب على مشاعرها المسخ، وطال عليها الأمد في الرق، فصدئت منها البصائر، وعميت الأبصار، فتغير نظرها في الحياة ووسائلها؛ فرضيتْ بالدون، ولاذت بالسكون.
الحياة بالعلم، والمدرسة منبع العلم، ومشرَع العرفان، وطريق الهداية إلى الحياة الشريفة؛ فمن طلب هذا النوع من الحياة من غير طريق العلم زل، ومن التمس الهدايةَ إليه من غيرها ضل؛ وحياة الأمم التي نراها ونعاشرها شاهد صدق على ذلك.
تبني الأممُ ما تبني من القصور، وتشيد ما تشيد من المصانع، وتنسق ما تنسق من الحدائق، وتحف ذلك كله بالسور المنيع، فإذا ذلك كله مدينة ضخمة جميلة، ولكنها بغير المدرسة عقد بلا واسطة، أو جسم بلا قلب؛ وإذا ذلك كله إرواء للغرائز الحيوانية، وإرْضاء للعواطف الدنيا بالمتع واللذّات، والتباهي وطلب الذكر؛ أما إرْواء العقل والروح، وإرضاء الميول الصاعدة بهما إلى الأفق الأعلى، فالتمسهما في المدرسة لا في القصر ولا في المصنع، ولو تباهت الأبنية المشيدةُ بغاياتها، وتفاخرتْ بمعانيها لأسكتت المدرسةُ كل منافس.
* نشرت في العدد 93 من جريدة «البصائر» ، 31 أكتوبر سنة 1949.
تغالى خلفاءُ بني العباس في تشييد قصورهم، وعمروها بأسباب الترَف المادّي، ووسائل اللذات الجسمانية، وأسبغوا عليها كل ما يستهوي من جمال وفن، وتسامت همم الخلفاء إلى إظهار جلال الخلافة في البناء والتشييد، فما قصرَ في ذلك منهم أوّلٌ ولا أخير، وباهتْ بغداد بتلك القصور أمصارَ العالم كله، ولكنهم لم يهتدوا إلى البَنِيّة التي تخمل كل بناء، ولم ينفقوا في تشييد المدرسة بعض ما ينفقون في تشييد القصر من مال وعناية وذوق، إلى أن جاء أحد وزرائهم فسبق للمنقبة التي تغطّي المناقب، وشاد المدرسة النظامية، هنالك علمتْ بغداد أنّ كلّ ما حازَته من جمال كانت تنقصه نقطة الجمال، وأن كل ما وصلتْ إليه من عظمة كان ينقصه سر العظمة، وأن كل ما كتب عنها التاريخ، ودون وصفها الشعرُ خيالٌ أيدته هذه الحقيقة، وأن كلّ ما حوى "الجانبان"(1) بناءٌ تنقصه لبنة التمام.
كانت تلك القصور تزخر بالترف الذي يفضي إلى الرذيلة، وتؤوي في أكنافها أممًا من الجواري والغلمان والفجرة والغدرة، وتخفي في أقبائها الموت والظلم، وتحاك في أرْوقتها المكائدُ والحيل، وتهدر في ساحاتها الأعراض والدماء والفضائل، ويقرّب إليها ناسكوها قرابين المصانعة والنفاق.
أما مدرسة الوزير نظام الملك فقد أصبحتْ تزخر بطلاب العلوم، ويَسطَع في آفاقها من أئمة الإسلام نجوم، ويشع شعاعها فيجاوز النهر إلى خراسان، والبحر إلى الأندلس. ناهيك بابن الصباغ، وأبي حامد الغزالي، وأبي إسحاق الإسفرائيني.
…
تبارك الذي أسند البناء إلى نفسه، فأرشدنا بذلك إلى أنّ البناء من صفات الكمال، ودلنا على أنّ العظيم يبني العظيم، فقال:{وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} وقال: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا، رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا} وقال: {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا} وقال: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا}
…
تبارك الباني، وجل المبنى؛ فهذا الكون كله بناء وتركيب، ونظام وترتيب، وهذه الحياة كلها بناء تحسه الحواس، أو تعقله العقول، أرأيتَ عملَ الإنسان؟ إنه يتكامل حجرًا على حجر في البناء، وحرفًا بعد حرف في الكتابة، وكلمةً بعد كلمة في الحديث، وخيطًا على خيط في النسج، وخطوةً بعد خطوة في المشي؛ أرأيتَ عمله العقلي؟ إنه بناء فكرة على فكرة، وخاطرة على خاطرة، ونتيجة على مقدمات، أرأيتَ صنع الله في العوالم النامية من نبات وحيوان؟ إنها أطوار ودرجات، وأحوال متلاحقة،
1) جانبا بغداد هما العهد والرصافة.
وطبقات مترامية إلى غايات، فلا يزاحم طوْرٌ طورًا، ولا تسبق غايةٌ وسيلتها؛ وكل ذلك بناءٌ بديع، وتركيبٌ معجز.
…
والأمم إنما تتفاضل وتتعالى بالبناء للخير والمنفعة والجمال والقوة، وما عدا هذه الأربعةَ فهو فضولُ عابث، لا يدخل في قصد العقلاء؛ وقد بنى أسلافنا لكل أولئك مجتمعةً ومفترقة، بنوا المساجد مظهرًا للخير، وشادوا المدارس مظهرًا للمنفعة، وأعلوا الحصون مظهرًا للقوّة، وسمَكوا القصور مظهرًا للجمال، فضموا أطراف الفخر، وجمعوا حواشي المجد، وحازوا آفاق الكمال، وقادوا الحياة بزمام، وأنشأوا بذلك كله للحضارة الإنسانية الشاملة نموذجًا من المدينة الفاضلة التي تخيلها حكماءُ اليونان، ولم يحققها ساسة يونان، وإنما حققها من ساد بالعدل، وقاد بالعقل؛ وأولئك آبائي!!
…
...
يُعذَر النائم، ولا يعذَر المستيقظ، والأمة نامت نومًا طويلًا ثقيلًا، فإذا عدَدْنا حركتنا القائمةَ اليومَ يقظةً فغير كثير عليها أن تبني بضع مئات من المدارس في بضع سنين، وغير كثير على المستيقظ أن يشتد عدْوًا للحاق بالسابقين، لأن اليقظة استئناف حياة، والحياة المستأنفة ليستْ وجودًا من عدم، وإنما هي تجديد لما انهدم؛ فلها تكاليفُ ثقيلة، ولها صُعدَاء مطالبها طويلة.
أفاقت الأمة الجزائرية إفاقةً غيرَ منتظمة، لأن الأحداث التي سببتْ لها النوم حقنتها بأنواع شتى من المخدارات، منها ما يفسد الدين، ومنها ما يشكك في اليقين، ومنها ما يزلزل العقل، ومنها ما يشل الإرادة، ومنها ما ينسي الماضي، ومنها ما يغير الاتجاه، ومنها ما يزيغ النظر إلى الخير والشر فيغيرُ مفهومهما، ومنها ما يفسد الفطرة، فلما أفاقت وجدت نفسها على مراحل من ماضيها، وعلى قاب قوسين من الاضمحلال والتلاشي؛ ووجدت من الدين عقائدَ لابسها الضلال في الفهم، والضلال في العمل، ومن المال أرزاقًا مقترةً يبض بها الكد المضني، والعرَق الصبيب، ومن الصناعة صنعةَ الجمل التي لا تفيء عليه إلا النقبَ في الظهر، والوجى في الخفّ، والتحجر في الثفنات، ومن العلم ألفاظًا بلا معان، وقشورًا بلا لباب؛ ومن التاريخ معالمَ طامسة، وظلمات دامسة، ومن قيم الحياة الحظ المغبون، والأجر الممنون، ومن المنازل الإنسانية منزلة المضيعة والهوان.
ووجدت بعد ذلك العذاب الواصب فئةً منها، يلبسون جلدتها، وبتسمون بأسمائها، ويتكلمون بلغتها، يدعونها إلى جهنم!!
…
فمنهم الذي يزين لها الشرّ، ومنهم الذي يقبحُ لها الخير!
…
فيهم من يهدِّئها، وليس فيهم من يهديها! كلهم ينوّمها، وليس فيهم من يقوّمها!
وها هي ذي تعبِّد العقاب (2)، وتمهد الصعاب، وتبني لنفسها، وبيدها، وبمالها، على إلهام الخير من ربها، واستلهام الحق من كتابه وسنة نبيه، هذه المدارس التي تنشر «البصائر» في هذا العدد صورَ بعضها لتنشط العاملين، وتغيظ الخاذلين، وتوسع الأمل في نفوس الآملين.
وهذه المدارس التي أربتْ على المائة بالعشرات كلها من آثار جمعية العلماء ومن ثمرات إرشادها وإعدادها للأمة؛ وستسفر هذه الحركة المباركة- إن شاء الله- في بضع سنين أخرى عن مئات من المدارس؛ لأن هذه الرغبة المتأججة في صدور الصالحين من الأمة لا يطفئها تعنت الظالمين، ولا وسوسةُ الدجالين، ولا كيدُ المفسدين.
وإن من لئيم المكر أنْ يحاول بعض الأشرار، المسخرين من الاستعمار، لحرب هذه الحركة، التسلط على بعض هذه المدارس باسم التعليم وهم لا يحسنونه، وباسم النظام وهم لا يتقنونه، وهم يسرّون في أنفسهم التوصّل بتسييرها إلى تدميرها، وبفتحها إلى إغلاقها، وقد فضح الله كيدهم في واحدة أو اثنتين وضعوا أيديهم عليها فعمروها ولكن بالتخريب، وكانوا في ذلك كمسيلمة الكذاب، تفل في بئر حلوة فأصبح ماؤها أجاجًا!
…
...
أما دعائم هذا البناء التي تمسكه أن يزول، وتصونه أن يختل أو يحول، فهم أشبال الغاب، وحماة الثغور، عمار المدارس، وسقاة المغارس، مربو الجيل وأئمته، أبناؤنا المعلمون المستحقون لأجر الجهاد، وشكر العباد، الصابرون على عنت الزمان، وجحود الإنسان، وكلب السلطان، المقدمون على كثرة الخوّان، وقلة الأعوان، جيش الحق، وحاصة (3) الشق، وألسنة الصدق.
أي طلائعَ الزحوف، وأئمة الصفوف، سلام عليكم بما صبرتم، وتحيات من الله مباركات طيبات بما آويتم لغة الضاد ونصرتم، وثناء عليكم يأرج كالمسك من والد برٍّ بكم، شفيق عليكم، نصحه لكم هدى، وروحه وجوارحه لكم فدى
…
2) العقاب جمع عقبة.
3) جمع حائص، وحاص الثوب خاطه وجمع أطرافه بالخيط.